مدونات

صناعة الأخبار.. الحرفة التي تركها الصحفيون وامتهنها السياسيون (مصر نموذجا)

حسام الوكيل- صحفي كاتب مصري
حسام الوكيل- صحفي كاتب مصري
كانت وستظل دائما من سمات تميز الصحفي، ألا يتوقف عند نقل الأخبار من مصادرها، ولكن أن يصنع هو الأخبار بذاته، وأن يبحث عن الغامض والملتبس ويعمل على تحليله وتفكيكه، ومن ثم إعادة تقديمه للقارئ في قالب صحفي شيق، يعمل على رفع الوعي العام بالقضايا الأكثر أهمية وشعبية. لذلك نجد دائما أن المؤسسات الصحفية الدولية، تنظم المسابقات وتقدم الجوائز الصحفية على التحقيقات والتقارير التي من شأنها تحسين صناعة الأخبار، بكشف الأحداث والملابسات المسكوت عنها، والبحث حول الأسباب الحقيقية للمشكلات التي تواجهها المجتمعات أو قطاعات منها، وعدم الاكتفاء بالتصريحات الحكومية الرسمية، وإنما البحث في خبايا الأحداث للوقوف على الأسباب الفعلية والتفاصيل الحقيقية للقضايا المثارة، وتقديمها للمجتمع كأخبار وتحقيقات خبرية مصنوعة.

أما الساسة، فكانت مهمتهم الأساسية هي صناعة الأحداث، والتفاعل مع الواقع بهدف إدارته أو تغييره، ليعمل الصحفيون على نقل تلك الأحداث والتفاعلات في صيغة أخبار، والبحث وراءها وتحليلها في مزيد من التغطيات الخبرية.

ولكن في وقتنا الراهن، لم يعد الصحفي يقوم بصناعة الخبر، ولم يعد السياسي يصنع الحدث، فأصبح الساسة الآن في مقاعد المحللين، يبحثون وراء التصريحات الحكومية أو تصريحات المنافسين لهم، ويقدمون أخبارا مصنوعة عبر منصاتهم وصفحاتهم الخاصة لتحقيق أهدافهم السياسية، فأصبح استخدام السياسيين للإعلام وصناعتهم لأخبار تتماشى مع أهدافهم السياسية هي اللعبة الأساسية، والتأثير على وعي القارئ من خلال منصات إعلامية شخصية أو قريبة الصلة بالسياسيين، هو الصناعة الأساسية للسياسيين، فلم يعد هناك تيار سياسي ليست له منصات إعلامية تتحدث باسمه، وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تقدم مواد إعلامية سريعة تخدم أهدافه السياسية.

وبينما اتجه السياسيون إلى العمل الإعلامي كمتنفس بديل في ظل انغلاق الأفق السياسي الحقيقي، وعدم قدرتهم على إحداث أي تغيير للواقع، أو المشاركة الحقيقية في إدارته، واستبدالهم للعمل السياسي بالتفاعل الإعلامي، فقد استجابت العديد من المؤسسات الإعلامية لهذا الواقع، وتنصلت من دورها في صناعة الأخبار، وانسحبت إلى مساحة ضيقة من العمل، وهي نقل الأخبار التي يصنعها الساسة.

فتجد في عشرات القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والصحف أن العناوين الأساسية للأخبار هي نقل تصريحات الساسة، أو نقل اتهامات الساسة للحكومة أو منافسيهم والعكس، وهو ما أدى إلى تحول المعارك السياسية إلى معارك إعلامية، تؤدي فيها وسائل الإعلام دور الناقل والأداة، بينما لا تتكشف حقائق تيار سياسي أو شخصية سياسية أو ممارسات حكومية إلا إذا قام أحد السياسيين بطرح تلك المعلومات إعلاميا وتعمل وسائل الإعلام على نقلها، فتجد دائما الأخبار المنقولة على الشكل التالي: 

الحزب اليساري يتهم الحكومة بكذا، الحكومة تتهم الجماعة الفلانية بكذا، ائتلاف المعارضة بدولة كذا يتهم رئيس الحكومة بكذا.. فيما تفتقر المؤسسات الإعلامية إلى التحقيقات الصحفية والتقارير التي تكشف وقائع الفساد، أو تبحث في تفاصيل لم تكن معروفة عن حدث ما، دون أن تكون بوقا لتيار أو تكتل سياسي ما.

لعل انسداد الأفق السياسي في أغلب بلداننا العربية بعد الارتدادات التي حدثت للربيع العربي تتحمل المسؤولية الأساسية، فلم يعد للساسة أدوات حقيقية للتفاعل مع الواقع وتغيراته إلا بالتصريحات والحملات الإعلامية، التي أصبحت أيضا لا تمر بدون عقاب من الأنظمة المستبدة، كذلك يقين الأنظمة الاستبدادية الراهنة أن الإعلام هو وسيلتها الأساسية لتشويه معارضيها وخصومها، وتزييف وعي الشعوب لتتمكن من السيطرة عليها.

وهو كذلك السبب في حالة التعتيم الكاملة على كل مجريات الأمور داخل دولاب الدولة، والخوف المبالغ فيه من الكافة في التصريح بأي معلومات حول القرارات والإجراءات والقضايا الأهم على الساحة خوفا من البطش الأمني، وهو ما حول وسائل الإعلام إلى بوق إما للنظام أو لمعارضيه.

أؤمن مثل الكثيرين أن العمل الصحفي هو جزء من الحالة السياسية العامة لأي بلد، فكلما زادت مساحة الحرية والعمل السياسي المفتوح، زادت مساحة الحرية الصحفية، وزاد الإبداع في فن صناعة الأخبار ورفع الوعي العام، ولكن تقلصت مساحات الحرية والعمل السياسي، وينسحب ذلك على العمل الصحفي والحريات الإعلامية.

ولكن، إن كان اللوم موجها للساسة بأنهم تركوا مساحة عملهم الأساسية بالتفاعل مع الواقع ومحاولة تغييره واتجهوا للعمل الإعلامي، فكذلك رضوخ الجماعة الصحفية للواقع الذي فرضته الأنظمة الاستبدادية وتماهت معه التكتلات السياسية هو خطأ فادح، فعلينا أن نقوم الآن كجماعة صحفية بدورنا المنوط بنا، فلا يجب أن نستجيب للواقع، وعلينا العمل بشكل مستمر على صناعة أخبارنا الخاصة، وكسر التعتيم المفروض، واستخدام كل والوسائل المتاحة، خاصة مع الطفرة التكنولوجية التي نعيشها في إحداث اختراق للمجال العام، وكشف بواطن الأحداث، وإزالة الستار الذي تفرضه الأنظمة أو حتى الكتل السياسية.

لا ينبغي للجماعة الصحفية أن تنسحق تحت واقع القمع السلطوي من الأنظمة والتماهي السلبي من الساسة، فلدينا رسالة أصيلة نعمل عليها، وهي صناعة الرأي العام، ورفع الوعي الجمعي للقراء، فإن تخلت الجماعة الصحفية عن دورها، فلن يتمكن الساسة من القيام بدورهم في حشد الجماهير على القضايا العادلة والمستحقة.

أعلم يقينا أن مثل هذه المهمة المهنية لها تبعات وتكلفة أمنية عالية، ولكن متى لم تكن الصحافة مهنة المتاعب؟ ومتى كانت صناعة الأخبار مهنة آمنة؟ لقد آمنا بدورنا المحفوف بالمخاطر منذ اللحظة الأولى التي مسكنا فيها القلم لنكتب للقراء، فعلينا أن نكون على قدر هذه الأمانة، ولنعمل سوية على إنشاء مظلة للإعلام العربي عابرة للحدود، تعمل على دعم ما أرى أن نطلق عليه "صناعة الأخبار في الوطن العربي"، وأن تقدم تلك المظلة كل دعم فني وقانوني للصحفيين الذين يؤمنون بدورهم الأصيل في صناعة الأخبار وكشف الأحداث والقضايا أمام الرأي العام.

* صحفي متخصص في شؤون المجتمع المدني
التعليقات (0)