كتاب عربي 21

حدود الصراعات الجهادية شمال غرب سوريا

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600

بات الخلاف والصدام والقتال بين الجماعات "الجهادية" في سوريا حدثا مألوفا ومتوقعا ومملا، وهي سمة ملازمة للجهادية في كافة الأمكنة منذ نشأتها في العصر الحديث، والأزمنة المعاصرة.

وتاريخ الجماعات الجهادية يحفل بالصراعات والنزاعات والانشقاقات، فطبيعتها المرتكزة على القوة العسكرية وأيديولوجيتها السياسية المتصلبة تجعل منها قنبلة انشطارية موقوتة. وإذا كان فقه الجهاد يتحدد بتحقيق المصلحة، وهي قابلة للتفسير والتأويل، فإن تعدد الجماعات الجهادية ظاهرة لا يمكن حلها إلا بالقوة من خلال إخضاع وقهر وهزيمة الجماعات المنافسة، وهو ما تحاول فعله "هيئة تحرير الشام" في شمال غرب سوريا.

منذ بداية العام الحالي تنامت وتيرة الانشقاقات عن هيئة تحرير الشام، لأسباب وذرائع عديدة، وفي مقدمتها نهج زعيم الهيئة الجولاني وتفرده بالقرارات، ودعاوى حول الفساد المالي والإداري، وسوء الإدارة والحكم، وابتعاده عن المنهج الجهادي.

وقد انتهت الانشقاقات إلى ولادة مجموعات وتشكيلات عدة، اجتمعت مؤخرا في غرفة جديدة بعنوان "فاثبتوا"، وضم التشكيل الجديد خمسة فصائل هي "تنسيقية الجهاد"، و"لواء المقاتلين الأنصار"، وجماعة "أنصار الدين"، وجماعة "أنصار الإسلام"، وتنظيم "حراس الدين".

عقب جولات من المناوشات والقتال والاتفاقات بين غرفة "فاثبتوا" و"الهيئة"، أصدرت "هيئة تحرير الشام" بياناً منعت فيه إنشاء أي تكتل عسكري جديد شمالي البلاد، وقررت إنهاء وجود غرفة عمليات "فاثبتوا". وهدّد بيان الهيئة بمحاسبة المخالفين، وأشار إلى أن من أراد القيام بأي عمل عسكري بإمكانه الانضمام لغرفة عمليات "الفتح المبين" التي أنشأتها "الهيئة".

 

انتهت الانشقاقات إلى ولادة مجموعات وتشكيلات عدة، اجتمعت مؤخرا في غرفة جديدة بعنوان "فاثبتوا"

وكانت ما تسمى بـ"لجنة المتابعة والإشراف العليا" في "هيئة تحرير الشام" قد أصدرت تعميماً، منعت بموجبه كافة أعضاء الفصيل قادة وجنداً من الانشقاق، وشدّدت على ضرورة أخذ الموافقة وإبراء الذمة. كما حظر البيان على المنشقين عنها تشكيل أي تجمع أو فصيل مهما كانت الأسباب، أو الانتماء لأي تشكيل أو فصيل موجود في المنطقة قبل مراجعتها وأخذ الموافقة منها.

تخشى هيئة تحرير الشام أن ترتفع وتيرة الانشقاقات الداخلية، وأن تتعاظم قوة المنشقين عنها، وأن تكتسب الفصائل الجديدة جاذبية مضاعفة. فالمنشقون يتمتعون بشرعية جهادية تاريخية، إذ يتزعم فصيل "تنسيقية الجهاد" القيادي السابق في "هيئة تحرير الشام" أبو العبد أشداء، وكان من القياديين في فصيل "أحرار الشام". وكذلك الأمر مع زعيم فصيل "لواء المقاتلين الأنصار"، جمال زينية، والملقب بأبي مالك التلي، وهو قيادي سابق في "الهيئة".

ويتزعم أبو عبد الله الشامي جماعة "أنصار الدين" التي كانت أعلنت العام الماضي انفصالها عن "الهيئة". ومن المعروف أن تنظيم "حراس الدين" هو نتاج إعلان "الهيئة" فكّ ارتباطها بتنظيم "القاعدة، ويتزعمه مع أبو همام الشامي أو فاروق السوري (سمير حجازي)، القائد العسكري العام السابق لجبهة النصرة. ويعدّ سامي العريدي، من أبرز قيادات الحراس، وقد كان سابقا المسؤول الشرعي لجبهة النصرة.

لا جدال في أن العامل المشترك بين فصائل غرفة "فاثبتوا"، هو رفض التفاهمات التركية الروسية حول محافظة إدلب ومحيطها، التي وقّعت في آذار/ مارس الماضي، لكن خشيتها تستند إلى أن تدخل "هيئة تحرير الشام" في صفقة في إطار استراتيجية إقليمية لترتيب أوضاع إدلب، وهو ما أوضحته بأنّ الغاية من غرفة عمليات "فاثبتوا" هو "استقلال القرار واستمرار الجهاد وعدم الركون للتفاهمات الدولية".

وتبدو فصائل فاثبتوا مرتابة من نهج "الجولاني" الذي يذهب إلى مزيد من البراغماتية والتكيف مع المتغيرات.

إن سلوك "هيئة تحرير الشام" بزعامة الجولاني، شديد الواقعية والبراغماتية، وهو لا ينفك يبحث عن شرعية سياسية تؤهله للعب دور مستقبلي في إدلب. فقد بات يقدم نفسه كشريك موثوق في حرب الإرهاب، والقبول بالتركيبة السياسية المحلية، والالتزام بقواعد اللعبة الإقليمية، وكضامن للاتفاقات الدولية. فقد قام بحماية الدوريات التركية والروسية المشتركة، وعمل على فتح المعابر مع النظام، ويقوم باحتواء أو قتال الجماعات الجهادية.

 

بات يقدم نفسه كشريك موثوق في حرب الإرهاب، والقبول بالتركيبة السياسية المحلية، والالتزام بقواعد اللعبة الإقليمية، وكضامن للاتفاقات الدولية. فقد قام بحماية الدوريات التركية والروسية المشتركة، وعمل على فتح المعابر مع النظام، ويقوم باحتواء أو قتال الجماعات الجهادية

منذ سنوات خلت والجولاني يسعى للتخلص من وصمة الإرهاب بطرائق عديدة. وقد قدم في 20 شباط/ فبراير الماضي مرافعة عريضة يدفع فيها عن نفسه وفصيله تهمة الإرهاب، وأنه "مقاتل في سبيل الحرية"، وذلك في مقابلة مع مجموعة الأزمات الدولية، استعرض فيها جهوده التاريخية في محاربة الإرهاب، ودوره الكبير في ملاحقة "خلايا تنظيم الدولة الإسلامية بشكل منهجي في إدلب"، واحتواء خطر القاعدة، حيث يؤكد على "أننا احتوينا حراس الدين، الذين تربطنا بهم علاقة معقدة. وأخذنا منهم تعهدا ألا يستخدموا سوريا كنقطة انطلاق للجهاد الخارجي، والاعتراف بحكومة الإنقاذ وبمحاكمها، وحتى الآن، التزموا بهذه التعهدات". وأكد على قدرته على ضبط الانحراف، وكبح الأصوات المتشددة داخل هياكل الهيئة، وتحكمه بقرارها، فـ"الجميع يلتزم بقرار القيادة. أما بالنسبة لأولئك الذين لا يفعلون، فيمكنهم بسهولة الافتراق عنا".

تلك هي أوراق اعتماد الجولاني للاستدخال في العملية السياسية واللعبة الإقليمية والمعايير الدولية، وهي ليست مجرد كلمات، بل ممارسات يمكن أن تذهب بعيدا، إذ يعمل الجولاني على التعامل معها كحقيقة، من خلال فرض نفسه كقوة لا يمكن تجاوزها، والبرهنة على قدرة الهيئة على التخلص من الجماعات الجهادية الأخرى التي تشكل عقبة أمام أي حل سياسي.

 

فلا شك في أن الجولاني يتحرك في نطاق التفاهمات التركية الروسية، وفي حدود المتطلبات الأمريكية والدولية، ولذلك فقد نشهد صدامات ومعارك أوسع وأشمل بين هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل الجهادية

خلاصة القول أن الحالة الجهادية تتوافر على مساحة واسعة من الاختلافات، وتسعى هيئة تحرير الشام إلى التأكيد على إمكانية التحاور مع الجماعات الإرهابية، ودفعها إلى مسار الاعتدال، إذا قُدمت صفقة مقبولة.

فلا شك في أن الجولاني يتحرك في نطاق التفاهمات التركية الروسية، وفي حدود المتطلبات الأمريكية والدولية، ولذلك فقد نشهد صدامات ومعارك أوسع وأشمل بين هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل الجهادية، لكن تلك عملية متدرجة مرهونة بالثقة بالضمانات الدولية والإقليمية. فالإشارات لا تزال في حدودها الدنيا، وتتقدم بصورة بطيئة، ولكن الجولاني شديد البراغماتية والواقعية سوف يواصل تقديم القرابين للبرهنة على اعتداله، وسوف يدخل في مواجهة شاملة مع الجماعات الجهادية إذا تلقى ضمانات محلية وإقليمية ودولية بإزالته عن لائحة الإرهاب، والاعتراف بالهيئة كجماعة معارضة سياسية وطنية.

twitter.com/hasanabuhanya

التعليقات (0)