كتاب عربي 21

نحو بناء إيران مختلفة

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600

أظهر النظام الإيراني قدرا واسعا من العقلانية عندما لم يرد على اغتيال الجنرال قاسم سليماني ومن كان معه، ولم يستجب لرغبة الملايين في الثأر السريع والمؤلم للمعتدين. فالشعوب حريصة دائما في أوقات الأزمات على ردود الفعل العاجلة لكي تتخلص من شعورها بالقهر والعجز، لكن سرعان ما تعود هذه الشعوب بعد الانتقام لتشعر بندم عميق؛ عندما تتضح لها نتائج عدم التكافؤ بين الرغبة في الانتقام وبين الضريبة العالية التي ستترتب عن ذلك.

عندما أقدم الرئيس ترامب على تلك الخطوة المفاجئة والعبثية، وفتح الباب على مصراعيه أمام كل الاحتمالات، حبس الجميع أنفاسهم، وتوقعوا أن تشتعل المنطقة. تعددت السيناريوهات السوداء التي تنبأ بها الكثيرون هنا وهناك، وبلغ الأمر بالبعض إلى درجة الحديث عن بداية الحرب العالمية الثالثة. وهو ما عكس درجة القصور الفكري وضعف التحليل السياسي وغياب الاستشراف الواقعي.

تحولت إيران إلى بركان من الغضب، وانقلبت ساحاتها ونخبها ومنابرها إلى وقود مشتعل يكاد ينفجر في كل لحظة. كانت جنازة استثنائية اختلط فيها الحاضر بالماضي والمقدس بالبشري والذاتي بالموضوعي، لكن ما أن تم تجاوز لحظات الألم والانفعال والحقد، حتى هدأت العواطف وفتح المجال للتفكير العميق والتقييم الهادئ للواقع ولموازين القوى. وشعرت القيادة الروحية والسياسية بحجم المسؤولية وتقدير النتائج المتوقعة في حال أن اختارت الدخول في مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.

 

تعددت السيناريوهات السوداء التي تنبأ بها الكثيرون هنا وهناك، وبلغ الأمر بالبعض إلى درجة الحديث عن بداية الحرب العالمية الثالثة. وهو ما عكس درجة القصور الفكري وضعف التحليل السياسي وغياب الاستشراف الواقعي

كانت لحظات عصيبة عندما تحكم المسؤولون في أعصابهم رغم شعورهم بأن إدارة ترامب أرادت إهانتهم من خلال تصفية أحد رجالاتهم، وتحملوا هذه الخسارة الجسيمة التي منيت بها إيران الثورة وإيران الدولة. بعد تحليل للوقائع وأيضا استحضار المآل في حال الاندفاع نحو الحرب المفتوحة، ضغطوا على كبريائهم، وترحموا على موتاهم، واختاروا عن وعي عدم التصعيد الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر.

اكتفوا برد متزن، حيث وجهوا عددا من الصواريخ، وتعمدوا تجنب قتل أي جندي أمريكي. لم يكن هدفهم من وراء ذلك إشعال فتيل الحرب والدخول في مواجهة إقليمية ودولية مع أعدائهم، بقدر ما كانت محاولة من قبلهم لامتصاص شحنة الغضب لدى عموم الإيرانيين. ولهم في ذلك سابقة عندما قبل الخميني إيقاف الحرب مع العراق في عهد الرئيس صدام حسين، وتم تشبيه ذلك القرار بتجرع السم!

قد يرى البعض في الموقف الإيراني (مثل الرئيس الأمريكي) شعورا بالضعف واستسلاما للأمر الواقع، في حين أن الذين يفهمون السياسة ويعتقدون بكونها تقدر بنتائجها ونهاياتها؛ يدركون بأن ما فعله المسؤولون الإيرانيون فيه الكثير من الحكمة، وفيه أيضا مناورة من الحجم الثقيل، فما خفي قد يكون أعظم وأخطر. يكفي أن يستقر هذا الإحساس في عقول الأمريكان بأن إيران سترد بشكل غير مباشر، حتى يتحول ذلك إلى قلق متواصل وبحث مضن لمعرفة طبيعة الرد وتحديد زمانه ومكانه.


الذين يفهمون السياسة ويعتقدون بكونها تقدر بنتائجها ونهاياتها؛ يدركون بأن ما فعله المسؤولون الإيرانيون فيه الكثير من الحكمة، وفيه أيضا مناورة من الحجم الثقيل

إيران في حاجة لوقفة تأمل، إذ منذ الإطاحة بالشاه ونظامه عن طريق ثورة أدهشت العالم؛ والإيرانيون لم يعرفوا الهدوء والاستقرار، ورغم انتقالهم من الثورة إلى الدولة لم يتوقف صراعهم مع الأمريكان، ولم يكسبوا ثقة العالم فيهم. التشكيك في نواياهم تحول إلى قاعدة شبه ثابتة لدى معظم الأطراف، بما في ذلك جزء هام من حلفائهم. كما أن الاقتصاد الإيراني بقي يتنفس بصعوبة، ولولا دهاء بعض السياسيين الإيرانيين وقدرتهم على التفاوض مع الكبار وحصولهم على نتائج هامة، لكانت الأوضاع داخل إيران أكثر صعوبة.

لقد أثبتوا قدرة عجيبة على التحمل والتكيف، ونجحوا إلى حد ما في الاعتماد على أنفسهم طيلة الفترة السابقة، لكن شبابهم وجزءا حيويا من نخبهم لم يعودوا مقتنعين بأن استمرار هذا الواقع يشكل "قدرا محتوما".

الثورة مرحلة وليست نمط حياة دائم، خاصة بعد سلسلة طويلة من الأخطاء والمناورات والإخفاقات والتلاعب بمصالح الشعب، وهو ما أدى إلى تكرار حركات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي التي عرفتها إيران طيلة السنوات العشرين الماضية على الأقل. الشعب يريد أن يتنفس، ويرغب في أن يسلك طريقه نحو مستقبل أفضل بعيدا عن أجواء الحصار الداخلي والخارجي، لكنه في كل مرة يصطدم بعوائق كثيرة، ويشعر بكونه محكوما بحلقة دائرية لا تسمح له بأن يتمتع بكامل حقوقه دون أن يخاف منه الآخرون.

 

الشعب يريد أن يتنفس، ويرغب في أن يسلك طريقه نحو مستقبل أفضل بعيدا عن أجواء الحصار الداخلي والخارجي، لكنه في كل مرة يصطدم بعوائق كثيرة، ويشعر بكونه محكوما بحلقة دائرية لا تسمح له بأن يتمتع بكامل حقوقه

يدرك الغرب عموما أن إيران ليست بلدا هينا وبسيطا، فتاريخ فارس يثبت عمق الدولة وإصرار هذه الأمة على البقاء والمقاومة والرغبة في الغلبة. وما تفعله الإدارة الأمريكية منذ سبعين عاما مع الدولة والشعب في إيران من أجل إخضاع هذا البلد وإجباره على الاستسلام؛ لن يزيد الإيرانيين إلا إصرارا وعنادا. الوحيد الذي حاول أن "يتفهم" الخصوصية الإيرانية، وساعد على التخفيف من سياسات الضغط والابتزاز هو الرئيس أوباما، وكان البعض يعتقد بأن ما أقدم عليه هذا الأخير يمكن أن يشكل بداية لطي الصفحة بين البلدين، لكن للأسف جاء ترامب بعنجهيته المستفزة، ففسخ العقود ونسف التعهدات، وأعاد أجواء الحرب إلى ما كانت عليه.

اشتدت الأزمة، فهل هي مرشحة للانفراج؟ سؤال يصعب الإجابة عنه الآن، لكن المؤكد أن الواقع الإيراني، ومصالح طهران التي حققتها على الأصعدة الإقليمية، واختلال موازين القوى رغم التطور الكبير الذي عرفته الصناعة العسكرية الإيرانية، كل ذلك يدفع في اتجاه التخلي عن فرضية المواجهة المفتوحة. ستكون هناك ضربات من تحت الحزام، لكن الأهم من ذلك هو التفكير بشكل جدي وعميق في تغيير السياسات وتعديل شروط التعامل مع إيران، وشروع الإيرانيين بشجاعة في بناء إيران مختلفة.

التعليقات (2)
امين احمد
الأحد، 12-01-2020 09:26 م
انظر الفرق بين صواريخ إيران على السعودية وعلى السوريين وصواريخها على إسرائيل وامريكا وتقول انها تعمدت عدم قتل امريكي الم ترى أن هذه الضربة تشبه قصف ترامب لمطار شعيرات بسوريا لعقوبته على القصف الكيميائي وقد أعطوا خبر للاسد وكذلك إيران أعطت خبر لأمريكا وموعد الضربة
احمد ماهر
الأحد، 12-01-2020 09:21 م
الم يبدأ حزب الله العراقي بضرب صواريخ على قاعدة أمريكية في العراق وادى لمقتل امريكي وهذا الفصيل موضوع على قائمة الإرهاب فقصفته امريكا متل ما إسرائيل عم تقصف اذناب إيران في سوريا والعراق ولم نسمع لهم حسا فهاجموا السفارة الأمريكية فقتلت أمريكا سليماني وهو أيضا ارهابي مالو متل البغدادي وبن لادن ما الفرق بينهما