كتاب عربي 21

القراصنة!!

طارق أوشن
1300x600
1300x600

في العام 2005، كان العالم على موعد مع بدء أو استئناف عمليات القرصنة بالمياه الإقليمية والدولية المجاورة لسواحل القرن الأفريقي، قبل أن تبلغ ذروتها في العام 2011 وتنحسر بعدها بسنوات نتيجة الحملة الدولية الكبيرة على "القراصنة" الصوماليين، الذين لم يكونوا في البدء إلا مدافعين عن سواحلهم وقوتهم اليومي المعتمد على الصيد المعيشي. البواخر والسفن الأجنبية كانت استباحت مناطق الصيد واستهدفتها بعمليات استنزاف عشوائية أضرت بالمخزون السمكي ودمرت الحياة البحرية هناك. بعدها، تطورت الأمور إلى قرصنة منظمة بالنظر إلى ما كانت تدره من أرباح ما كان ممكنا تجاهلها. كانت خسائر الملاحة الدولية واقتصادات بعض الدول بملايير الدولارات حسب بعض التقديرات، كما شملت عمليات الخطف آلافا من أفراد أطقم السفن وخلفت أقل من مائة قتيل. لم تتوقف نشرات الأخبار عن متابعة العمليات، ولم يتوانى الساسة الغربيون عن التحريض ضد "القراصنة" وضد الصومال كدولة باعتبار الأمر تهديدا للملاحة العالمية وخروجا عن القانون الدولي.


في ذات الفترة، وبالضبط في العام 2004، بدأت قصة الشاب إدوارد جوزيف سنودن في التشكل قبل انتهائها بالشكل الدرامي المعلوم لدى الخاص والعام سنة 2013. يومها قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما في تصريح شهير: "لن نقوم بمهاجمة طائرات للقبض على قرصان بعمر التاسعة والعشرين". لم يفِ أوباما بوعده وتم إنزال طائرة الرئيس البوليفي ايفو موراليس، في الأجواء النمساوية، للاشتباه بوجود سنودن على متنها. ولم تكن العملية إلا قرصنة جوية بحثا عن قرصان إلكتروني. لكن قرصنة دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية لا عقاب يستتبعها.


فيلم سنودن – 2016 للمخرج أوليفر ستون.


في مركز تدريب المخابرات المركزية الأمريكية بفيرجينيا، المدرب كوربين أوبراين يعطي أول حصة يحضرها سنودن.


كوربين أوبراين: الخطوط الأمامية في الحرب العالمية على الإرهاب ليست في العراق أو أفغانستان. إنها هنا في لندن، برلين وإسطنبول. أي خادم إلكتروني، أي اتصال.. ميدان المعركة في كل مكان. هذا يعني أنك لست بحاجة للجلوس في خندق لتأكل وجبتك الجاهزة أو هربا من قذائف الهاون. هذا يعني أنه إن وقعت حادثة مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر فستكون تلك غلطتك. تماما كما كانت آخر حادثة غلطة جيلي. صدقوني.. لن تقدروا بعدها العيش مع هذا العبء.


وفي نفس الحصة، يلوح كوربين أوبراين بجريدة يركز فيها على الخبر الرئيسي: بوش سمح بالتنصت على المكالمات دون إذن قضائي.


كوربين: هل من الدستوري تجاوز المحاكم؟


ريو: لا.. التعديل الرابع يمنع عمليات التفتيش والمصادرة دون أمر قضائي.


كوربين: هذا صحيح تماما يا ريو.. وهذا يعني أن قائدكم الأعلى، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، يخرق القانون. هذا ما تقوله، أليس كذلك يا ريو؟


ريو: حسنا.. أعتقد أن الأمر يعتمد على من تتحدث إليه.


يكتب على السبورة (محكمة مراقبة المخابرات الأجنبية)


كوربين: إننا نحترم التعديل الرابع في هذا البلد. إننا نصدر مذكرات على أساس الشك لكن هذه المذكرات تصدر أحيانا عن محاكم سرية. نحن لا نحذر المشتبه به الذي نتجسس عليه. الإجراءات القضائية السرية تمنح عنصر المفاجأة، ولا تظهر على صحف مثل النيويورك تايمز.


هكذا يتم التطبيع مع مخالفة القوانين الأساسية، والدستور على رأسها، بموجب السرية ومحاربة الإرهاب. كوربين ليس وحيدا في نهجه، فقد سار عليه بعده كثير من الحكام بكل البقاع وفي القلب منها البقعة الجغرافية المسماة بالوطن العربي. ولأن الجهد المبذول من طرف الأنظمة الاستبدادية بالمنطقة، مهما بلغت درجة الصرف عليه واستقطاب "الكفاءات" المنبوذة في أوطانها أو البرامج الخبيثة من الشركات الصهيونية، لا يمكنه بأي حال من الأحوال الوصول لبناء بنية إلكترونية بمستوى البنية الأمريكية، فالاعتماد على أساليب الهواة وعلى العامل البشري، مهما علا شأنه في هرم الدولة، يبقى السبيل الأوحد لتحقيق الاختراق وقرصنة الحسابات والهواتف وغيرها. هكذا سطع نجم "قراصنة" من نوع جديد ما انفكت فضائحهم تحتل صفحات الجرائد ونشرات الأخبار. محمد بن سلمان كان قبل أسبوعين مثار تحقيقات صحفية أظهرت أنه ضالع في المجال معتمدا على علاقات "صداقة" تبدأ بتبادل أرقام هواتف وتنتهي بإرسال برامج خبيثة للسيطرة على هواتف المشاهير، افتتاحا لعمليات ابتزاز أو تتبع تنتهي في بعضها باغتيالات أو تسويات أو فضائح كتلك التي حدثت مع هاتف مالك شركة أمازون وصحيفة الواشنطن بوست. ولأن التوجه العام في المملكة سائر على خطى "القائد" فقد حملت الأخبار والتقارير تورط السعودية في كثير من القضايا لدرجة السماح لمعارض ببريطانيا برفع دعوى في خطوة لا سابق لها أو منح حق اللجوء لآخر بأمريكا.


النفاق الغربي لا حدود له، فالقرصنة الإلكترونية صارت علما يدرس وتجارة لا تبور. وهي إن استثمرت فيها ترغب في حجبها عن الآخرين. الفرق أن الدول الغربية وكثير من الدول الأخرى التي فهمت أهمية القرصنة ومواجهتها، تعمل على تحقيق مصالح دولها من خلال اعتمادها. أما في دولنا العربية فهي إما مجرد لعبة استهلاكية لاستعراض عضلات وهمية أو توجيه مباشر لإيذاء المعارضين، والذريعة دوما وأبدا: محاربة الإرهاب.


يحكي سنودن في فيلم أوليفر ستون عن تجربته في العمل بمقر للسي أي ايه باليابان.


سنودن: لم يكونوا سعداء بمعرفة أننا نرغب في مساعدتهم لنا في التجسس على الشعب الياباني.

 

قالوا إن هذا يخالف قوانينهم. طبعا، تجسسنا على الدولة بأكملها على أية حال. لم نتوقف عند هذا الحد، فعندما امتلكنا نظام اتصالاتهم بدأنا في ملاحقة البنية التحتية المادية. وضعنا برامج التوقف في شبكات الكهرباء والسدود والمستشفيات. في اليوم الذي تكف فيه اليابان في أن تكون حليفا لنا، كانت الفكرة أن تتحول إلى ظلام. لم تكن اليابان وحدها المستهدفة. كان هناك كثير من البرامج الخبيثة في المكسيك وألمانيا والبرازيل والنمسا. أتفهم أن نستهدف الصين أو روسيا أو إيران أو فنزويلا. لكن أي تبرير لاستهداف النمسا؟ كنا نتابع أيضا معظم زعماء العالم وأقطاب الصناعة. نتابع الصفقات التجارية والفضائح الجنسية والبرقيات الديبلوماسية لنمنح الولايات المتحدة السبق في مفاوضات مجموعة الدول الصناعية الثمانية الكبرى أو للضغط على شركات النفط البرازيلية أو المساعدة على الإطاحة برؤساء العالم الثالث المناوئين لأمريكا. في نهاية المطاف، تختفي الحقيقة بغض النظر عن كل ما يبرر لك بيع نفسك. لم يكن الموضوع متعلقا بالإرهاب. الإرهاب مجرد عذر لكن الهدف كان السيطرة الاقتصادية والاجتماعية، وكل ما تقوم أنت بحمايته هو سيادة الحكومة.


عندما تفجرت قضية سنودن وما تلاه من كشف صندوق أسرار مخيف، لم يستطع أي من القادة الغربيين رفع الصوت للاحتجاج على استباحة اتصالاتهم التي كانت مكشوفة للأمريكان، بل إنهم لم يحركوا ساكنا للاحتجاج على التنصت الذي طال ملايين الأشخاص من مواطنيهم. سنودن لم يتحرك بوازع ضمير فهو أحرص ما يكون على مصلحة أمريكا. ما حرك "القرصان"، ذو التاسعة والعشرين عاما، كان حجم التنصت الذي كان موجها ضد مواطنيه الأمريكان. واليوم، تتحرك بعض الأصوات هنا وهناك لأن القرصنة طالت رمزا اقتصاديا غربيا وهو ما يخيف من أن يكون آخرون تحت رحمة البرامج الخبيثة لولي العهد السعودي.


عندما تسبب التنصت على هاتف المعارض السعودي عمر عبد العزيز في اغتيال جمال خاشقجي، كانت المصالح الاقتصادية والأموال المتدفقة من الخزائن السعودية طفيلة بعرقلة أية تحقيقات جدية في القضية تحقق العدالة بعيدا عن بيانات النائب العام السعودي. وعندما تعرضت وكالة الأنباء القطرية للاختراق، لم تستطع القوى "العظمى" منع الحصار عن البلاد أو التنديد به على الأقل. أما بيانات بي أن سبورت فقد "بحّت" وهي تقدم الدليل تلو الآخر وتحصي الخسائر جراء أكبر عملية قرصنة منظمة لبرامجها على الفضاء التلفزيوني. السكوت عن إدانة كل تلك العمليات وغيرها، منح الفاعلين حصانة دولية غير مفهومة ما كانت لتؤدي إلا للتمادي أكثر والتغول في الممارسة وإن طالت "الكبار".


ولأن الزمن صار زمن القراصنة، فقد شهدنا كيف ظهر دونالد ترمب وبجانبه بنيامين نتنياهو وهو يقدمون معالم واحدة من أكبر عمليات القرصنة للتاريخ والجغرافيا والذاكرة الإنسانية جمعاء. بين ثنايا خطابيهما تحولت فلسطين لمجرد أرخبيل تربطه جسور وأنفاق، بمباركة عربية وإسلامية توجها حضور سفراء ثلاثة بلدان، تلتها بيانات مرحبة ولقاءات معلنة في أدغال أفريقيا، وتسريبات مؤكدة جعلت من الاعتراف بالكيان الصهيوني السبيل الأوحد للعودة إلى المنظومة الدولية أو تحقيق السيادة على أراضي متنازع عليها بعيدا عن فلسطين.


القرصنة الأمريكية الواسعة كما كشف عنها سنودن، كانت الطريق الممهد لاغتيالات ومجازر لا يزال بعضها مستمرا حتى اليوم. لكن العقاب لم يطل أحدا فأمريكا ليست طرفا في نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وتبذل قصارى الجهود لعرقلة عملها بل تهديد أفرادها بالعقوبات لمجرد التفكير في فتح تحقيقات عن جرائمها بأفغانستان أو جرائم حليفتها بفلسطين. تصريحات مايك بومبيو بالخصوص منتصف شهر مارس الماضي دليل واضح على التوجه الأمريكي. من دفع الثمن لم يكن غير الصومالي عبد الولي موسى، الذي استعرض فيلم (كابتن فيليب – 2013) للمخرج بول غرينغراس قصته، التي انتهت بسجنه ثلاثين عاما بتهمة القرصنة.


فيلم سنودن – 2016 للمخرج أوليفر ستون.


زملاء في مكتب تابع للمخابرات المركزية الأمريكية بهاواي في سهرة خاصة. يبدأ أحدهم في الحكي..
زميل 1: في فيغاس، كنا نراقب أفغانستان وكنا نعمل لساعات متأخرة حيث ظهر لنا ذلك الهدف غير الواضح يجول في منطقة الهجوم. علمنا جميعنا أنه كان صبيا. تمت إصابته وقضي عليه. طلبنا توضيحات فجاء التقرير مقتضبا: لقد كان كلبا. حسنا.. لا بأس. بنفس القرية بعد يومين أو ثلاثا شاهدنا مراسم جنازة وعلمنا أنها للطفل الذي قاموا بدفنه. الآباء والأمهات كانوا ينتحبون، وجاءنا الأمر واضحا.. اقصفوهم.

 

تمت إصابتهم وتلاشوا في سحابة من غبار.. كبهم.. العائلة بأكملها. الأمر الجنوني أنك تعود إلى المنزل بعد انتهاء المناوبة، تقبل زوجتك وأبناءك وتعود إلى العمل في اليوم التالي. بعدها يصبح كل هذا أمرا روتينيا..


زميل 2: سحقا للأمر. تحكي القصة وكأنها جنحة يا رجل. إنها الحرب.. إنها الوظيفة.


زميل 1: لا أدري يا رجل. ألا يمكن للوظائف أن تصبح جنايات برأيك؟


زميل 2: كلا إن كنت تعمل لصالح الحكومة.


سنودن: أسمعت بمحاكمات نورنبرغ يا (تريف)؟


تريف: نعم. وقد شنقنا الشخصيات النازية المهمة. أليس كذلك؟


سنودن: المحاكمة الأولى كانت للشخصيات المهمة. لكن الثانية كانت للقضاة والمحامين ورجال الشرطة والحرس. الأناس العاديون المؤدون لوظائفهم والتابعون للنظام. من هناك خرجت مبادئ نورنبرغ التي حولتها الأمم المتحدة إلى قانون دولي بعد ذلك تحسبا لتحول الوظائف العادية إلى أفعال جنائية.



0
التعليقات (0)

خبر عاجل