كتاب عربي 21

لا يزال كورونا يلقي دروسه علينا.. أحداث كاشفة (51)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
كنا قد أشرنا في المقال السابق إلى بعض الأمور التي تتعلق بتهميش سلطة المستبد من خلال هذا الفيروس الدقيق الذي يدخل على الجميع من غير استئذان، وقد أدخلهم في عزلة إجبارية، ولم أتوقع أن تكون لذلك آثار مباشرة في الحالة المصرية حينما تسبب اجتماع قادة العسكر في موت اثنين منهما، وفق ما تأكد من معلومات معلنة من مصادر رسمية، مع وجود مؤشرات بأن بقية قد تأتي.

وبغض النظر عن كل ذلك، فإن هذا السيناريو الذي يتعلق بقادة العسكر الذين تمددوا في كل مكان وسيطروا على معظم مقدرات الاقتصاد ومفاصله في ظل عملية عسكرة وسيطرة، لم يكن يُتصور، وأن يقع هؤلاء في قبضة كورونا فينهي حياة بعضهم ويُلزم البعض الآخر بيوتهم، ويتملك معظمهم القلق والخوف.

إن كورونا يعلمنا درس السلطة وإعادة النظر فيه، فالسلطة الطاغية يمكن أن تصيبها أو تنال منها أمور غير متوقعة، تهمش هذه السلطة وقدرتها على استمرارية الهيمنة والسيطرة. فمن كان من الممكن أن يتخيل ذلك السناريو الذي يضع هؤلاء تحت رحمة "فيروس كورونا"؟! وهل يمكن أن يعيد هؤلاء حساباتهم ولا يمارسون كل علامات طغيانهم على شعوبهم ومجالات اقتصادها وعيشها؟

سؤال خطير حول عنوان السلطة الطاغية التي تملك القوات الباطشة، والذي تحول إلى عنوان حول افتراس فيروس صغير دخل اجتماعا موسعا لقادة العسكر مع رئيسهم، وتمكن من بعضهم وأفزع البعض الآخر.. مسألة لم تكن في الحسبان، وتعبر كيف أن السلطة في عملية طغيانها يمكن أن تنال منها أمور غير محسوبة، فتقوض بعضا من أركانها وتهدم بعضا من تصوراتها حول مزيد من القوة ومساحات الطغيان. إن الأمر ببساطة شديدة يجعل من هذه السلطة الطاغية حالة تصورية واهية رغم ممارساتها الغاشمة، ويصدق عليها شطر بيت كتبه أحد الشعراء (تميم البرغوثي) "السلطان ليس إلا في خيالك"، وأن قواعد السلطان الطاغي والباطشة أوهن من بيت عنكبوت وأضعف أمام فيروس صغير تسلل إليهم وإلى حيث أرادوا أن يظهروا باجتماعهم تماسكهم وهيبتهم، فإذا بذلك ينقلب إلى هذا القلق الشديد والفزع الخطير "ضعف الطالب والمطلوب". إنها رؤية كورونا في تهميش السلطة، "السلطان ليس إلا في خيالك"، ويمكن أن ينال منه ما لا يأتي على بالك أو يطوف بخيالك.

ومن عجيب ذلك أن يحاول هؤلاء، وفق قواعد التَمَجُد على حد تعبير الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، أن يجدوا في موتهم مجالا للتمجد الزائف لا المجد الحقيقي الأصيل، مظهرا إياهم في شكل من أسماهم بشهداء الواجب، في محاولة منهم لإعطاء رمزية وانتزاع فضل في موتهم، وهو في حقيقة الأمر لم يكن إلا تعبيرا عن حكايات تأتي من هنا وهناك تتحدث عن قيادات عسكرية وعاصمة إدارية قالوا عنها أنها المحصنة. بل وقد حدث في يوم أمطار مغرقة من جراء ضعف البنية التحتية ومات فيها قرابة العشرين؛ أن تفتق ذهن أحدهم في استغلال الموقف ليقدم إعلانا عن عاصمة إدارية ذات بنية تحتية قوية، مناديا على أصحاب المال أن يهرولوا إليها؛ غير فطِن بأنه يشير إلى فشله الحقيقي في تأسيس بنية تحتية لعموم المواطنين في مناطق معاشهم الاعتيادية..

أرأيتم أولئك المُتَمَجدُون حينما يحاولون أن يحصّلوا نجاحا من بطن فشل، واقتناص شهادة واجب من بطن موت كانوا هم فيه أحرص على حياة؟ إذا أردت أن تشرّح حالة السلطة وطغيانها فليكن هذا الأمر الذي تمكن فيه الفيروس متسللا إلى اجتماع لم يؤذن له بدخوله، ولكنه تسلل من غير استئذان ولم يره أو يلحظه أحد. لقد كان هذا التعبير القرآني أفضل ما يكون ليعبر عن هذا الفيروس الصغير الخطير الذي يتمكن من عسكري ولواء كبير، وبعاصمته الإدارية وأسوارها العالية وحصونها المنيعة وبنيتها التحتية المتينة، ليكون هذا غير "مانعتهم حصونهم" وفي رد مفحم "أيحسب أن لن يقدر عليه أحد"، ولم يكن "أحد" هذا إلا أمرا مجهلا نكرة من غير تعريف.

إذا كان هذا هو درس الداخل؛ فماذا عن درس الخارج؟ لمظاهر حضارية طاغية وحضارة غالبة عاتية، وجدت نفسها في أمر خطر وفي حال من عموم ضرر، تتخذ من كل ما اعتقدت به أيديولوجيا وما تملكها من أفكار لتفعل عكسه مجبرة ومكرهة.. تبدو هكذا في أحوال عزلة إجبارية، وبدا الجميع يعتادون العيش ضمن حضارة لم تعرف إلا معنى الاستئثار والاحتكار، وتمارس كل أنواع الاستخفاف بإنسان ضعيف في مناطق شتى فيقتل أعدادا بلا إحصاء وبلا ثمن، ومن المؤسف حقا بلا اهتمام. هذا المعنى الذي بدا مسكونا بعنصرية النظرة للإنسان، فهذا يُقتل بلا حساب وهذا يَقتل بلا حساب، ولا تكترث الدنيا إلا ببعض أشكال من ادعاءات إنسانية تغلف غطرسة وعنصرية كامنة في ذلك النظر الطاغي للحضارة الغالبة. لا يعلم هؤلاء أن الإنسانية واحدة وأنه "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".

إنه درس "كورونا" للدنيا وللعالم وقد تغافلوا عنه، فكل الناس تحت الاستهداف، و"سفينة الأرض" واحدة والمصير البشري واحد والناس كلهم سواسية. فهل تتعلم السلطة الطاغية والحضارة الغالبة العاتية والعنصرية الإنسانية الكامنة؛ درس كورونا الرهيب الذي يعطي المعنى والمغزى لحياة الإنسانية وعلاقاتها لعمران الإنسانية واستخلافها، وينبه لخطر الاستئثار والاحتكار وخراب الدنيا في عمرانها. إن هذا الدرس الإنساني العتيد والأكيد؛ درس في معنى أَنسَنَة السياسة وأخلاقية العلاقات في تأسيسها وإدارة شأن المعمورة، ضمن تصور المصير الواحد والمشترك لسفينة الأرض في المعترك.

لا شك أن الأمر الذي يتعلق بتشريح حال السلطة وعلاقاتها الداخلية متمثلة في حكم العسكر واستبداد الطاغية، وتشريح حال النظام الدولي الذي تحكمه الحضارة الغالبة العاتية، إنما يشكل درسا في ما يتعلق بكيف يكون الظلم مؤذنا بخراب العمران، وكيف يكون الطغيان مقوضا لأركان البنيان والكيان، وكيف تكون انتهاك حرمة إنسان هي البداية الكبرى لفناء الإنسان.. إنها المعاني التي تجعل من قيمة السياسة في قيمها وأخلاقياتها وأنسنة السياسة في فن إبقائها على الجنس البشري عمرانا واستخلافا، لا استئثارا وتخريبا واحتكارا.

ولكن في المقابل، يبدو الأمر في عمارة الإنسان وأنسنة العمران وتهيئة الدنيا والمعمورة لمثل هذه العلاقات التعارفية الفاعلة والسياسات الراشدة العادلة. لا يقتصر ذلك فحسب على العلاقة السياسية الداخلية بل في العلاقات السياسية الدولية، إذ تحرك بذلك كل الإدراكات والطاقات ضمن معادلة العمران والإنسان، لا ذلك الاختلال في بنية المعادلة الذي يقوم على ممارسات الظلم والطغيان.

هل يمكننا أن نتصفح عناصر السلطة والقابلية لها، وإقناع هؤلاء الذين يستهدفون التغيير بأنه مهما كانت السلطة طاغية عاتية فإنها في جوهرها وفي داخلها ضعيفة واهية، ينال منها من لا تتصور له حسابا أو أثرا.. إنها المعادلة التي تؤكد أن للقوة سقفا وللضعف سقوفا، وأن تهميش السلطة في النفوس هو أمر من مقتضيات الرؤية العادلة والفاعلة ضمن عمران جديد.. إنه درس كورونا العتيد إن تبصرناه قد يأتي بعناصر خير في إعادة فهم السلطة وخدمتها لعموم الناس، فلا تستطيل أو تطغى عليهم أو تنال من إنسانيتهم.
التعليقات (0)