مقالات مختارة

عصر ما بعد الثورات وما بعد الديمقراطية

جميل النمري
1300x600
1300x600


«إن الذين تباهوا بكونهم قد صنعوا الثورة، قد اقتنعوا دائما في اليوم التالي بأنهم لم يكونوا يعرفون ما صنعوه، وأن الشيء الذي صنعوه لا يشبه البتة ذلك الذي أرادوه» (ماركس أنجلس / رسائل مختارة / دار التقدم)، هذه العبارة انقلها من واحدة من رسائل فريديريك أنجلس الشريك مع كارل ماركس في إنشاء اعظم نظرية ثورية في التاريخ، ألهمت أجيالا، وشكلت القاعدة الأيدولوجية من منتصف القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين لثورات كثيرة انطبق عليها مثل بقية الثورات ملاحظة أنجلس الثاقبة والصحيحة.

 

ويا لها من مفارقة خارقة أن تصدر هذه الملاحظة عن واحد من اعظم المفكرين الذي وضع اسمه بجداره إلى جانب رفيقه ماركس الذي سميت النظرية باسمه ورسمت تصورا محددا لما يفترض أن تصنعه الثورة أي القضاء على الرأسمالية وإنشاء مجتمع النعيم الاشتراكي الخالي من الاستغلال ويسوده مبدأ «من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته» ولم تصل أي ثورة إلى هذه النتيجة أبدا.

الثورات الاشتراكية وكل الثورات الأخرى على السلطة القديمة صنعت شيئا يشبه نفسه فقط وهو في الغالب سلطة استبدادية جديدة تتكون لها مصالح خاصة منفصلة فوق حاجات المجتمع وتذهب في مسار جديد لم يخطط له احد. واذا كانت ذريعة الاستبداد في السلطة التي صنعتها الثورات هي منع الثورة المضادة وفرض النظام الاشتراكي الذي سيقود (لاحقا) إلى ديمقراطية حقيقية فما حصل أن سلطة حديدية بوليسية مستبدة دامت وتشكلت مصالح خاصة لديمومتها كما حصل في دول المعسكر الشرقي والعديد بل ومعظم دول العالم الثالث.

 

بل انه وفق النظرية الماركسية فإن دكتاتورية الطبقة العاملة ستؤدي تاريخيا ومع انتهاء انقسام المجتمع إلى طبقات إلى اضمحلال الدولة وانتفاء الحاجة لها بما هي تعريفا أداة قمع بيد طبقة ضد طبقات أخرى.. والحال ينطبق على مختلف الثورات أي كانت الأيديولوجيا التي حملتها بما في ذلك الأيديولوجيا الدينية وكم من الثورات أكلت أبناءها حتى لم يتبق من الجيل الأول احد فينظر الناجون إلى الوراء مذهولين مما انتهى إليه الأمر الذي شاركوا به ولم يخطر لهم على بال ولا يشبه البته ما حلموا به. والحق أن ذلك ينطبق على التاريخ كله فالبشر يشاركون في صنع الأحداث لكن النتائج تأخذهم في مسارها الخاص فوق كل التوقعات.

الديمقراطية أنهت عصر الثورات وتسيدت في الواقع الدولي ما دامت تتيح لكل فكرة أن تناضل لأخذ فرصتها سلميا وبتفويض من المجتمع ودوريا كل بضع سنوات. لكن بالطبع لم ينته عصر الثورات حيثما توجد سلطة مستبدة فاسدة تقاوم منحى التاريخ ونصر على رفض التحول السلمي نحو الديمقراطية وهذا ما أدى إلى ثورات الربيع العربي التي كان على جدول أعمالها نقطة واحدة فقط هي إزالة السلطة المستبدة وإحلال الديمقراطية ومع ذلك انطبقت عليها نفس المقولة من حيث مآلاتها وهي في بعض الحالات مثل اليمن وسوريا أسوأ من أي شيء يمكن توقعه؟.

المفارقة الأخيرة أننا وبينما ننتظر كحلم النموذج الديمقراطي الليبرالي القائم على مؤسسات التمثيل الشعبي المنتخبة فإن هذا النموذج نفسه قد يكون قيد الأفول لصالح نظام يقوم على الديمقراطية المباشرة التكنولوجية وقد تنتهي الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية على يد صنيعتها الأخيرة الثورة العملية التكنولوجية الرقمية. فغدا يمكن تطوير برامج تصويت إلكتروني تضمن بصرامة من خلال بصمة الإصبع أو العين صحة صوت كل مواطن وبعد غد سيصبح ممكنا إجراء الاقتراع العام كل يوم وكل ساعة أو استبدال تصويت ممثلي الناس بتصويت الناس مباشرة على كل قرار وعلى أي مستوى وستتكفل خوارزميات بإدارة القرار الذي كان يخضع لمناورات السياسيين وأوهامهم وهذا حديث مفتوح للرياضة الذهنية.


الدستور الأردنية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل