كتب

تداعيات هيمنة حلم الدولة على تراجع مشروع التحرير في فلسطين

كتاب يدعو إلى مرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني لتحقيق الأهداف المشروعة (مركز الزيتونة)
كتاب يدعو إلى مرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني لتحقيق الأهداف المشروعة (مركز الزيتونة)

الكتاب: "توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي – الإسرائيلي"
المؤلف: الدكتور عزام عبد الستار شعث
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات 2019
الصفحات: 300 صفحة من الحجم الكبير

لا تنفكّ توجّهات النخبة السياسية عن شروط الواقع وتحوّلاته. وقد وقف الباحث في دراسته على مفعول الهزائم والانكسارات الميدانية التي عرفها الإقليم العربي، علاوة على التحوّلات الدولية الضاغطة على الوضع العربي والفلسطيني، وتأثيراتها على خيارات النخبة السياسية الفلسطينية وتوجّهاتها. تجلّى ذلك مثلاً في تداعيات هزيمة حزيران/ يونيو 1967 (ص 40، ص 152) وحرب الخليج 1990 ـ 1991 (ص 158) التي تزامنت مع تفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية التي شكّلت ظهيراً دولياً نسبياً للموقف الفلسطيني، واتضحت التأثيرات الارتدادية لبعض التطوّرات الجسيمة مع منعطف 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتوجّهات إدارة جورج بوش الابن من بعده (ص 163). 

مفعول التحوّلات الضاغطة

كما تلحظ الدراسة، ضمناً، تأثيرات الموقف العربي وتراجعاته المطّردة على خيارات النخبة السياسية الفلسطينية (ص 153). ويُلاحَظ أيضاً تأثير الواقع الميداني الذي اكتنف الثورة الفلسطينية والعمل الفدائي على الخيارات السياسية الفلسطينية، مثل فقدان الفدائيين قواعدهم في الأردن ولبنان وخروج مصر من المواجهة (ص 154)، وتآكل طوق المقاومة المحيط بفلسطين من حالة "الطوق الكامل" إلى "الطوق المنقوض" إلى "الطوق المفقود" (ص 125).

ورصدت الدراسة نشوء مقولة إقامة الدولة الفلسطينية ثم نموّها وتضخّمها التدريجي في الخطاب السياسي الفلسطيني بعد سنة 1967، وتقديم الدولة بالتالي على أولوية التحرير، حتى انتهى الأمر بمقولة الدولة إلى شعار بلا فحوى مؤكدة؛ فقد تكون هذه "دولة" فاقدة للسيادة أو قد تعني في بعض الخيارات حالة مطوّرة عن سلطة الحكم الذاتي مع اشتراط أن تبقى منزوعة السلاح وعاجزة عن حماية شعبها، وهو ما ترصده الدراسة في سياق تناول ملف التسوية (ص 153-156). أمّا في نتائج الدراسة؛ فقد اتّضح أنّ 44 في المائة من العينة المبحوثة يؤيدون إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 في ضوء مشروع الدولتين.

لا تمنح النتائج يقيناً في هذا الشأن إن كان هذا التوجّه يتعلّق بمفهوم الحل المرحلي أو الخيار الدائم، فالنخبة ذاتها لا تؤيد في معظمها الاعتراف بدولة الاحتلال، كما أنّ 60 في المائة لا يؤيدون "الاعتراف بدولة إسرائيل وحقها في الوجود"، و72 في المائة يؤيدون هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني، و86 في المائة يرون أنّ المشروع الوطني الفلسطيني لا يقتصر على الدولة فقط.

 

تواجه الساحة الفلسطينية تعثّراً مزمناً في عملية التسوية السياسية، وانسداداً مديداً في المفاوضات، وتآكلاً جسيماً في فرص قيام دولة فلسطينية بمواصفات الرباعية الدولية ذاتها


عموما؛ تُفصح هذه النتائج عن افتراق بيِّن عن الخطاب الرسمي المعتمد في السلطة الفلسطينية، الذي يحصر "المشروع الوطني" في نطاق ما عُدّ سابقاً حلاّ مرحلياً، وفق "برنامج النقاط العشر" لسنة 1974 (ص 154-155).
 
مأزق أم فشل؟

تكشف نتائج الدراسة في ثناياها عن شعور النخبة السياسية الفلسطينية بمأزق جسيم آلت إليه القضية الفلسطينية، ومن ذلك ما يستنتجه الباحث من أنّ الإجابات "تشير إلى أنّ السلطة الفلسطينية لم تَعُد قادرة، بوضعها الحالي، على تحمُّل مسؤولياتها في سبيل تحصيل التحرّر والاستقلال الوطني جراء الضغوط الواقعة عليها والظروف التي تمرّ بها" (ص 200).

وإذ تواجه الساحة الفلسطينية تعثّراً مزمناً في عملية التسوية السياسية، وانسداداً مديداً في المفاوضات، وتآكلاً جسيماً في فرص قيام دولة فلسطينية بمواصفات الرباعية الدولية ذاتها التي تدنو بكثير عن مواصفات ما عُرف بالمشروع الوطني الفلسطيني أساساً؛ ينقشع الموقف عن سؤال جوهري مستحقّ: هل أخفقت التسوية السياسية أم لم تخفق بعد، أم أنها تعثّرت وحسب؟ 

يجوز الاستنتاج بأنّ الأطراف التي بنت توجّهاتها واستراتيجياتها وحساباتها السياسية على هذه التسوية كخيار أوحد، ومنها أطراف شاركت في صناعة الحالة أساساً، معنية بعدم إشهار انهيارها أو فشلها مع ملاحظة ارتباط مصائر بعض النخبة السياسية بنجاح الخيارات أو فشلها أحياناً، فلم يقع إعلان الفشل بعد حتى مع انهماك إدارة ترمب في إهالة التراب على التسوية ومحاولة فرض مشروع بديل للتصفية لا يستجيب للحدّ الأدنى الذي يمكن لأي من الأطراف الفلسطينية أن تقبل به. إنّ تحاشي إعلان الفشل، قد يكون محاولة متذاكية من المجتمع الدولي، أوروبا مثلاً، لإبقاء الحالة على شعار التسوية الأجوف لانتفاء الوعود البديلة التي يمكن تسويقها للشعب الفلسطيني.

تتجاوز دراسة "توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية" سؤال فشل التسوية من عدمه، فبعض أسئلتها صيغت أساساً بتعبير يستبعد حصول الإخفاق حتى الآن: "في حال فشلت جهود التسوية السياسية.."، وهو مفهوم في ضوء غياب الاعتراف الرسمي من الأطراف ذات الصلة بانهيار التسوية وانسداد مساراتها بإطلاق. ثمة سؤال مشروع، بالتالي، عن إمكانية إعلان الفشل أو المصارحة به حقاً من قبل صانعي الحالة أو مَن ساهموا فيها أو ممّن لا يحتملون تبعات المكاشفة بالإخفاق الذي يتسارع تحت الأسماع والأبصار؛ لانتفاء البدائل المعروضة منهم أو استبعادها مسبقاً في الخطاب الرسمي الفلسطيني تحت وطأة واقع التكبيل الموضوعي القائم بموجب الاتفاقات وما بعدها.

في كل الأحوال؛ لا تبدو الخيارات البديلة عن الأمر الواقع واضحة، فمثلاً يرى 46.8 في المائة من النخبة السياسية الفلسطينية حسب العينة المبحوثة، أنه في حال فشلت جهود التسوية السياسية يجب حلّ السلطة الفلسطينية وتحمُّل منظمة التحرير المسؤولية عنها، بينما يؤيِّد 32.1 في المائة الإعلان عن دولة فلسطينية من جانب واحد، و14.3 في المائة يوافقون على الإبقاء على الوضع الراهن، أي استمرار السلطة والمنظمة، و7.1 في المائة يؤيدون استمرار السلطة الفلسطينية بمهامها حتى اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية كاملة العضوية. (ص 216)
 
أشكال النضال والمقاومة

من النتائج الجوهرية أنّ معظم العيِّنة النخبوية مقتنعة بأنّ "كافة أشكال النضال، وفي مقدمتها الكفاح المسلّح، لا زالت صالحة لنيل الشعب الفلسطيني حقوقه في الحرية والاستقلال الوطني". فقد وافق على هذه المقولة بالكامل 72 في المائة، ووافق عليها إلى حدّ ما 22 في المائة، ولم يوافق عليها 6 في المائة فقط من العيِّنة المبحوثة. لكنّ عموم التأييد لذلك يتبعثر لدى المفاضلة بين "الخيارات الأكثر جدوى لحل الصراع"، فالمقاومة الشعبية حازت 28.2 في المائة، والمقاومة المسلّحة 16.9 في المائة، والمفاوضات 5.6 في المائة، والجمع بين المقاومة المسلحة والمفاوضات 9.2 في المائة، والجمع بين المقاومة الشعبية والمفاوضات لقيت 8.5 في المائة من التأييد، والعمل الدبلوماسي لتطبيق الشرعية الدولية مال إليه 13.4 في المائة، والانضمام للمؤسسات الدولية وتوظيفها لصالح دعم الحقوق الفلسطينية كسبت 18.3 في المائة من العينة. 

 

من النتائج الجوهرية أنّ معظم العيِّنة النخبوية مقتنعة بأنّ "كافة أشكال النضال، وفي مقدمتها الكفاح المسلّح، لا زالت صالحة لنيل الشعب الفلسطيني حقوقه في الحرية والاستقلال الوطني


لا تبدو في الخيارات التي تعرضها الدراسة في هذه النقطة أنّ إمكانية الجمع بين المقاومة المسلّحة والمقاومة الشعبية السلمية قائمة أو واضحة بما يكفي، رغم أنّ الجمع بينها ممكن، وعرفته عملياً تجارب الشعب الفلسطيني في الماضي والحاضر كما بيّنت الدراسة في فصولها، وهو ما يتجلّى أيضاً مع أسلوب "مسيرات العودة الكبرى" التي انطلقت في ربيع 2018، أي بعد الحدّ الزمني للدراسة (حتى 2017)، وهي فعاليات شعبية سلمية أساساً ولم تقضِ بوقف خيار المقاومة المسلّحة في قطاع غزة وإنما تلازمت معه بصفة جديرة بالتأمّل.

عموماً، تشير هذه الملاحظة إلى إشكالية مفهومية عرفتها الساحة الفلسطينية في تناولها للمقاومة الشعبية، وبما يتجاوز الدراسة التي بين أيدينا. وإذ تناولت الدراسة توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية من المقاومة الشعبية، أو المقاومة الشعبية السلمية، وأظهرت تأييداً واضحاً لها؛ فإنّ هذا التأييد لا يمنح تصوّراً كافياً عن طبيعة هذه المقاومة ومداها. 

فهل يقضي هذا المفهوم بالاقتصار على تحرّكات موضعية محددة في بعض قرى الضفة، مثل بلعين ونعلين والمعصرة والنبي صالح؛ أم يتخطّاه إلى استراتيجية وطنية أشمل لمقاومة الاحتلال بأدوات شعبية متعددة؟ ثمّ إنّ إبراز المقاومة الشعبية في خطاب السلطة الفلسطينية وحكومة سلام فياض تحديداً، بدءاً من سنة 2007، قابل لأن يُقرَأ أيضاً ضمن مسوِّغات طيّ صفحة "انتفاضة الأقصى" التي انتهجت خيار المقاومة الشعبية والمسلّحة معاً، وأنّ ذلك ذلك جاء ليمنح الانطباع بتعدّد خيارات القيادة الرسمية مع تعثّر مسار التسوية السياسية، وهو ما تشير إليه الدراسة بشكل ما (ص 115). 

وما يعزِّز هذا الاستنتاج أنّ قرارات التوجّه إلى المقاومة الشعبية (ص 114) لم تتنزّل في الواقع بصفة ملموسة ودؤوبة وجادة، شأن قرارات أخرى نادت بوقف "التنسيق الأمني" مثلاً.

يُلاحظ في هذا السياق أنّ أسئلة الدراسة وضعت العينة المبحوثة إزاء خيارات استبعدت ضمنياً الجمع بين المقاومة المسلّحة والمقاومة الشعبية السلمية، رغم الجمع بين أحد شكليْ المقاومة كل على حدة مع المفاوضات ضمن الأسئلة.
 
عن النخبة السياسية الفلسطينية

رغم أهمية الدراسة واستفاضتها وانضباطها الواضح في أدوات البحث، علاوة على أنها رسالة جامعية محكّمة علمياً، إلاّ أنّ الإشارة واجبة إلى محدودية اشتمال صفة النخبة السياسية الفلسطينية فيها، فقد اقتصرت الدراسة عملياً على قيادات مقيمة في الضفة الغربية وقطاع غزة (بنسبة 96 في المائة) أو 48 من أصل 50 شخصية شكّلت العيِّنة القصدية، فغابت عنها بالتالي قيادات في الخارج الذي يمثل ثلثي الشعب الفلسطيني على الأقل، كما غابت قيادات الحركة الأسيرة ـ وهذا مفهوم لاعتبارات موضوعية ـ وقيادات فلسطينيي الداخل المحتل سنة 1948 بالأحرى. 

 

يخلص الباحث الدكتور عزام عبد الستار شعث، في الكلمات الأخيرة من خاتمة الكتاب، إلى أهمية التأسيس "لمرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني حتى تحقيق الأهداف المشروعة سياسياً وقانونياً


ثمة نقاش مطلوب في هذا الصدد عن جدوى حصر مفهوم النخبة السياسية في الحالة الفلسطينية بقيادات الفصائل والمنظمة والسلطة، تشريعياً وتنفيذياً، دون فئات أخرى حاضرة بأقدار متفاوتة في المشهد السياسي الفلسطيني وحالة النضال الفلسطيني الواسعة؛ التي تتجاوز هذه التصنيفات الضيقة نسبياً، خاصة مع ترهّل المؤسسات الفلسطينية وتقادم الهياكل ذات الطابع التنفيذي وضعف تجدد النخبة القيادية ذاتها والفجوة القائمة بين الأجيال، وهو ما تشير إليه الدراسة أيضاً وتقف على شواهده من واقع العينة المبحوثة (ص 193-194).

تبحث الدراسة توجهات النخبة السياسية الفلسطينية بعد أن تسلِّط الأضواء على هذه النخبة، وتتكشّف في سياقها اختلالات مزمنة عرفها النظام السياسي الفلسطيني بين الأنظمة المقررة والممارسة المتّبعة. من المظاهر الإشكالية، مثلاً، ما يأتي باسم "القيادة الفلسطينية"، التي قد تعني في التداول الإعلامي صفة عامة تشير إلى قيادة السلطة والمنظمة من حول الرئيس، أو قد تكون تلك الهيئة التي اعتمدها الرئيس الراحل ياسر عرفات لتقوم بوظيفة مجلس استشاري وهيئة لإضفاء الشرعية على قرارات الرئيس؛ وتضمّ أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهيئة رئاسة المجلس الوطني، والمجلس الوزاري، وبعض رؤساء الأجهزة الأمنية، وبعض المحافظين، وبعض رؤساء البلديات، ورئاسة المجلس التشريعي، وشخصيات مستقلة من المجلسين التشريعي والمركزي، وعدداً من المستشارين السياسيين وقيادة حركة "فتح"، وعدداً من المستشارين العسكريين (ص 94).

يخلص الباحث الدكتور عزام عبد الستار شعث، في الكلمات الأخيرة من خاتمة الكتاب، إلى أهمية التأسيس "لمرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني حتى تحقيق الأهداف المشروعة سياسياً وقانونياً(...)". 

ويبقى السؤال الشائك الذي يتولّد في الأذهان من روح هذه التوصية؛ عن قدرة النخبة السياسية الفلسطينية المزمنة على الدفع باتجاه هذا المطلب وقيادة مرحلة جديدة بجدارة، وكيف ستبدو سمات النخبة في هذه المرحلة المنشودة، أم سيبقى المهيْمنون على الحالة الراهنة والضالعون بأقدار ما في إنتاج مآزقها، في صدارة مشهدها؛ بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة للشعب الفلسطيني ومستقبل قضيته؟

التعليقات (1)
بقر
الإثنين، 08-04-2019 10:54 م
مؤلف الكتاب عزام عبد الستار يبحث في كتابه عن توجهات التخمة السياسية الفلسطينية، هو يبحث عن توجهات النخبة، وفي دراسته مزج بين النخب والشعب الفلسطيني، ذكر بالمقال، عرفته عمليا تجارب الشعب الفلسطيني، يعني ماذا نفهم، سكر وعربدة النخب هي تجارب جربها الشعب الفلسطيني أم النخب التي جربتها على مقدرات وحقوق الشعب الفلسطيني، تؤلفون كتب لتربية النخب، بالأول تكون ممثلة بالإنتخاب، هذه فوضى وتسيب.