مقالات مختارة

مصر… عن التوازن المفقود بين حقين أساسيين

عمرو حمزاوي
1300x600
1300x600

بعض الحكومات العربية، ومنها الحكومة المصرية، يعتقد أن ضمان حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يتأتى دون التزام بصون حقوقه المدنية والسياسية. كثيرا ما تذهب الأحاديث الرسمية لمسؤولي هذه الحكومات إما باتجاه التشديد على أولوية حقوق كالحق في التعليم والعمل والرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية إذا ما قورنت بحرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم ومشاركة المواطن السلمية في منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية وإجراء انتخابات تنافسية ونزيهة وعلى نحو دوري، أو باتجاه الترويج لضرورة أن يسبق ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الانفتاح على الحقوق المدنية والسياسية لكي يستقر المجتمع وتتماسك الدولة وتتقدم البلاد.


هكذا عملت، على سبيل المثال، مؤسسات الدولة المصرية منذ خمسينيات القرن العشرين وإلى اليوم خارجة على الناس بخطاب القضاء على الفقر والجهل والبطالة والمرض قبل الالتفات إلى "ترف" حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم. تبدلت أحوال السياسة منذ الخمسينيات، من حكم الفرد الواحد والحزب الواحد بين 1954 و1970 إلى حكم الفرد الواحد وحزبه في إطار تعددية حزبية مقيدة تضمن وجود بعض المعارضين في سنوات الرئيس الأسبق السادات والرئيس الأسبق مبارك. غير أن القناعة بأولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو بكونها ينبغي أن تسبق كل ما عداها ظلت راسخة.


وها نحن نعود إليها مع الحكومة الراهنة، بعد انقطاع محدود بين 2011 و2013 بدت خلاله الحقوق المدنية والسياسية في أعقاب ثورة يناير ومطلبيتها الديمقراطية وكأنها صاحبة السبق وواجبة التحقق الفوري. ومن وراء القناعة الراسخة للمتعاقبين على حكم مصر وللحكومة الراهنة بشأن أولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نظرة إلى أحوال بلادنا تنطلق، أولا، من أن مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية القوية التي تسيطر عليها هي وحدها المنوطة بضمان حقوق كالحق في التعليم والعمل والرعاية الصحية وغيرها. وتستند، ثانيا، إلى أن مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية لا تحتاج في سبيل ذلك إلى شراكة مع مواطنات ومواطنين أحرار، أحرار في حياتهم الشخصية كما في الفضاء العام، ومع مجتمع يتوازن باحترامه لحريات الناس وحقهم في المبادرة الفردية والمنافسة والاختيار دون خوف.


مؤسسات الدولة في مثل هذه النظرة، لا المواطن ولا المجتمع، هي ماكينة صناعة نظم التعليم والعمل والرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية وتطويرها والارتقاء بها. مؤسسات الدولة وحدها هي ماكينة التنمية والتقدم، والسلطة التنفيذية القوية ترعى ذلك بتوظيف أدوات صناعة وإنفاذ القوانين وتخصيص الموارد العامة وتنفيذ السياسات اللازمة. أما المواطن فعليه السمع والطاعة وإظهار التأييد أو على الأقل الامتناع عن المعارضة، وعليه أيضا الانتظار في صبر حتى تضمن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والتنازل عن حقوقه المدنية والسياسية. ومهمة المجتمع هي تحويل التأييد الفردي المتعين على المواطن (الطاعة) إلى تأييد جماعي (التعبئة والحشد) والاصطفاف خلف مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية على نحو يذهب بالتنوع والتعدد، وتهميش المغردين خارج السرب إما كخارجين على الإجماع الوطني أو كحالمين يريدون دفعة واحدة الحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصون حرياتهم.


ليست منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والإعلام الحر هي وحدها التي تفقد أسباب الوجود والدور والحيوية حين تلغى الحقوق المدنية والسياسية، بل أيضا القطاع الخاص ومعه مبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية.


مواطن السمع والطاعة ليس مواطنا حرا يقدر على ممارسة الحق في الاختيار وإطلاق المبادرات الفردية، لا في الحياة الشخصية ولا في الفضاء العام. ومجتمع التأييد والاصطفاف هو مجتمع لا يلغي فقط الحقوق المدنية والسياسية للمواطن، بل يقضي أيضا على فرص وجود قطاع خاص متنوع وتنافسي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، من نظم التعليم إلى سوق العمل.
لذا تتسق النظرة إلى مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية كصاحبة القدرة المتفردة على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصاحبة الامتياز الحصري لتحديد الكيفية التي يمكن أن يتم بها ذلك، تتسق هذه النظرة مع سيطرة الدولة الكاملة على نظم التعليم والعمل والرعاية الصحية وكافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى وتدخلاتها المستمرة لمنع نشوء قطاع خاص. حين تصبح مؤسسات الدولة بمفردها هي ماكينة التنمية والتقدم وحين يلغى حق المواطن في الاختيار الحر والمبادرة الفردية وحق المجتمع في التنوع والتعدد، حينها يفقد القطاع الخاص هويته الحقيقية وسبب وجوده المتمثل في التعبير عن المواطن الحر والمجتمع الحر.


ليست منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والإعلام الحر هي وحدها التي تفقد أسباب الوجود والدور والحيوية حين تلغى الحقوق المدنية والسياسية، بل أيضا القطاع الخاص ومعه مبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والمنافسة كمبادئ رئيسية لتنظيم النشاط الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات البشرية. الملكية العامة، وسيطرة الدولة على موارد المجتمع ووسائل الإنتاج، والقطاع العام الذي لا تزاحمه في منافسة فعلية كيانات خاصة تستهدف الربح صغرت أحجامها أو كبرت؛ تلك هي الممارسات التي تتماشى مع النظرة إلى الدولة كماكينة التنمية والتقدم التي لا تحتاج سوى لمواطن السمع والطاعة ولمجتمع التأييد والاصطفاف وتتماشى مع القناعة بأولوية وأسبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ما عداها.


بعيدا عن قناعتي الشخصية بالأفضلية الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية لمبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والمنافسة وللتنظيم الديمقراطي الذي يتأسس مستندا إليها، تظل المعضلة الواقعية الكبرى لنظرة الدولة كماكينة التنمية والتقدم هي فشلها المتكرر في ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مدار فترات زمنية مستقرة في بلدان مختلفة في أحوالها كاختلاف بلدان العرب وإخفاقات الحكومات المتتالية إن فيما خص الإسعاد المادي للمواطنين بعد أن أجبرتهم على التنازل عن حقوقهم المدنية والسياسية أو تمكين المجتمع من الاستقرار والتوازن بعد أن استبدلت التعبئة والحشد بالحرية والمنافسة. ويرتبط بمعضلة الفشل والإخفاق ارتباكات أخرى كأن يتبلور في بلد كمصر قطاع خاص تفرض عليه ثلاثية الدولة الماكينة ومواطن السمع والطاعة ومجتمع التأييد والاصطفاف من التشوهات ما يفقده الكثير من قدرته على الإسهام الفعال في تحقيق التنمية والتقدم ويسقطه في مصيدة الاحتكار ومحدودية الابتكار وضعف الإنتاجية.


في بر مصر وغيرها من بلاد العرب لا يستطيع من يرد ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن أن يعول على انفراد مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية بالمهمة. لا يستطيع أيضا من يرغب في وجود قطاع خاص تنافسي ومبتكر وفي توسيع الملكية الخاصة والتخلص من تغول القطاع العام، لا يستطيع أن يلغي المبادرة الفردية أو حق المواطن في ممارسة حرية الاختيار وحق المجتمع في التنوع والتعدد. من يرد في بر مصر وبلاد العرب إقرار المبادرة الفردية وحرية الاختيار والتنوع والتعدد المجتمعي، لا يستطيع أن يفصل بين ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبين صون الحقوق المدنية والسياسية. فتلك هي المأساة الحقيقية التي نتحملها منذ خمسينيات القرن العشرين ولم تذهب بنا أبدا إلى المكان الذي تستحقه بلادنا ونستحقه كمصريين وعرب.

 

القدس العربي

2
التعليقات (2)
عبدالله المصري
الثلاثاء، 12-01-2021 05:05 م
الكلام شئ و لكن الافعال العكس تماما فانت دعمت منقلب سفاح دموي خاين لان الديمقراطية لم تأتي بك لا ادري كيف تنظر لنفسك في المرآة و انت مجرد بائع لكلام كذبته افعالك و مازلت تبيع الكلام كل يوم و تعيش منه مع ان فعلك يؤكد انك لا تؤمن به كفاية كفاية كفاية