كتاب عربي 21

نحو مفهوم شامل وفاعل للمواطنة.. المواطنة من جديد (20)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

إن تأصيل مفهوم المواطنة، وتفعيل مقتضياته، وتشغيل محركاته، والعمل من خلال آلياته، ومسالكه، وبنياته، ضمن هذه الرؤية الكلية، يعد اختبارا معمليا لإشكالات تتعلق بمناهج النظر الكلية، ومناهج التناول الجزئية، والتعاطي مع مناهج التعامل مع الواقع ومعطياته الحضارية والتشغيلية، من دون أن نهمل جانب التحديات الذي يتعلق بتشغيل هذه الرؤى والمآلات المترتبة عليه، في سياق رؤية استشرافية مستقبلية لهذا المفهوم المحوري في تشييد المجتمعات وبناء الأمم.

إن الإشكال الحيوي الذي يتعلق بالعلاقة بين المواطنة والدين، وبين المواطنة ودوائر الانتماء، وبين المواطنة وعلاقتها بالسياسي والمدني، وبين المواطنة وعلاقتها بمسالك ومداخل التنشئة السياسية والأطر والسياقات الغربية التي تنظر إلى مفهوم المواطنة باعتباره مفهوم منظومة في ذاته وضمن منظومة تتعاضد معه وتشكل مساراته. وفي هذا المقام وجب علينا أن نحدد لهذا المفهوم في مبناه معنى نحاول أن نتلمس بعض مرئياته ضمن رؤية إسلامية متميزة، ولكن في إطار سياق إنساني وحضاري؛ ومن ثم كان ذلك المدخل الكلي الهادف إلى الألفة الجامعة للتمكين لكل أمر يؤدي إلى جامعية هذه الأمة وفاعليتها، من خلال اجتماع الإنسانية وجامعية المواطنة وأصول تماسك واعتصام ووحدة الجماعة الوطنية، كمجال لتفعيل الإرادة والإدارة.

ومن الضروري النظر إلى باب الوسائل والآليات في إطار يحفظ جامعية الأمة واعتصامها بحكم هذا الفقه الذي يعتبر ذلك بابا مهما من أصول الفقه الحضاري والعمراني بما يشكل مدخلين مهمين:

الأول أن مجال ومساحات الوسائل يجب النظر إليه كما هو متعارف عليه كآليات لمواجهة التحديات وتقديم الاستجابات.

 

والأمر الثاني تَعلُق الأدوات بما يتعين به بناء الأمة وعمرانها في سياق يتكافل هذا النوع من الأدوات مع صنوه، ليحقق عملا مثمرا يصب في عافية الأمة وكيانها. إن بناء استراتيجيا لهذا المفهوم في مفرداته وبنيانه، في مؤسساته المرتبطة به وعلاقاته، والتوجه نحو بناء المواقف والقدرات المتكاملة والمتكافلة، إنما يمثل أحد أهم مداخل الاستجابات الواعية لمواجهة التحديات التي تتوالى تترى على الأمة.

ومن هنا، فإن عملا ثقافيا وتربويا من الأهمية القيام به وعليه، في إطار التدريب الواعي على فنون "الاختلاف" وفنون "الائتلاف" على حد سواء في كل ما يتعلق بساحات تفعيل المواطنة، بحيث يشكل كل ذلك البنية التحتية لاعتصام الأمة وتعبئة قدراتها؛ بما يحقق هذا في إطار تجميع المصالح وإمكانات تبادلها بدلا من تناقضها وتصارعها.

"بناء المصالح" من أهم الأهداف المشتركة التي يجب أن تؤسس على قواعد ثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية، بما يحقق "التجديد التفعيلي" على الأرض، وبما يصب في عافية الأمة وكيان وجودها وحركة استمرارها ونهوضها وعمارتها وارتقائها.

إن جهود التأصيل والتفعيل والتشغيل للمواطنة يجب أن تكون ضمن تصور استراتيجي يحقق ما نؤكد عليه من جامعية وفاعلية الأمة، والدافع لعمرانها، وهو ما دعانا إلى ضرورات استثمار وتفعيل وتشغيل المدخل المقاصدي وغيره من مداخل كلية في تجديد الخطاب الديني بنية وأداء، على أن تكون عملية التجديد هادفة إلى تحقيق غاية ومقصد استراتيجي من الحفاظ على تماسك الجماعة الوطنية والسياسية والثقافية وفاعليتها، مستأنفة أدوارها الحضارية ومكانتها.

ومن المهم كذلك أن نشير إلى أنه مع تنامي عولمة الرأسمالية وهيمنة الرؤى الليبرالية الجديدة، لم يعد ما نحن بصدده عند الحديث عن المواطَنَة هو المفهوم البسيط، ولا بقي السؤال هو: مواطنة أم لا مواطنة؟ على غرار نهضة أم تخلف؟ حضارة أم ضد الحضارة؟ (أسئلة اللحظة التاريخية الأمريكية الراهنة).

الواقع أكثر تعقيدا من ذلك وهذه التصورات مضللة.. ومضلّة؛ أي مواطنة؟ هذا هو سؤال اللحظة الوجودية الإنسانية الحقيقي: مواطنة تنويرية تحترم الفرد وتؤسس مجتمعا يكتسب وجوده الجمعي من تجاوزه لقوى الطبيعة وتصوره الإنساني للإنسان، أم مواطنة رأسمالية مدينية ما بعد حداثية؟ مواطنة قانونية شكلية متساوية ذات بعد واحد، أم مواطنة مركبة عادلة اجتماعية ديمقراطية ثقافية في ظل مشروع حضاري إنساني؟

مواطنة تتحدث عن الحرية والمساواة والعدل والشورى كقيم تأسيسية حاضنة لمفهوم المواطنة وضامنة لساحات ومساحات فاعليتها، أم مواطنة تتحدث عن اختزال القيم السياسية في حرية الجسد وتفكيك المجتمع لصالح نوع ضد نوع أو ثقافة ضد ثقافة ونفي التجاوز في الإنسان والتاريخ، وإعلاء سياسات الجسد واللذة على الجسد السياسي والخير العام والقيمة الإنسانية؟ مواطنة في أي سياق مكاني؟ مواطنة التنوير والليبرالية في المدن الاجتماعية ذات الطابع الثقافي والمسافات الإنسانية، أم مواطنة المدن الرأسمالية العالمية السرطانية المعادية للمجتمع والقائمة على "التجمع"؛ الذي يحسب حسابات الاقتصاد وتدويله قبل حسابات الهوية والجماعة والثقافة؟

إن المدني مثّل مجالا ضمن تلك المجالات التي تتعلق بالمواطنة، إلا أنه من بعد تعاظم مفهوم المدني زاحفا على دوائر مختلفة بمساعدة العولمي ونهج الحياة العلماني على حد سواء، بحيث يروج لنموذج بعينه وجب التوقف على خبرته وتفحص مدلولاته والتعرف على مآلاته، وتلك المعاني التي تتعلق بقدرات الملاءمة وكفاءة المفهوم أو الصفة في الفعل والتفعيل والفاعلية. وكذا فإن العولمي نقلنا في ضوء العولمة الرأسمالية إلى مواطنة عولمية؛ وليست مواطنة إنسانية عالمية، وأفرز نموذجا من المواطنة من "المواطن الرشيد للمواطن المستهلك المعولم". وواقع الأمر أننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذه الرؤية المركبة إلا من خلال استعراض المواطنة كمفهوم غربي، وتقديم رؤية نقدية له من منظور إسلامي أو غير إسلامي.

إن المقصود هو تكريس مواطنة التدافع من أجل الغايات الإنسانية والنفع العام، والسعي في دروب التطور الاجتماعي التاريخي، وليس كما تؤكد دراسة واعدة في نقد مفهوم المواطنة وما آل إليه؛ مواطنة اللحظة المتخيلة في تفاعل الشبكة الاتصالية الفردي التي تعيد تشكيل الوعي بالذات والهويات والأنا والآخر والـ"نحن"، وتعيد تشكيل مفاهيم الزمن والمكان من دون محتوى اجتماعي تفاعلي كما عرفته البشرية، وتعيد تشكيل حدود الخاص والعام وتهدد مفهوم المواطنة في كل تصوراته السابقة. هذه هي الأسئلة وتلك مساحات الاجتهاد.

إن جوهر موضوع المواطنة، هو أن يعبر عن الإطار القانوني والسياسي لممارسة حقوق المواطنة وتحمُّل واجباتها على أرض الواقع.. ومفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مبادئ، والتزاما بمؤسسات، وتوظيف أدوات وآليات تضمن تطبيقه على أرض الواقع. المواطنة - وفق هذا التصور - بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيم، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات. وهي من المفاهيم الشاملة، والتي تستدعي غيرها من مفاهيم حقوقية وسياسية.

المفهوم بهذا الاعتبار "مفهوم منظومة" يشير إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، والحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكذا الحقوق الجماعية، وهي تتعلق بكافة مجالات النشاط الإنساني (الشخصي والخاص والعام والسياسي).

إن المواطنة في هذا السياق حال من التعاقدية تؤصل معاني التبادلية، وأصول ارتباط الحق بالواجب، وميزان التعاقد. والمواطنة في ظل هذا المعنى التعاقدي تعد قاعدة من قواعد منظومة الحكم الراشد التي تشكل إعمالا لقيمه ومقتضياته، وهي تدور مع العدل والظلم وليس الكفر والإيمان. وما أنفس ما أكده الإمام ابن تيمية في كلام دقيق وعميق في هذا الموضوع؛ إن مداخل مثل اللغة، وكذلك الفطرة الإنسانية في الحنين إلى الأوطان، والقضايا التي تتعلق بالمرجعية، والشريعة، والشرعية، في ارتباطها بالمواطنة. كل ذلك مع إقراره واعتباره إنما يشكل مقدمات مهمة يجب أن نؤكد على تكاملها مع بعضها في إطار من الجامعية والفاعلية، يمكن أن يسهم في تأصيل هذه الرؤية الاستراتيجية الكلية الشاملة والفاعلة للمواطنة.

twitter.com/Saif_abdelfatah

التعليقات (4)
لا أفهم الفرنسية
الإثنين، 07-12-2020 07:12 م
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته كيف حالك يا أخي العزيز آل الشيخ محمد
الكاتب المقدام
الأربعاء، 30-09-2020 02:01 م
... 2- راودتني نفسي لتحليل بعض ما جاء بمقالة أستاذنا التي تدعونا إلى"... الوجودية الإنسانية ... والمواطنة التنويرية ... ومجتمع يتجاوز قوى الطبيعة"، ووجه اندهاشي أن الدكتور سيف متخصص في الفكر السياسي الإسلامي، وهو مؤسس "نموذج محاكاة منظمة المؤتمر الإسلامي في كلية الاقتصاد والسياسة"، وهي المنظمة الطلابية التي تعددت انشطتها واتسعت لتشمل كل جامعات مصر، وكلية السياسة والاقتصاد أنشأها المأفون ناصر لابنته هدى، والتي ابتعثتها للندن للدكتوراة، وعينتها للتدريس فيها، رغم ضحالة فكرها كوالدها الهالك ناصر، وعودة لعبارة د/ سبف، فالفلسفة الوجودية انتشرت في القرن العشرين، وروج لها سارتر بين العامة برواياته، وحازت على شعبية في مصر، ورغم تحدث بعض المنبهرين بها كأنيس منصور عن فلسفة وجودية مؤمنة وأخرى ملحدة، فالحقيقة أنها تقوم على فكرة "فقدان التوجه والارتباك أو الفزع في وجه عالم عبثي بلا معنى"، ولذلك فهي مؤدية للعدمية، وتركز على وجود الإنسان الأرضي، وإنكار أو تجاهل وجود خالقه، أما التنوير وفلسفته فقد نشأ في المحافل الماسونية وشاع مع الثورة الفرنسية في القرن 18، ورغم جاذبية المصطلح، فقد قام على إنكار العقائد الدينية، ومناصبة الكنيسة العداء، حيث قاموا بقطع رقاب كثيراُ من رجال الدين فعلاُ لا مجازاُ، وقامت على تعريف الحرية باعتبارها تخليص الإنسان من سيطرة الفكر الديني عليه، وأسست للأفكار الليبرالية والعلمانية الملحدة، المهمشة للأديان والمستأصلة لها من حياة المجتمعات، أما الأخطر في عبارة د/ سيف فهو قوله: " مجتمع يتجاوز قوى الطبيعة" فمصطلح قوى الطبيعة يستخدمه الملاحدة كبديل لكلمة "الله"، فهل هذا هو مقصوده من تجاوز المجتمع له، هل أسأت أنا الفهم وحملت العبارة بما لم يقصده كاتبها؟ أم أنه انبهار بالفلسفات الغربية، وشعور بالدونية أمامها، وإعادة إنتاجها بوجع جديد بما يخالف أصولها، لتتقبلها مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟ ملحوظة: مرجع التعريفات للتنوير والوجودية مقتبسة من موسوعة ويكيبيديا بنصها.
المهندس/ أحمد نورين
الأربعاء، 30-09-2020 01:10 م
الرحمة لفقيد الإنسانية الشيخ صباح .. الشكر لمؤسسة الفكر الإسلامي في سعيها الدؤوب في تحويل 'أماني الأمة' الى 'أفعال و واقع معاش' هذا العصف الذهني بإمكانه إحداث فارق في مستقبل الأمة الإسلامية شرط "توثيق و أرشفة مخرجات هذا الحراك من أجل الإستفادة منها في تغيير الواقع نحو ما نصبو إليه . و لأنه مفهوم شامل,فإن تحقيق 'المواطنة'في الإمصار و الأقطار الإسلامية,يحتاج الى " ممهدات" و من ذلك رفع الوعي لأفراد الأمة بمسائل الحقوق المدنية؛ و من ذلك إشاعة ثقافة فقه الإختلاف بين الإفراد داخل المنظومة الواحدة.. و قس على مثل ذلك؛فالمواطنة في درجات سلم الرقي الإنساني متقدم.. لتسريع تحقيق المواطنة تحتاج الأمة الإسلامية لرفع قيمة العلوم الإنسانية مرة أخرى؛فتخلفها أس البلاء..إن إعادة الفلسفة لمناهج التعليم العام (قبل العالي)في العالم الإسلامي يمثل أقصر طريق تجاه هدف رفع الوعي و إعادة الإعتبار لمجالات العلوم الإنسانية..أنجح مثال لتحقق المواطنة في العالم الإسلامي هي دولة قطر؛و بسبب هذه الحريات التي ينظر إليها البعض من زوايا غير حضارية حوصرت حصار قريش لنبي الإنسانية الأخير .
الكاتب المقدام
الأربعاء، 30-09-2020 10:21 ص
... أستاذنا الفاضل الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أرجو أن تتقبل من محبيك ومتابعيك، مناشدتهم لك بأن تبسط لنا نحن القراء المتواضعون كتاباتك السياسية المتعمقة، وتنزل من برجك العاجي إلى مستوانا، فلو كان لنا الخلفية العلمية التي تمكننا من فهم مصطلحاتها المتخصصة وتعريفاتها المعقدة، لكنا قد التحقنا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، لنتشرف بتتلمذنا على يديك، ولنُحضر تحت إشرافك رسالة ماجستير في السياسة نفتخر بها، فالمرحلة القادمة في مسار أمتنا مرحلة فاصلة ومصيرية لشعوبها، وحافلة بالتطورات المتسارعة والمواجهات الميدانية، ونحن في حاجة إلى وجهة نظرك وتحليلاتك وآراءك وتوجيهاتك لخطط العمل التنفيذية والعملية القادمة، فليس هناك من هو أفضل منك للقيام بذلك، فهو فرض عين عليك لا يستطيع غيرك أداءه، فنرجوا أن تنحي جانباً مؤقتاُ دراساتك النظرية الضافية القيمة عن المواطنة وغيرها، لمرحلة قادمة من العمر ندعوا الله أن يطيل عمرك لتبلغها، وتتوجه إلينا نحن قراءك البسطاء بمتابعاتك وتحليلاتك عن الأحداث الحالية المتلاحقة من حولنا، وبالمناسبة فرغم اجتهادي فلم أصل إلى فهم تلك العبارة الغامضة التي وردت في مقالتك: "هذا هو سؤال اللحظة الوجودية الإنسانية الحقيقي: مواطنة تنويرية تحترم الفرد وتؤسس مجتمعا يكتسب وجوده الجمعي من تجاوزه لقوى الطبيعة وتصوره الإنساني للإنسان"، وشكراً مقدماُ لاهتمامك بالنظر فيما جاء في تلك المناشدة واستجابتك لها.