قضايا وآراء

فلسفة الدعاء!

مريم الدجاني
1300x600
1300x600
قال نيتشه: "إنه لمن المخجل حقا أن ندعو". بالنسبة للغرب، يبدو العقل أهم من الحدس، فهم يعولون على الذكاء العملي أكثر من تعويلهم على العاطفة والشعور. العلم يتوهج ويشع، في حين أن التدين يتلاشى وينطفئ. يسيرون في الغرب على خطة ديكارت ويهملون باسكال، لهذا يحاولون دائما أن ينمّوا الذكاء العملي، بينما يهملون النشاطات غير الذهنية للفكر، كالاهتمام بالضمير الأخلاقي. وإن عدم الانخراط في هذا الاتجاه في تربية الضمير في النشاطات الإنسانية، يجعل من الإنسان العصري، إنسانا أعمى على صعيد الروح والشعور، وإن هذا الوهن الروحي لا يسمح للإنسان بأن يكون عضوا مؤسسا في بناء مجتمع سليم ومعافى.

ومن النشاطات التي يتجاهلها الغربيون أكثر من غيرهم، الاتجاه نحو التدين، ونحو القداسة التي يزرعها الدين في النفوس. وإن الاتجاه القداسي في الفكر الديني يتجسد في الدعاء؛ لأن الدعاء ظاهرة روحية بمنأى عن كل التعقيدات الغربية التقنية.

يعتبر الدعاء في أساسه نوعا من النزوع الفكري نحو جوهر اللامادية في العالم. هو تعبير عن شكوى متألمة، أو صرخة قلق، أو طلب استغاثة. إنه نوع من التأمل العميق النقي والمتسامي للمبدأ الأصيل لكل الأشياء. هو أيضا ارتفاع بالنفس نحو الله كفعل محبة وعبادة للذي منحنا الحياة. ويمثل الدعاء جهدا من الإنسان في محاولة التقرب والاتصال بالكائن الذي لا يُرى، صاحب الحكمة العليا ومصدر القوة والجمال.

الدعاء نوع من استغراق الوعي في الله، وإن الوصول إلى هذا التجلي الروحي العميق لا يحتاج إلى معرفة، تماما كرهافة الحس في تذوق الجمال، أو خفقان القلب عند الشعور بالحب. لقد كان المتصوفون المسيحيون يصلون منذ أيام القديس بولس وحتى القديس بنوا، عن طريق مجموع الرسل المجهولين خلال عشرين قرنا من الزمان.
 
صحيح أن عددا من المفكرين الكبار من طراز هيدجر وسارتر وسيري وبكث وإريك فروم؛ قد تحدثوا عن وحدة الإنسان كمنطلق لروح الفلسفة والفن والأدب، والأصح أن المقصود هنا هو العزلة، إلا أن الواقعية الجديدة المحسوسة هي المذهب المتحكم في جميع المدارس العلمية والفكرية والفنية والأدبية منذ القرن الماضي. رأيناه في الماركسية الحاكمة، وفي الاشتراكية الغربية المملوءة بالروح البرجوازية، والتفكير البرجوازي الغربي في مناحي الحياة والإنسان وعقائد الإنسان وفي وجهات فلسفة الحياة. وحتى أن الشيوعية الحاكمة والرأسمالية لا تختلفان إلا في أسلوب الحياة المادية، والتطبيق الاقتصادي وامتلاك رأس المال، ونهج التوزيع والاستهلاك، فكلتاهما تأخذ الإنسان والحياة مأخذا يقوم على الميزة المادية وأصالة الاقتصاد، وواقعية الحياة المادية والاقتصادية.

بل إن البراغماتية، والفلسفة المادية، وفلسفة المنفعة، والليبرالية والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية وأصالة الاقتصاد والفردية وحتى البروتستانتية جميعها، قد خضعت لما هو واقع وموجود، من الغرائز والأخلاق في الخير كانت أو في الشر، ثم جاء فرويد ففسر كل ما هو راقد ومتحفز في المجتمع. إن الواقعية المتطرفة هذه ليست مدرسة فلسفية فحسب، بل هي رؤية وسلوك عام، وثقافة سائدة.

ثم نجد مقابل ذلك مذهبا جديدا في الفلسفة والفن والأدب والشعور يسمى المذهب التجريدي، وهو الذي يعطي للإنسان قيمة تفوق الواقع وتتعداه، في محاولة للهروب من الواقع وعصيانه، ذلك الذي ميّز الآداب الغربية والأمريكية. وإن هذا التجريد يرى أن الإنسان نسيج لوحده لأنه أكبر من واقعه.

والفن هو ملكة إنسانية تستهدف تكامل الحياة المادية، فكيف يمكن للواقعية أن تحصره في حياة مادية؟ هذا هو القضاء على عبقرية الفن. وحتى الفلسفة إذا ما وضعت حيث تكون المادة محسوسة، تموت. وإن الإبداع والذكاء والبناء الخلاق حيث تترصده المادة والمحسوس يضيق، لهذا نجد إنسان اليوم مقتدرا علميا، ولكنه غير جدير، فهو وحش في حضارة، وكما يقول عنه علي شريعتي: "هو يجوب الأعالي ويتجاوز الحدود، ولكن تحليق قلبه لا يتجاوز تحليق تاجر محتال حقير لا يعرف غير المنفعة، وغير اللذة".

ثم نشأ العبث في الفكر الغربي.. هؤلاء المرفهون، الذين يأكلون كدح الكادحين، المستهلكين، دون أن يتعبوا أو يعانوا من العمل والإنتاج، فلا يفهمون حقيقة الحياة وصعوبتها. هنا يولد الرفاه: الخلو من هموم الحياة ومن الشقاء الذي يكابده العاملون المنتجون. حياة مرفهة ناعمة، كل شيء بمتناول اليد، لا مكان لنقص أو خوف أو حاجة أو قلق أو اضطراب، فقط هدوء واطمئنان. فلديه ما يريد، هو يتعذب لأنه لا يعرف ما يريد، هو إنسان خلت حياته من المشكلات ومن المحاولات ومن النضالات، لا هدف له ولا معنى. ومن هنا ينشأ العبث، الذي هو ليس اكتشاف البير كامو أو وليدة عبقرية صموئيل بيكيت، هو ليس من صنع العقل الغربي، بل نتيجة لتخمة المعدة الغربية التي تأكل جهد الآسيويين وثروات الأفارقة.

وما الفن الأوروبي والفلسفة الأوروبية إلا لملء هذا الفراغ في حياة البرجوازيين. فطبيعي جدا أن يكون الكون حماقة وجنونا والعالم بلا عقل، والحياة تافهة، ولا غرض من الخلق. إن من يعيش عيشة روتينية مملة على رتيبة واحدة لا تتغير، يضيق صدره ويسعى إلى الصخب والهياج. فترى ألبير كامو يناطح الهواء عندما احتج على وجود الله.. فشل سارتر وعبث كامو وأندريه جيد وغربة هيدجر، هو نتاج الأزمة الروحية في هذه الحضارة.

ليأتي الدعاء الذي هو تجلي الروح، فهو لا ينحصر في الواقعية المبتذلة، ولا يتقوقع عما هو كائن في تسخيف الوجود، وهنا يأتي الفرق بين الوحدة والعزلة؛ الوحدة تعني أنك بلا أحد، والعزلة بلا هو. الدعاء إرادة: لأن المسافة بين ما هو موجود وبين ما ينبغي أن يوجد كبيرة. الدعاء تحريض يحتوي على إصرار وشعارات وهوية ونظرة للحياة. الدعاء كحديث المرء لأبيه، وكلما كان الدعاء جريئا مصرا مطالبا لحوحا كلما كانت الاستجابة أقرب.

فاللهم ارحمني رحمة لا تدر خبزا ولا صيتا، وقوّني كي أقدر على أن أضحي بالخبز والصيت للإيمان، فأغدو في صف الذين يقبضون مال الدنيا لينفقوه على الدين، لا في صف الذين يقبضون مال الدين لينفقوه على الدنيا.
التعليقات (0)

خبر عاجل