كتب

حقوق الإنسان سلاح للضعفاء.. ولتعزيز الهيمنة أيضا

إن حركة المقاطعة تترجم حقوق الإنسان من أجل الطعن في بنية الهيمنة الحالية (عربي21)
إن حركة المقاطعة تترجم حقوق الإنسان من أجل الطعن في بنية الهيمنة الحالية (عربي21)

الكتاب: "عن حق الإنسان في الهيمنة"
المؤلف: نيكولا بيروجيني و نيف غوردون
الترجمة: محمود محمد الحرثاني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة الساسات- 2018


هل هنالك مفاهيم عالمية موحدة لحقوق الإنسان ولسبل حمايتها؟ هل يمكن أن يتحول شعار حقوق الإنسان إلى مدخل للهيمنة والتسلط؟ هل هنالك حدود فاصلة بين حقوق الإنسان الأساسية المتفق عليها وبين الرغبة في الهيمنة؟

 

هذا الكتاب "عن حق الإنسان في الهيمنة" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2018، يسلط الضوء عن محاولة الولايات المتحدة وإسرائيل استخدام حقوق الإنسان من أجل بسط هيمنتهما على العالم.. 

 

وقد سبق لـ "عربي21" أن نشرت قراءة أولى لهذا الكتاب عقب صدوره مباشرة للكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، وقد سلط الضوء فيها على السياسات الأمريكية، واليوم تنشر "عربي21" هذه القراءة الخاصة للكاتبة والباحثة الأردنية عبير فؤاد، وفيها إضاءة كافية على الكتاب بشكل عام، وعلى السياسات الإسرائيلية تحديدا.

 

يميز ستيفين هوبغود، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة لندن، بين نوعين من حقوق الإنسان؛ الأول تمثله شبكات وناشطون محليون و"عابرو الدول" الذين يفضحون الانتهاكات التي تواجهها مجتمعاتهم ويحاولون الضغط على الحكومات والأمم المتحدة للتحرك ضدها. والثاني يتمثل في منظومة القوانين الدولية والمنظمات التي تصدر التقارير وتدير الحملات الدولية و"تدعي الحديث مع سلطة واحدة باسم الإنسانية جمعاء" أو ما يمكن اعتباره حقوق الإنسان الممأسسة، والتي يرى هوبغود أنها تعيش نهاية عصرها لأنها أصبحت فاسدة أخلاقيا.

مؤلفا الكتاب هذا "عن حق الإنسان في الهيمنة" نيكولا بيروجيني، أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة أدنبرة، ونيف غوردون، أستاذ السياسة والحوكمة في جامعة بن غوريون الإسرائيلية، لا يتفقان تماما مع هوبغود في هذا التمييز أو في فكرة نهاية عصر حقوق الإنسان الممأسسة ويذهبان أبعد من ذلك في كتابهما إلى محاولة فهم كيف تطوّع كل من القوى الليبرالية وغير الليبرالية حقوق الإنسان وتوظفها بطريقة توطد الهيمنة وتعززها بدلا من أن تخلخلها، أو بحسب تعبيرهما "تعرية" الطريقة التي تتقاطع فيها حقوق الإنسان بالهيمنة، وكيفية توثيق الحكومات والشعوب انتهاكات حقوق الإنسان وكيفية نبذها وطريقة تجييشها هذه الحقوق في سياقات العنف السياسي والإمبرالية الجديدة والاستعمار الجديد. 

يقومان بذلك من خلال تحليل نموذج خاص هو إسرائيل. النموذج الذي يصوره مؤيدوه على أنه "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، إذ يوضح الكتاب أن إسرائيل "تحاول الحفاظ على وضعها الدولي باعتبارها ديمقراطية ليبرالية من خلال تطويع خطاب حقوق الإنسان على الرغم من سجلها المشين في انتهاكات حقوق الإنسان". غير أن أفضل وسيلة لوصف النظام الإسرائيلي، كما يقولان، هي: "الديمقراطية الاستعمارية الوحيدة في الشرق الأوسط".

النموذج الهيدروليكي لحقوق الإنسان

يقول بيروجيني وغوردون إن ثمة ملاحظة مهمة حفزتهما على وضع هذا الكتاب هي أنه "على الرغم من النجاح في تأطير قضية فلسطين باعتبارها قضية حقوق إنسان ومن أن حقوق الإنسان مازالت توظف من أجل إشعال التعبئة القانونية والسياسية، فإن المعالجة القائمة على حقوق الإنسان لم تقم بالكثير من أجل التغلب على عدم التكافؤ في القوة المادية والرمزية التي تؤثر في العلاقات بين المستعمِر الإسرائيلي والمستعمَر الفلسطيني، بل شرعت إسرائيل في استخدام حقوق الإنسان لتعزيز هيمنتها". إن ما يلاحظه بيروجيني وغوردون، أن حقوق الإنسان ليست سلاحا للضعيف فحسب، بل سلاح القوي أيضا. 

إلى ذلك فهما يجادلان في مصداقية "النموذج الهيدروليكي لحقوق الإنسان" الذي يلقى قبولا واسعا والقائل "إن مزيدا من حقوق الإنسان يساوي قليلا من الهيمنة"، ويفترض أن انتشار حقوق الإنسان يحد من العلاقات التي تعاني غياب التماثل، وأن حقوق الإنسان "بطبيعتها أداة تناهض الهيمنة وتساهم في تصحيح المظالم وفضح الانتهاكات والاعتداءات، بل تهدد القوي، في حين تمهد الطريق أمام إعادة تأهيل الضعيف". 

 

مع استعراض الحروب العسكرية التي نفذتها إسرائيل ضد قطاع غزة سيظهر واضحا كيف استخدمت إسرائيل القانون الدولي الإنساني لشرعنة قتل المدنيين الفلسطينيين وتبريره، وكيف أن المنظمات الحقوقية الليبرالية غير الحكومية قد تبنت القانون الدولي أيضا بطريقة "ترشّد" استخدام العنف القاتل ضد الفلسطينيين.

 



إن هذه "السردية الخطية" المتبناه على نطاق واسع قائمة على "مغالطتين"، بحسب بيروجيني وغوردون. الأولى هي أن الضعفاء كثيرا ما استخدموا خطاب حقوق الإنسان لتأطير مطالبهم أمام "الفاعلين المهيمنين كي يتحلى هؤلاء بمزيد من الأخلاق عند استخدام سلطتهم، وغالبا ما تنتهي حقوق الإنسان كأداة لتمكينهم لأن هذا الخطاب يوسع من مجالات التدخل السيادي الشرعي". 

المغالطة الثانية هي أن استدعاء الضعفاء أو من يزعمون تمثيلهم حقوق الإنسان لمطالبة المهيمن بالتحرك قد يعني ذلك استخدام العنف من أجل حماية حقوق الإنسان، كما فعلت منظمة العفو الدولية في الولايات المتحدة الأميركية في عام 2012 عندما قادت حملة ضد نية الرئيس باراك أوباما سحب القوات الأميركية وقوات الناتو من أفغانستان. 

إن هذا النموذج الهيدروليكي "يغطي على علاقة السلطة الجدلية بين المعتدين وضحاياهم، كما يخلط المواقف، حيث يمكن للمضطهِدين أن يدعوا تبني حقوق الإنسان ويعيدوا تشكيلها ويترجموها، وبإمكانهم خلق ثقافة حقوق إنسان خاصة بهم من أجل تبرير ممارسة الهيمنة".

الحق في الاغتيال

تناقش فصول الكتاب استخدام حقوق الإنسان في إسرائيل ـ فلسطين على مدى العقد الماضي، وكيف بدأت إسرائيل تنظر إلى حركة حقوق الإنسان بوصفها تهديدا لها، والطريقة التي تعاملت بها مع هذا "التهديد" المفترض. ثم كيف قام الإسرائيليون المحافظون بتأطير منظمات حقوق الإنسان الليبرالية غير الحكومية باعتبارها تهديدا للأمن القومي، ليس من أجل رفض حقوق الإنسان بحد ذاتها، إنما لمواجهة محاولات هذه المنظمات التخفيف من عنف الدولة والحد منه، ومن أجل إضفاء شرعية على الحرب العسكرية الإسرائيلية. 

يتوقف مؤلفا الكتاب أيضا عند "التقارب" الحاصل بين الجيش الإسرائيلي والمسؤولين الحكوميين ومراكز البحوث الأمنية من جهة، ومنظمات حقوق الإنسان غير الحكومية الليبرالية من جهة أخرى. حيث يتوافق الفريقان على أن القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان يجب أن يشكلا إطار الحكم على أخلاقيات الحرب، وبالتالي يستخدم كل واحد من هؤلاء مؤسسات القانون لتعزيز أهدافه. ثمة أمر لافت أيضا يتصل بالتغيير المؤسسي في الجيش إذ نمت أقسام قانونية دولية داخله تلعب دورا مهما في رسم سياسته. 

على سبيل المثال "يعمل كاسا آشر أستاذ الفلسفة في جامعة تل أبيب جنبا إلى جنب مع الجيش الإسرائيلي، واضعا توجيهات إرشادية تحدد متى يكون الاغتيال أخلاقيا في محاربة الإرهاب. فالحق في الاغتيال كما يرى كاشر يقوم على أن من واجب الدولة حماية حقوق مواطنيها بما في ذلك الحق في الحياة. بعبارة أخرى تنفذ الاغتيالات في إطار حقوق الإنسان، أي إنها جائزة أخلاقيا، عندما تستوفي شكلين من الحماية؛ حماية الدولة لمواطنيها وحماية الدولة لنفسها. وهنا تنهض حقوق الإنسان باعتبارها مبررا للقتل، وبالتالي تحول القتل حقاً". 

ومع استعراض الحروب العسكرية التي نفذتها إسرائيل ضد قطاع غزة سيظهر واضحا كيف استخدمت إسرائيل القانون الدولي الإنساني لشرعنة قتل المدنيين الفلسطينيين وتبريره، وكيف أن المنظمات الحقوقية الليبرالية غير الحكومية قد تبنت القانون الدولي أيضا بطريقة "ترشّد" استخدام العنف القاتل ضد الفلسطينيين.

استنفار ضد الهيمنة

الكتاب يناقش أيضا ظهور منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية الاستيطانية، ويبين كيف استخدمت خطاب حقوق الإنسان لتعزيز الممارسات الاستعمارية لا سيما في سلب الأراضي الفلسطينية. أبرز مثال على هذه المنظمات هي منظمة"ريغافيم" التي يتمحور عملها في "حماية الأراضي والممتلكات الوطنية" ومنع الفلسطينيين من "الاستيلاء على موارد البلاد من الأراضي". إنه نمط جديد من الفاعلين يلقي الضوء على تحولات اجتماعية وسياسية داخل ثقافة حقوق الإنسان في إسرائيل. 

وقد ظهرت هذه المنظمات من خلال "استراتيجية ذات ثلاث شعب". أولا طوعت هذه المنظمات لغة حقوق الإنسان بترجمتها واستخدامها في البيئة المحلية في لهجة استعمارية محددة. ثانيا مازالت هذه المنظمات تستنسخ تقنيات واستراتيجيات منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية الليبرالية. وأخيرا ما زالت تلك المنظمات تحاول قلب طريقة تأطير التباين في القوة على الأرض بين المستعمِر والمستعمَر بتحويل المستوطن أصلياً والأصلي غازياً". وفي المحصلة تصبح جريمة طرد الفلسطينيين من أرضهم وتشريدهم سلوكا وفعلا يتم في إطار حقوقي إنساني.

 

عندما لا تستطيع النماذج الحالية تعبئة حقوق الإنسان لتفكيك الهيمنة على الناشطين إذن إعادة صوغ مفاهيم النضال وإعادة تأطيره، بحسب بورجيني وغوردون، اللذان يجدان في حركة المقاطعة ضد إسرائيل، التي ولدت في العام 2005، نموذجا مثاليا للخروج من هذا المأزق.

 



يبحث الفصل الأخير من الكتاب في ما إذا كانت حقوق الإنسان لا تزال قابلة للاستخدام على نحو يناهض الهيمنة بعد أن طوعت لتعزيزها. ويرى ببروجيني وغوردون أن ذلك ممكن بالطبع، وأنها يمكن أن تكون أداة فاعلة لتعزيز العدالة، لكن لا بد من "فهم حقوق الإنسان باعتبارها شكلا من أشكال القوة، وفهم القوة باعتبارها ماكينة يتنامى تبنيها لحقوق الإنسان باعتبارها لغتها المشتركة". 

ولا بد أيضا من رفض أي استنفار لحقوق الإنسان يكون من شأنه تعزيز الهيمنة، كما في مثال "منظمة العفو الدولية وأفغانستان"، ويجب مواجهة ذلك والتصدي له، والانطلاق منه "نحو نموذج جديد" لحقوق الإنسان. 

عندما لا تستطيع النماذج الحالية تعبئة حقوق الإنسان لتفكيك الهيمنة على الناشطين إذن إعادة صوغ مفاهيم النضال وإعادة تأطيره، بحسب بورجيني وغوردون، اللذان يجدان في حركة المقاطعة ضد إسرائيل، التي ولدت في العام 2005، نموذجا مثاليا للخروج من هذا المأزق. " فبدلا من توظيف حقوق الإنسان من أجل حل القضايا المنعزلة هنا وهناك في المحاكم الاستعمارية، فإن حركة المقاطعة تترجم حقوق الإنسان من أجل الطعن في بنية الهيمنة الحالية.. ( وهي إلى ذلك) من إنتاج المجتمع الفلسطيني وتهدف إلى تطوير التضامن الدولي وحشد الدعم الشعبي الدولي، وتوظف حقوق الإنسان جنبا إلى جنب مع خطابات مكافحة العنصرية ومكافحة الاستعمار". 

التعليقات (0)