كتاب عربي 21

أحسن العزاء في تسلية أهل البلاء

أحمد عمر
1300x600
1300x600
فلتعلم عزيزي البيروتيّ، أنَّ المقارنة وسيلة قياس، بل إن القياس هو آلة مقارنة، وإن الله نهانا عن التطفيف في الميزان، وأمرنا بإيفاء الكيل. ونحن نقارن حتى نريكم أن مصيبتكم الكبيرة أهون من مصيبتنا، ومصيبتكم مصيبتنا، وقديماً جاء في الأثر:

"انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ". وسترون أن الحال في عواصم الدول العربية الكبرى أسوأ من حالكم، من غير نترات أمونيوم، ومن غير انفجارات.

نعزّيكم أهل بيروت في مصابكم، فهو مصاب العرب جميعاً، وقد كانت بيروت أكرم للعرب من عواصمهم التي لم تعد تعصم من شيء، فالعصمة ليست بيدها، ذلك لأن العرب كانوا يتخاصمون في بيروت، ويطبعون الكتب الممنوعة في بيروت، ويصطافون على سواحل بيروت، وسوى ذلك كانت بيروت ثغر العرب التي تجاهد جهاراً وإسراراً ضد إسرائيل، لذلك وصفها نزار قباني بأنها ستّ الدنيا، فإن لم تكن، فهي ستّ العرب.

قال أحد الصالحين: "إن لله عباداً يستقبلون المصيبة بالبشر"، ألا إن بعض البلايا أهون من بعض، وقد آلمنا تسونامي النار الذي ضرب بيروت، والذي شُبّه بالنووي، وهو تشبيه مناسب في الشكل وليس في الأثر، لأنه يشبه نبتة الفطر النارية. وتجاذب محللون الجدل في أنه تفجير يشبه هيروشيما، وصحّح لهم آخرون بأنه بتشيرنوبل أشبه، وكدنا نختصم مرة ثانية.

ولم يكن لدى لبنان مفاعل نووي تستولد منه الطاقة، أو قنبلة تهدد بها العدو، فالفساد في النووي ليس كالفساد في مياه الصرف الصحي، ولم تخض بيروت الحرب العالمية حتى تُضرب بالنووي كما ضربت هيروشيما وناغازاكي. وتبقى مصيبة أهل بيروت أهون من القاهرة، ومن بغداد، ومن دمشق، ومن الرياض، وهي كبرى العواصم العربية الثكلى من غير نترات أمونيوم، إنها عواصم تغص بالماء.

من غص داوى بشرب الماء غصتَهُ
فكيف يفعل من قد غصّ بالمــــــــــاءِ!

وخرج علينا خبير روسي، وللروس خبراء، يزعم أنَّ النترات سرقت، ولو بقيت على حالها ومقدارها الأول، لمحتْ بيروت عن الخريطة محواً، فقيل: إن الفساد نعمة، ولولا الفساد ما عشنا، فقوانين أغلب البلاد العربية لا تصلح للعيش، ولابد من خرقها أو نخرها بالفساد. أليس أظلم من أن يكون الفساد في بلادنا نعمة مثل المن والسلوى؟

ونخوض نزاعاً حالياً على صفحات التواصل حول الصوامع التي حمت بعض بيروت، وهو خصام الأيتام في البحث عن أب، وقد صار العرب أيتاماً، فأنصار فرنسا يسخرون من نسب الصوامع للعثمانيين، ولا يرون لهم فضيلة أبداً، فكل الفضائل هي لفرنسا التي تأخذ جماجمنا إلى المتاحف، علامة على الحداثة ووفاء لشعارات الثورة الفرنسية!

ألا إن مصيبة المرفأ كبيرة، والمرفأ هو باب بيروت، وبوابتها الكبرى، وإن المصيبة أقل من مصائب مصر، أكبر الدول العربية المبتلاة بنترات السيسيوم، التي جعلت مصر تحت خط الفقر، ومثقلة بالديون، وقد بلغ الدَّين الخارجي ما بلغ، وهي عطشى، ورغيف الخبز فيها لا يشبع، وتلفزيوناتها تشرِّد شعبها عن همه، وتهاجم صحيح البخاري، وتبحث في عذاب القبر، حتى تذهل الشعب عن حاضره، فليس كل الانفجارات ظاهرة، بعضها يحدث بصمت وبطء.

وإن مصيبة السعودية كبيرة أيضاً وأكبر من مصاب بيروت، وهي واحدة من أغنى الدول، ومصابة بمصاب نترات السلمانيوم، ويعلم الجمع ممن ضم مجلسنا تردّي حال الاقتصاد بعد انخفاض سعر النفط، وارتفاع سعر الكلام، وغرامات التغريد، ورفع نسبة الضريبة.

وقد بلغ عدد ضحايا بيروت 175، والخسائر المادية قدرت بخمسة مليارات دولار أو نصفها، أي ما يعادل خمس كنائس مثل نوتردام، التي جمعت خسائرها من التبرعات في أسبوع واحد، بينما لا يمكن تقدير خسائر مصر من رئيسها الذي يحبس شعبها، ويفرط في مستقبلها، ويهدر ماضيها، والتي ستدفعها الأجيال القادمة، أما سوريا، فقد صارت خارج التاريخ إلى حين.

كما أن ضحايا بيروت سيكرّمون ويدفنون في النهار، وربما تُمنح أسماؤهم إلى شوارع وساحات ومكتبات عربية وعالمية، في الوقت الذي قتل فيه الآلاف في سوريا، وفي مصر، وفي بغداد ودفنوا في مقابر مجهولة، بعد اتهامهم بالإرهاب، وتلك نعمة أخرى حرمت منها عواصم العرب الكبرى.

إن المرفأ قد احترق، لكن الشعب اللبناني لا يزال حياً، ينطق ويتظاهر، بل استطاع أن يحتل أربع وزارات، وإن الجيش اللبناني يتورع عن القتل، وإن الدول العربية والعالمية تتعاطف مع بيروت، بل إن تل أبيب نفسها أشعلت لها الشموع نفاقاً، أو خوفاً، أو دفعاً للشبهة. وحال لبنان ليس كحال الشعب المصري الممنوع من الكلام في شأن الماء، وهو أهم شؤونه على الإطلاق، فقد حبا الله مصر برئيس أكرم من حاتم طي، وهو يوزع ثروات مصر الاستراتيجية على الجيران، كأنه في سباق مع الزمن، ويكثر الديون، ويمنع الكلام والنشر في مفاوضات النيل المقدسة التي ستطول، والذي يفتك كورونا بزهرة أطبائه، ونعمة الكلام نعمة أخرى تنعم بها بيروت الجريحة.

إن العواصم العربية الكبرى، تحبس العفاريت، فإما أنها تحبس الشعب، أو تحرمها من مائها ومرعاها، وقد خاب من دساها، فهي عواصم تجلس على قنابل موقوتة، حتى إن عاصمة مثل القاهرة ضاقت بدعاء محمد جبريل في الصلاة قبل سنوات، فنزح، وغضبت من نصيحة لمطربة مثل شيرين حول شرب ماء النيل، فكادت أن تُحبس، بينما تغرد مطربات لبنان في العواصم، فيجمعن التبرعات، ويثنين على المحسنين، ويوشكن أن يقدن لبنان بعد أن مات ساستها سياسياً.

بعض الانفجارات لا يُرى، وهي أسوأ من تشيرنوبل، لكنها تجري بصمت مثل انفجار زجاجة ماء في الثلاجة. قد تفتك نترات الأمونيوم بمرفأ أو مطار، لكن نترات الخوف تفتك بالناس وتجعلهم يشكّون ببعضهم، ويفقدون دينهم وأخلاقهم. والشعوب بأخلاقها، وبحمد الله لا يزال شعب لبنان بطوائفه المختلفة حيا.

وهذا التضامن محرم في عواصم عربية، وربما كان سبب هذه النعمة أن لبنان لم يرَ دكتاتوراً واحداً وحيداً كما في سوريا ومصر والعراق، فهم ثلاثة أو أكثر. ومن النعم التي حُرمت منها العواصم الكبرى الأخرى، نعمة العطف، فبيروت ليست غنية مثل بغداد، ولا يحكمها دكتاتور مثل بشار الأسد في دمشق، أو مثل السيسي في القاهرة، وإن مصيبتها أقرب الى المصيبة الطبيعية، والنازلة، لذلك نعمت بعطف من الدول الصديقة والعدوّة، وإن مصائب العواصم العربية الكبرى أكبر.

وقد جاء في كتاب الطرطوشي "سراج الملوك":

كان بالبصرة بومة، وبالموصل بومة، فخطَبتْ بومةُ الموصل إلى بومة البصرة بنتَها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أزوّجك ابنتي إلا أن تجعلي في صداقها (مهرها) مئة ضَيعةٍ (قرية) خراباً! فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن! ولكن إن دام والِينا - سلّمه الله - علينا سنةً واحدة فعلتُ لكِ ذلك!

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)