أخبار ثقافية

الموازنة بين كافور وخصومه

المتنبي
المتنبي

لقد كان المتنبي، منذ مطلع شبابه،  شاعرًا عروبيًا معتزًا بعروبته في زمن لم يعد فيه للعرب شوكة ولا ملك، فنجده بعد خروجه من السجن "يصف في شعره ما وصلت إليه الأمة العربية، إذ ملكتها الموالي من الترك والديلم وغيرهم ممن كانوا أول أمرهم بمنزلة العبيد"(1) حسب وجهة نظره. لذلك عزفَ عن مدح العباسيين وغيرهم من كبار العراقيين وأبنائهم  بسبب ضعفهم وخضوعهم للعجم، بينما أسرف في مدح بني حمدان –الدولة العربية الوحيدة في المنطقة-  مع أن شوكتهم لم تكن قد قويت بعد، وذلك دلالة على أن دوافع الشعر عند المتنبي لم تكن قائمة على العطاء والطمع وحدهما، بل هناك أسباب أخرى تتعلّق بالتعصب للعرب(2)؛ فقد سيطرت على الشاعر –كما يرى بلاشير- فكرة تفوّق العرب على بقية البشر(3) ، وقد حاول الإخلاص لهذه الفكرة وتبني المشروع الذي ينادي بها. وهذه النزعة  واضحة في شعر المتنبي؛ يقول في مدح علي التنوخي محرضًا العرب:

وإنما الناسُ بالملوك، وما  /  تُفلحُ عربٌ ملوكها عجمُ
بكلِ أرضٍ وطئتها أممٌ  /  تُرْعى بعبدٍ كأنها غنمُ(4)

وقد وجد المتنبي في سيف الدولة هذا النموذج العربي الذي ينشده؛ فسيف الدولة على الرغم من تشيعه وقف موقفًا عدائيًا في وجه الفاطميين(الشيعة) والأتراك (السنّة) على حد سواء، بسبب  عجمتهم وانتصاره لعودة المشروع العربي إلى سدة الحكم، ونجد سيف الدولة العلوي المذهب مناصرًا للعباسيين(5).  وفي حين كان المتنبي يحلم برد الحكم إلى العرب فقد وجد في سيف الدولة النموذج الذي يحقق حلمه(6) ، لذلك فقد "وجّه كل ما كان في قلبه من القوة التي دفعته إلى مدح نفسه وذكرها والإفصاح عن آرائها وآمالها، إلى مدح هذا الرجل (سيف الدولة)، ووصفه ووصف حروبه وغزواته"(7).

وإن كان موضوع مقالتنا كافور الإخشيدي فإن استحضار صورة سيف الدولة هنا، هو لأغراض المقارنة؛ إذ إن المصادر الأدبية تضع كل منهما على طرفي نقيض: سيف الدولة الأمير العربي حامي الثغور من الروم مثالُ الفارس الكريم في مقابل كافور العبد الخصي النذل الذي غدر بسيده واستولى على الحكم. وفي حين يمدح المتنبي سيف الدولة راغبًا محبا فإنه يمدح كافورًا مكرها طامعًا(8).  وصورة كافور واضحة في هجاء المتنبي له، وهي صورة العبد الأسود الخائن الغادر:

أكلما اغتالَ عبدُ السوءِ سيّدَهُ / أو خانه فله في مصرَ تمهيدُ
صار الخصي إمام الآبقينَ بها / فالحرُ مستعبدٌ والعبدُ معبودُ(9)


 وفي قوله:


أُريكَ الرضى لو أخفتْ النفسُ خافيا / وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
أمينًا وإخلافًا وغدرًا وخِسةً  / وجُبنًا، أشخصًا لحتَ لي أم مخازيا(10)

فقد اجتمعت في كافور كل العيوب والمخازي والأخلاق السيئة. وقد أرّخت كتب الأدب وشروح أشعار المتنبي لهذا الأسود وأفعاله حتى تشكلت من هذه الأخبار التي تضمنتها الشروح رواية نثرية شبه تاريخية مستقلة بذاتها(11). فنجد هذه القصة مكتملة الذروة عند أبي العلاء المعري في كتابه "معجز أحمد"، يقول:
"وكافور هذا عبد أسود خصي لابي مثقوب الشفة السفلى بطين، قبيح القدمين ثقيل اليدين، لا فرق بينه وبين الأَمة، وقد سُئل عنه بعض بني هلال بالصعيد، فقال: رأيت أَمة سوداء تأمر وتنهى... وولي كافور هذا أمر بني طغج عليهم، وملك ما كان في أيديهم، واستملك العبيد، وأفسدهم على ساداتهم"(12). وقد كان كافور في صباه عبدا عند بني عيّاش يحمل لهم الأغراض من السوق على رأسه، ويساعد الطبّاخ، وإذا أراد صاحبه أن ينام ربطه بالحبل فإذا احتاجه شد الحبل فينتبه بعد سقوطه لأنه بليد ثقيل الهمة لا ينتبه بالصياح(13)، وفي ذلك إشارة إلى غبائه.

ويكمل المعري: "فدخل إلى دار ابن طغج الإخشيدي والناس يمدون أيديهم إلى رأسه! يصفونه بصلابة القفا، فكان الغلمان كلما صفعوه ضحك! فقالوا: هذا الأسود خفيف الروح،  وكلموا صاحبه في بيعه، فوهبه لهم، فأقاموه  على الوضوء  والخلاء"(14). ثم سيترقى في خدمة ابن طغج الإخشيد ليعتقه ويدخله في قيادة الجيش –وهي المعلومة التي أسقطها المعري- إلى أن يأتي اليوم الذي مات فيه الإخشيد "بدمشق وولده صغير، والأسود يخدمه، فأخذ البيعة على الناس عند موته، والناس يظنون أنه قد أمره بأخذها، وسار غلمانه في الوقت إلى مصر، فاقتسموا الضياع، وكانوا ضعفاء فقراء، فاشتغلوا بما في أيديهم لا يصدقون أنه يبقى لهم"(15). ويذكر المعرّي أن والدة الغلام ساندت كافورًا ويعلل ذلك: "وهي أَمة، لأنه عبد"(16)، حتى غلب على المُلك وصار الآمر الناهي الوصي على العرش، ومن ثم قام بقتل الوريث الشرعي عبر دس السم له، وصارت له اليد الطولى يبطش بمن يشاء، ومن صفاته التي عرف بها الكذب وعدم الوفاء بالوعد، كما أنه يستولي على أموال الآخرين بالباطل(17).

وعلى العكس من الصورة الأدبية، تبدو صورة كافور في كتب التاريخ مشرقةً؛ فنجد أن الإخشيد قد اشترى كافورًا الصبي إعجابًا بذكائه ونباهته وإخلاصه. كما أن المصادر تشير إلى أن ثقافة كافور واسعة فقد عيّن له الإخشيد أساتذة تلقى العلم والأدب على أيديهم، ثم أعتقه وجعل منه ضابطًا في الجيش بل وضعه على رأس جيش سيهزم سيف الدولة، وبعد وفاة الإخشيد أصبح وصيًا على الإمارة(18). وكان كافور على حد تعبير بلاشير "حاميًا لائقًا للآداب والفنون" (19)؛ فقد كانت الفسطاط مركزا ثقافيا تعقد فيه حلقات أدبية أهمها حلقة كافور(20). وترى سوزان ستيتكيفتش أنّ كافورًا اشتهر بالحزم والعقل وحسن التدبير، كما أنّ المصادر التاريخية العربية تشير "إلى أنه كان شجاعا مقداما جوادا يُفضّل على الفحول"(21). وتقدم هذه المصادر "لنا كافورا بوصفه إنسانا موهوبا ومتميزا في مجالات الحرب والسياسة والإدارة"(22).
وإذا كانت الكفة راجحة لصالح سيف الدولة في المصادر الأدبية، فإنها ترجح لصالح كافور في المصادر التاريخية، بل إن كافورا يظهر بمظهر العادل في كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير في مقابل مظهر الجور والظلم الذي يتمثله سيف الدولة؛ ويحدثنا ابن الأثير عن دخول سيف الدولة إلى دمشق ولجوء أهلها إلى كافور رفعا للظلم:

"فقصد سيف الدولة دمشق، فملكها وأقام بها، فاتفق أنه كان يسير هو والشريف العقيلي بنواحي دمشق، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد؛ فقال العقيلي: هي لأقوام كثيرة؛ فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانينُ السلطانية لينبرون منها، فأعلم العقيلي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافورا يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة ست وثلاثين وثلاثمئة، وكان أنوجور مع كافور، فتبعوا سيف الدولة إلى حلب، فخافهم فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثم استقر الأمر بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر وعاد سيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور في دمشق يسيرا ووليَ عليها بدر الإخشيدي"(23).

وهنا نجد كافورا منتصرًا على سيف الدولة، بل إنه يلاحق سيف الدولة إلى حلب، ويهرب الأخير منه ويلجأ إلى الصلح معه. وتشير هذه الحادثة –وحادثة أخرى سنشير إليها بعد قليل-  إلى الفرق بين طبيعة الدولتين الإخشيدية والحمدانية؛ فالدولة الحمدانية دولة قلقة فيها حرب وحركة وعدم استقرار (عدم سيطرة على البدو من جانب وحرب مع الروم من جانب آخر) –وهذا سبب إعجاب المتنبي بها بطبعه البدوي- أما دولة كافور فهي دولة مستقرة آمنة والقبائل البدوية خاضعة بشكل كامل. وفيها حضارة وضبط إداري وملك كافور أوسع وأثرى من ملك بني حمدان وحياة المتنبي عند كافور حياة دعة وسكون خالية من الحركة والنشاط، الأمر الذي أوحش شاعرنا(24).

ويرجّح محمود شاكر أنه لم تكن تخفى على كافور سخرية المتنبي منه في ثنايا القصائد التي مدحه بها؛ وذلك لما عُرف عن كافور من فطنة وذكاء ومعرفة بأمور الأدب فقد كان بحسب وصف محمود شاكر من علماء عصره وأدبائهم (25)، وهذه إشارة واضحة تشهد لصالح كافور وأنه لم يكن الشخص الأحيمق الذي وصفه المتنبي في شعره.

وإن كنّا في المقابل لا نستهين بشخصية سيف الدولة الذي قاتل الروم وحمى حدود المسلمين وحاول إشعال جذوة العروبة برد الحكم إلى العرب، فإنه لا بد من الإشارة إلى أنّ هذا المشروع كان يسير في طريقه إلى الفشل. كما أن سيف الدولة في مقارنته مع كافور يظهر أمامنا بمظهر زعيم قبلي أمام ملك يمارس سلطاته في ظل دولة حضارية، إضافة إلى أنّ أنصاره –على ما يبدو- لم يستطيعوا أن يستوعبوا مشروعه جيدًا. هذا ما نستنتجه من حادثة دخول "دمستق الروم" إلى حلب واستباحته لها تسعة أيام؛ نهب أموالها وقتل أهلها وسبى بضعة عشر ألف صبي وصبية. إذ نجد سيف الدولة يهرب، خلال هذه الفترة، تاركًا عاصمة دولته لأهل حلب يدافعون عنها، وبالفعل استطاع أهل حلب حماية أسوارها ورد الغزاة لولا قيام رجال الشرطة –شرطة سيف الدولة- بالسطو على البيوت والمتاجر ونهبها، فانشغل الناس عن الأسوار بحماية بيوتهم وأموالهم وأعراضهم، فدخلها الدمستق واستباحها (26).

 


الهوامش: (1)-   محمود  شاكر، المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة: مطبعة المدني، 1987م، ص249. /(2) - انظر: المرجع نفسه، ص217-218./ (3)- ريجيس بلاشير، أبوالطيب المتنبي: دراسة في التاريخ الأدبي،  ترجمة: إبراهيم الكيلاني، دمشق: دار الفكر، ط2، 1985م، ص52./ (4)- المتنبي، الديوان./ (5)- انظر: محمود  شاكر، المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص223، ص328./ (6)- المرجع نفسه، ص326. / (7)- المرجع نفسه، ص326./ (8)- سوزان بينكي ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب: التفسير الطقوسي لقصيدة المدح في الشعر العربي القديم، ترجمة وتقديم: حسن البنا عزالدين، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص136-137./ (9)- الديوان: ص507. / (10)- المصدر نفسه، ص500. (11)- سوزان بينكي ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب، ص164. (12)- المعري، معجز أحمد، نقلا عن: سوزان بينكي ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب، ص164. / (13)- المرجع نفسه، ص164. / (14)- المرجع نفسه، ص164. (15)- المرجع نفسه، ص164. / (16)- المرجع نفسه، ص165. / (17)- المرجع نفسه: ص164-165. (18)- ريجيس بلاشير، أبوالطيب المتنبي: دراسة في التاريخ الأدبي، ص 276. / (19)- المرجع نفسه، ص280. / (20)- المرجع نفسه، ص280. / (21)- سوزان بينكي ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب، ص 136. / (22)- المرجع نفسه، ص163. / (23)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت: دار صادر، ودار بيروت، مج8، 1966م، ص457-458. / (24)- طه حسين، مع المتنبي، عمان: وزارة الثقافة، منشورات مكتبة الأسرة 2014م، ص279-281. / (25)- انظر: محمود  شاكر، المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص364. / (26)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ص540-541.

1
التعليقات (1)
morad alamdar
الأربعاء، 11-03-2020 06:31 م
هذا هو الإنسان من خلال كتابة الإنسان و هو في حاجاته العضوية محتاج للطعام و الشراب و من ثمة الإحساس بالجوع و العطش و الشبع و الارتواء .. و هو ذو غرائز كيفما تنوعت لا يمكن أن تزيغ عن ثلاثة أنماط ، لكل نمط منها مظاهره . غريزة النوع و تتمظهر بالحنان و العطف و السلوك الاجتماعي و الميل الجنسي ... غريزة التدين و تتجلى في التقديس و الخشوع و الإيمان و التقرب إلى قوة غيبية أو معلومة . غريزة حب البقاء و تقترن بحب التملك و السيطرة و الحرص و البقاء و الطمع و الوحشية ... هذا هو الإنسان الذي يحوي كل المتناقضات بها يحيا و بها يبرر الخير و الشر و الحب و الكراهية و السلم و الحرب . و لكن أسمى ما يبقى في الإنسان هو إنسانيته فكما يقول أبو حيان التوحيدي : الإنسانية أفق و الإنسان متحرك إلى أفقه بالطبع و دائر على مركزه ، إلا أنه مرموق بطبيعته ، ملحوظ بأخلاق بهيمية . و من رفع عصاه عن نفسه و ألقى حبله ، و سيب هواه في مرعاه . و لم يضبط نفسه عما تدعو إليه بطبعه ، و كان لين العريكة لاتباع الشهوات الردئة . فقد خرج عن أفقه و صار إلى أرذل من البهيمة لسوء إيثاره .