كتب

الدين والدولة في فكر محمد الطاهر بن عاشور.. (1من2)

قراءة تحليلية في علاقة الدين بالدولة كما جاءت في كتب محمد الطاهر بن عاشور- (عربي21)
قراءة تحليلية في علاقة الدين بالدولة كما جاءت في كتب محمد الطاهر بن عاشور- (عربي21)
الكتاب: "الدين والدولة في فكر محمد الطاهر بن عاشور.. دراسة تحليلية مقارنة" 
الكاتب: محمد بن عبد الجليل
دار النشر:  مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، تونس
عدد الصفحات: 251 صفحة

لا تزال علاقة الدين بالدولة تستحث الباحثين وفق المقاربات المختلفة لعرضها وتحليلها وتقديم مختلف التصورات، قديمها وحديثها. ويعدّ محمد بن عبد الجليل آخر الوافدين إلى هذا المبحث. ووجه طرافة أثره "الدين والدولة" من دراسته للمسألة في فكر محمد الطاهر بن عاشور (1879- 1973) العالم والفقيه والقاضي التونسي وأهم أساتذة جامع الزيتونة وصاحب عشرات المصنفات في التفسير والمقاصد والآداب العربية، عرضا وتفكيكا وتحليلا ومقارنة بمنجز العلوم الإنسانية المختلفة، ومن إبرازه لوجوه من التفاعل بين هذا الفكر وسياقه الحضاري والثقافي والسياسي. 

فقد عاد الباحث إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليعرض وقوع العالم الإسلامي تحت الهيمنة الغربية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وفق تسميات مختلفة كالاستعمار أو الانتداب أو الحماية ما أفضى إلى سقوط الخلافة العثمانية. 

ورغم أن الهمم قد استنهضت عملا على مشروع إصلاحي وفق الباحث فإن الدولة الوطنية التي قامت على أنقاض الاحتلال قد قطعت مع مشروع النهضة. فقد كانت تتوق بقطيعتها تلك إلى حداثة أكبر وتتطلع إلى مستقبل مختلف عن الماضي الذي أورثها التفكك والعجز، غير أنّ النتيجة كانت مفارقة كليّا. فقد فشلت في ضمان الاستقرار والنمو المنشودين وبدل ترسيخ الحكم الديمقراطي أسست لحكم العائلات سواءً في نظم ملكية صريحة أو مقنعة بأزياء العسكر أو الأمن. 

ويمثل فكر الطاهر بن عاشور بالنسبة إلى الباحث امتدادا لذلك المشروع الإصلاحي الذي جافته الدولة الوطنية. وتمثل علاقة الدين بالدولة إحدى أعمدته. وحتى يبرز عمق تفكير الطاهر بن عاشور يتناولها يمهد لها بعمل تنظيري يساعد المتقبل على تمثلها من منطلق تحليلي مقارن. فيخصص مبحثا للمقاربات المختلفة للدين وآخر للدولة وهذا ما سنعرضه في الحلقة الأولى من مقالتنا ثم يعرض فكر الطاهر بن عاشور فنجعله مدار الحلقة الثانية.

1 ـ مفهوم الدين في العلوم الإنسانية 
 
تعددت زوايا فهم الدين ولأن البعض يخلط البعض بينه وبين الثقافة أو العادات والتقاليد أو يمتزج الديني مع السياسي في ذهنه، يطرح الباحث مفهومه في اللغة والفلسفة وعلم الاجتماع وبعرض أشكال حضوره في التجربة التاريخية. 

الدين من الدلالة المعجمية إلى الاصطلاح

يفيد "الدين" في بعض المعاجم الجزاء والمكافأة ويدل على العادة وتضيف أخرى له معنى الطاعة والإسلام لقوله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام". ولأن الباحث لا يحصل على ما يشفي الغليل من البحث المعجمي يتجه إلى الفقه والفلسفة وعلم الاجتماع عارضا تصوراتها. فالكتب الفقهية تحدده بكونه المصدر العلوي الإلهي الموجه لذوي العقول نحو الفلاح وحسن المآل وتجده مشتملا على العقائد والأعمال التي يكلف بها العابد. 

وتجده التصورات الفلسفية استدلالا منطقيا يقوم به الأفراد لفهم الوجود من حولهم وتحديد منزلتهم فيه. وكثيرا ما تجد في التربية والتنشئة موجهين لهذا الاستدلال. ورغم أنّ الجماعات تعوّل عليه لتكوين مفاهيم حول نظام الوجود عامة وإحاطتها بهالة من الحقيقة، وتعهد له مهمة خلق تعاضد اجتماعي ونسج وحدة بين أفرادها، فإن علم الاجتماع يركز على البعد الرمزي منه. ويفهمه باعتباره منتجا يتم تداوله واستهلاكه وفيه يتنافس المنتجون.
 
الدين والتاريخ

يعرض محمد بن عبد الجليل نماذج من تحقق الدين فعليا فيعرف القارئ بالمبادئ الأساسية للديانات السماوية فيقدّم مراحل تطورها تقديما موجزا بسيطا يهدف إلى إبراز ظهور الإسلام باعتباره حاجة إنسانية أكيدة وتتويجا للديانات السماوية. فاليهودية شكلت نقطة التحول بين العبادات القديمة التي مدارها على عبادة الأوثان والكواكب والحيوانات، وبين العبادات في الديانات الكتابية القائمة على  التوحيد. فكانت أول ديانة توحيدية شاملة. فقد ظهرت مع موسى حوالي 1200 ق.م. وساد عند أتباعها الاعتقاد بأنّ الله اختار اليهود من بين سائر الأمم لهذه الرسالة. لذلك يسمون أنفسهم بشعب الله المختار ومثل التوراة كتابهم المقدس ومرجعهم الأول. 

ورغم أنهم نسبوا للإله صفات بشرية، في مرحلة لاحقة ببعث موسى، فجعلوه يأكل ويشرب ويدفن موسى بنفسه عند موته، تركزت الوحدانية عندهم بمعنى التعالي عن التشبيه والتمثيل والتحرر من النسق التصوري البشري. ففي عهد "أشعيا الثاني" قيل على لسان الرب: "بمن تشبهونني وتمثلونني؟" أو "إن الله هو الأول منذ القدم". 

أما التسمية فخضعت للتدرج. فيهوذا هو أحد أبناء النبي يعقوب. ثم أطلق اسم اليهود على  سكان مملكة بني إسرائيل الجنوبية بعد انقسامهم إلى مملكتين. وأشير بعد ذلك إلى الفئة الصالحة من بني إسرائيل التي عادت من السبي البابلي بهذا الاسم، ثم إلى الفئة التي كفرت من بني إسرائيل برسالة المسيح "وحرفت معتقد أجدادها وحرّفت الكتاب" على عبارة الباحث.

ونصّت العقيدة الإسرائيلية على المسيح المنتظر واعتقد أتباعها بأنه ملك فاتح مظفر من نسل داوود. ثم أطلقوا اسمه على كل من يعاقب أعداءهم ويكفل تحريرهم من الأسر البابلي وكانوا يترقبون ظهوره ليكفل خلاصهم ـ حتى ولد المسيح الذي كان توحيديا يدعو إلى المحبة والتسامح ويهتم بالمستوى السلوكي ويعمل على نشر العدل. فكرّس مبادئ أخلاقية تنتصر إلى البساطة في العيش والصبر أمام المحن وترى أن الآلام والفقر معاني مساعدة على بلوغ الحياة الأبدية. 

وأمكن لها أن تنتشر عبر أراضي الإمبراطورية الرومانية وأن تفرض نفسها ديانة رسمية لها. ثم امتدت شرقا وغربا. ولكن أسسها التي تحفظها الأناجيل كتبت بعد عهد عيسى عليه السلام بجيلين. فانقسمت إلى من يقول بالطبيعة المقدسة للمسيح ومن يقول أنه يجمع بين الطبيعة البشرية والطبيعة الإلهية، أو بين مؤله للسيدة مريم ومنكر لهذا التأليه. واستعملت كلمة المسيحيين للإشارة إلى أتباع المسيح نحو 42- 43 م في سياق تهجيني ثم خلا من هذا البعد وتحول إلى دال محايد.

ووصلت هذه الديانة إلى شبه الجزيرة العربية بعد 6 قرون من ظهورها وقد دب الانقسام بين أتباعها كما وصلت الديانة اليهودية، فضلا عن المجوسية من الفرس وتنصر بعضهم نصرانية تخالطها الوثنية وعقائد المجوس. ولكن أغلب العرب ظل يعبد الأوثان، حتى جاء الإسلام: "وقد جاءت الفكرة الإلهية في الإسلام فكرة تامة لا يغلب فيها جانب على آخر. فالله وحده لا شريك له، ولا ولد له. يمتلك صفات وأوصافا نزهته عن كل الكائنات الأخرى".

فلسفة الدين

ورد هذا المبحث مقتضبا بدوره على أهميته فاكتفى الباحث بعرض نماذج تمثل اتجاهين في التفكير. فقد كان التصور المثالي يحاول تسليط العقل لتفسير المعتقدات ولشرح بواعثها وإبراز منطلقاتها وتجلياتها في حياة الإنسان بعيدا عن التسويغ أو التبرير والتبشير أو الدعوة والتبليغ مثلما يفعل المتكلمون أو اللاّهوتيون. 

ومن فلاسفة الدين يذكر إيمانيوبال كانط الذي انتهى إلى التسليم بوجود الله مقدرا أن "القانون الواجب، وهو ضروري مطلقا في ميدان العمل، يقتضي بالضرورة القول بهذا الفرض المؤكد لموجود أعلى. وأمام ما يقتضيه العقل العملي يجب على العقل النظري أن يمتثل ويخضع" ويذكر هيغل الذي يعتقد أنّ "الدين رفع الحياة النهائية إلى مستوى الحياة اللاّنهائية". 

أما التصور المادي، الماركسي خاصّة، فقد كان يربط آليا بين الدين والاقتصاد في إطار التفسير المادي لحركة التاريخ. وينزله ضمن الصراع الطبقي. ويفسر موقف ماركس السلبي من الدين واختزاله للإنسان في حاجياته المادية وتجاهله لمتطلبات الروحية وعدم الاعتراف بها بالانطباع السيئ الذي أفرزته الحياة الغربية حين حولته إلى أداة في يد السلطة لقهر الضعفاء وملاذ لدى الطبقات المقهورة لتبرير خضوعها. فجاء فهمه. أما ماكس فيبر، فقد تعاطى مع الممارسة الدينية باعتبارها عنصرا من عناصر العلاقات الاجتماعية، ووجد الدين مولدا لعلاقات تفاعلية مع المعطى الاقتصادي قائمة على تبادل التأثر والتأثير.

2 ـ مفهوم الدولة في العلوم الإنسانية

الدولة في الفلسفة وعلم الاجتماع والقانون الدستوري

يعتمد محمد بن عبد الجليل التمشي النظري نفسه الذي اعتمده في عرض مفهوم الدين عند بحثه في مسالة الدولة فيجد، انطلاقا من المدخل المعجمي أن الأصل اللغوي لكلمة دولة من التداول وفي الآية (140) من آل عمران (وتلك أيام نداولها بين الناس) أو من الغلبة، فيقال كانت لنا دولة عليهم. وفي بعض القواميس تعني الدولة "الانتقال من حال إلى حال"، من الضعف إلى القوة ومن طور إلى آخر. ثم يولي وجهه شطر الفلسفة. 

فيجد أنها تربطها بالاجتماع الذي يمنح الإنسان قوة لا يمتلكها الفرد، كما في جمهورية أفلاطون التي تقسم الأدوار بين أفرادها تحقيقا للحاجيات الضرورية، وتهدف إلى تحقيق الانسجام والعدالة بين مختلف مكونات المجتمع أو في فلسفة أرسطو التي تشبه أطوارها بالحياة الإنسانية بين النشأة (الطفولة) واكتساب لأسباب القوة (الشباب) والاستقرار والتقدم (النضج) وضعف والتفكك (الشيخوخة). وتعرف اليوم في علم الاجتماع باعتبارها "منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين من الأراضي". 

أما فقهاء القانون الدستوري فيعرفونها باعتبارها "كيانا إقليميا يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى الإلزام وأدواته" وبجد أن نظرية العقد الاجتماعي تمثل النظرية الأكثر اكتمالا وتأثيرا. فهي تقطع مع فكرة النشأة المقدسة التي ترى أنّ الله هو الذي خلق الدولة وهو الذي يمنح حكامها السلطة حين يرضى عنهم وينتزعها منهم حين يغضب ضمن ما يصطلح عليه بنظرية الحق الإلهي وترى أنّ الأفراد يعيشون فيما بينهم حالة الفطرة ثم ينتقلون إلى حالة المجتمع الذي يخضع لسلطة معينة بموجب عقد اجتماعي. فتنشأ عن طريق الوحدة والاندماج أو عن طريق التفكك والانفصال. 

وتظل الرغبة المشتركة في العيش معا محددا لمفهوم الأمة والشعب بصرف النظر عن التجانس على مستوى اللغة أو العرق أو الدين. ورغم تاريخ الإنسانية الطويل ينتهي الأثر إلى أن البحث لا يزال مستمرا للوصول إلى أفضل الصيغ الممكنة لأشكال الدولة لتحقق التعايش السلمي والعادل بين أفرادها.

مفهوم الدولة في الإسلام

رغم أنّ دستور المسلمين ومصدر تشريعهم هو القرآن وسنة الرسول تظل دولتهم وفق الباحث بعيدة عن الدولة الدينية التيوقراطية. فليس الحاكم فيها امتدادا للسلطة الإلهية، ولا هو مطلق السلطات، يسنّ أحكاما وضعية وإنما هو ملزم بقواعد التشريع الإلهي وقوانينه. وبصرف النظر عن مواقف ما سماهم بـ"النفاة" ويقصد أولئك الذي ينفون وجود الدولة في الماضي ليقيسوا عليه في الحاضر كما الشأن بالنسبة إلى طالبان وشباب الصومال وتنظيم داعش، فإن أصحاب "الإثبات" يعتقدون أن مفهوم الدولة متحقق في الإسلام من خلال مكوناتها الخمسة، من وجود مشروع وتحققها في المكان والزمان ـ وقيامها على تصوّر اقتصادي وثقافي.
 
لقد حاول الباحث أن يضبط مدخلا للتفكير في الدين من منظور الكتب السماوية والمباحث الفلسفية والتاريخية والقانونية والفقهية بسطا لأرضية نظرية تساعده على عرض تفكير الطاهر بن عاشور في العلاقة بين الدين والدولة. فأبرز أن البحث في الدين ليس مسألة دينية فحسب لارتباطه بالحياة في مختلف مفاصلها وتوسع في فهمه إلى ما يشب إلى المتاهة من التعريفات والمقاربات. ثم عرض تصوره الخاص. فأعرض عن كل هذه الخلفيات النظرية واكتفى بالفهم الفقهي، فحدّده باعتباره ممارسة إنسانية يفهم منه الطاعة والانقياد باعتبار أنّ للدين رسالة هي السمو بالإنسان، وباعتبار أنّ الإسلام هو الاستسلام لأمر الله والانقياد إلى مشيئته. 

وكان لهذا الفهم أثره على فهمه للدولة. فكانت عنده جهازا يكفل حقوق الأفراد ومجتمعات اعتمادا على التشريع الإلهي واستند في ذلك إلى الآية(3) من سورة الروم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). وهذا ما سيوجه فهمه لفكر الطاهر بن عاشور الفهم الذي سنعرض في حلقتنا الثانية والأخيرة.
التعليقات (0)