كتاب عربي 21

معركة الذاكرة وأرض الكنانة.. أحداث كاشفة (45)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
تهب علينا نسمات ذكرى ثورة 25 يناير، ممثلة في ذلك اليوم المهم الذي تنحى فيه المخلوع مبارك يوم 11 شباط/ فبراير، وأسدل الستار على شخصه الذي استمر في حكم مصر مستبدا بها طيلة أكثر من ثلاثين عاما.

والذكرى من الذاكرة.. وقد دعيت إلى حدث مهم في هذه الأجواء، وهو أمر يتعلق بإصدار خمسة كتب مترجمة للعربية لأستاذ تركي قدير، وهو ياسين أقطاي، أستاذ الاجتماع. وبدا هذا الحفل كحالة تعارف ثقافي بين الثقافة التركية والمصرية والعربية، خاصة أنه اختص مصر بتأليف خاص جمع فيه المقالات التي كتبها حول ثورة مصر، تحت عنوان شديد الإيحاء بالارتباط بمصر وثورتها (أرض الكنانة: الثورة والثورة المضادة).

وقد كتب بعد المقدمة مقالته الأولى الذي نوه فيها إلى الذكرى السادسة عشرة لتأسيس حزب العدالة والتنمية والتي وافقت الذكرى الرابعة لمجزرة رابعة، ليعبر عن المعنى والمغزى الذي يحمله هذا الكتاب حينما يؤرخ للثورة المصرية والانقلاب عليها في الأعوام الأخيرة، وليؤكد على أهمية معركة الذاكرة، والرصد والتوثيق لأحداث مفصلية مثل الثورة المصرية والانقلاب عليها، في إطار حفظ الذاكرة الحضارية ليس فقط لمصر ولكن للأمة بأسرها.

وجمع بين دفتي هذا الكتاب ما يتعلق بالشأن المصري ويرتبط بثورة يناير المجيدة، على حد تعبيره، ومآلات الانقلاب العسكري الدموي عليها، مستهدفا ربط الأحداث وقراءة الواقع وفهم مجريات الأمور. كما يؤكد على أن التعرف على عالم الأحداث ذلك في تلك الآونة إنما يبصرنا بالدور الذي يجب علينا أن نؤديه لتغيير واقع الأمة في معركة تغيير كبرى لا نفقد فيها الأمل ولا يطوقنا اليأس.

وهو يؤكد بيقين كامل، على حد تعبيره، على  انتصار الحق وزوال الظلم والتعرف على تبين الطريق من بدايته، وتبصر معوقاته ورؤية مسالكه وتعلم قواعد السير فيه. إنها رؤية تتعلق بوظيفة كفاحية للعالم والمفكر والمثقف في أمتنا، حينما يعي دوره التغييري والقدرة على الإسهام فيه ضمن صناعة الأمل وتوطين مسالك العمل.

وفي إطار معركة الذاكرة تلك يشير إلى أن الأمر لا يتعلق بمصادفة قدرية في أن يكون تاريخ ذكرى مجزرة رابعة في مصر مماثل لذكرى تأسيس حزب العدالة والتنمية في تركيا، إلا أنه أشار رغم ذلك إلى أن ذلك توافق قيم، مؤكدا أن شهداء الحرية والكرامة والعدالة الذين حلموا بالعيش في مجتمع عادل وفاضل إنما يشكلون ربطا بين مناسبتين، ليذكر أن طريق الحرية محفوف بالصعاب ولا بد وأن يقدم شهداء، وأن الذكرى والذاكرة تعبر عن حقوق هؤلاء علينا في تبصر معنى الخبرة والتمسك بالفكرة والاتعاظ من العبرة.

ومن ثم فإنه حينما يوثق عالم أحداث يتعلق بأرض الكنانة يدلي بدلوه ويثبت موقفه ورأيه، فمصر تحضر في وجدانه وهو يعيش في تركيا، واقعها ونهوضها. فهو دائما يستحضر منهاج المقارنة والمقارنة المنهاجية حينما يمر على الانتخابات الرئاسية في مصر في العام 2018، ليؤكد أن الانتخابات ليست أشكالا مزيفة أو عمليات مزورة، ومن ثم كان وصفه لتلك الانتخابات المزعومة مدبجا عنوان مقالته: "الانتخابات في مصر لا تتيح أي خيار للناخبين".

ويواصل نظم حبات عقد مقالاته، فيتحدث عن انتقاد الإخوان بين النقد الزائف المصنوع والنقد الذاتي الواجب والمطلوب، مؤكدا في عبارة ذهبية "أن التجديد والاستماع إلى الشباب وتوجيه النقد الذاتي البناء كلها موضوعات لا بد وأن تكون لها أولويتها على أجندة الإخوان". ويؤكد أن صناعة الحرية لا يكون إلا بطلب من الأحرار متسائلا: "هل يستطيع عبيد السيسي رسم صورة الحرية في أرض الكنانة ؟!.. العبيد لا يصنعون الحرية والمستبد يقتل الحرية والأحرار، والحرية لا يطلبها ولا يصنعها إلا الأحرار لا العبيد". ومن ثم فإنه يؤكد أن "المحرومين من الحرية ليس لديهم مسؤولية أخلاقية، لكن هذا وباليقين مبدأ لا يشمل أولئك الذين تنازلوا عن حريتهم بمحض إرادتهم"، موجها كلماته تلك إلى عبيد السيسي المستبد الفاشي.

نظام السيسي الانقلابي، وبالإضافة إلى مجزرة رابعة، قد ارتكب مجازر عدة سبقتها ولحقتها، ولا يزال يرتكب إعدامات متتالية. ويربط الكتاب بين تلك الإعدامات و"جريمة خاشقجي" الفاضحة التي تمت من النظام السعودي على أرض تركيا. فإذا كان السيسي يعتبر مسؤولا عن هذه الإعدامات التي تشبه المجازر، فإن المسؤول الأول عن هذا الأمر هم من يدعمون نظام السيسي ويمولونه ويشجعونه، مشيرا في ذلك للسعودية التي قتلت أحد مواطنيها، وإلى فرنسا التي هي إحدى دول الاتحاد الأوروبي الداعمة للنظام الانقلابي.

ويؤكد أن شبابا رغم تلك الإعدامات سيعيشون حياة أطول في ذاكرة الناس والتاريخ من حياة جلاديهم. ويشير، وفي عبارة دقيقة، إلى محاولة المستبد أن يخلد نفسه متناسيا أنه ميت لا محالة، لافتا إلى محاولة السيسي أن يكون الحاكم الأبدي لمصر. وهو يشير إلى تلك التعديلات "التعديات الدستورية" التي اصطنعها السيسي لنفسه في محاولة منه أن يطيل عمر استبداده.

ويلفت الكاتب في نهاية مقالاته إلى أن "السيسي يعد مشكلة أمنية خطيرة تهدد مصر"، ويؤكد أن الثورة ونسماتها ستستمر؛ ذلك أن استمرار الربيع العربي سيكون من حيث توقف، ليعبر عن استمرار الحالة الثورية وأمل التغير الكبير. إنها مسؤولية العالم في وظيفته الكفاحية في صناعة الأمل والتبشير به، والعمل للتغيير المصاحب له.

الأمر أبعد من أن يعد ذلك تأريخا لبعض أحداث الثورة المصرية، بل هو خوض أول المعارك وأشدها خطورة ألا وهي "معركة الذاكرة". فحينما تستهدف الذاكرة من أطراف عدة ويحاول كل منها أن يقوم بكل أمر يتعلق بمحاولة حثيثة لمحوها وطمسها أو تزييفها وتشويهها، فإن هذا الكتاب يعد جزءا من حماية الذاكرة، خاصة حينما نشاهد كل تلك المحاولات بعد الحقبة الانقلابية التي شكلت في حقيقة الأمر رأس حربة للثورة المضادة، فجعلت السرديات حول الثورة نهباً من أطراف كثيرة ذات مصلحة مباشرة في طمس الذاكرة.

أراد هؤلاء أن يقوموا من كل طريق باغتيال الذاكرة، فنحن في الحقيقة في قلب معركة الذاكرة وعلينا أن نشهد عمليات خطيرة بدأت تنال من تلك الذاكرة ضمن أخطر عملية تزوير وتغرير. ذلك أن هؤلاء الذين يقومون على الصحف القومية على سبيل المثال قد مسحوا ومحوا كل ما يتعلق بروايات الثورة أو أخبارها أو حتى مقالات الرأي فيها، عن عمد وسبق للإصرار والترصد، وكأن هؤلاء أرادوا أن يسقطوا هذه الأيام المهمة في تاريخ الثورة المصرية من مسار الأحداث ومن مسيرة التاريخ.

ومن ثم يشكل هذا الكتاب بحق عملية حماية وإنقاذ لذاكرة الثورة "ثورة يناير" والانقلاب عليها، باعتبار أن هذا الحدث "الثورة" مما يجب أن نذود عنه ونناضل عن حياضه، مستشرفين تغييرا حقيقيا في معادلات الاستبداد بلوغاً لحالة ديمقراطية ورفع أعلام التحرير والحرية.

ومن هنا يبدو لنا أن ذلك التوثيق هو أخطر ميدان في معركة الذاكرة تسرد أحداث الثورة والثورة المضادة، وكأنك تشاهدها فتقف عند الفاعلين فيها، ليدعموا المعلومة بالتوثيق والتوثيق بالشهادة.. عمليات بعضها من بعض تعني ضمن ما تعني أن للذاكرة مبنى، وأن لها معنى وتملك بالضرورة مغزى.
التعليقات (0)