كتاب عربي 21

رجلٌ عَلمٌ على رأسه تفاحة

جعفر عباس
1300x600
1300x600
فرغت مؤخرا من قراءة سيرة ستيفن (ستيف) جوبز، ذلك الرجل الذي ترك بصمات ستخلده على مر السنين في عالم الكمبيوتر والهواتف الذكية، وارتبط اسمه بشركة ومنتجات "أبِل"، ولست هنا معنيا بتفاصيل سيرة الرجل أو إنجازاته، بل سأمر بها سريعا كي أقف عند السؤال: ما الذي جعل جوبز علما من أعلام الصناعة والتجارة والإدارة؟ ويمكننا طرح السؤال نفسه عن بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة، ومارك زكربيرغ، مالك منصة فيسبوك ذات الأكثر من مليار زبون.

على المستوى الشخصي- الإنساني، كان جوبز فظا غليظ القلب متقلب المزاج، ولا يتردد في جرح مشاعر أي إنسان يقف عائقا أمام تحقيق رغباته وتطبيق رؤاه، وظل إلى مماته يحمل جرح أنه ابن بول جوبز بالتبني، وأن أمه وأباه الحقيقيين (جوان شيبل وعبد الفتاح جندلي، والأخير سوري من حمص كان ناشطا سياسيا وعانى من الملاحقة البوليسية ثم التحق بجامعة ويسكونسن الأمريكية حيث التقى بجوان التي صارت أم ستيف البيولوجية) تخلصا منه فور ولادته، وظلت تلك المرارة ميسما لعلاقته مع زملاء العمل، وحتى مع بنته ليزا التي نجمت عن علاقة عابرة، وقضت معظم سنوات طفولتها وهو ينكر أبوتها كما أنكراه أبوه وأمه الحقيقيان.

ما شد انتباهي في سيرة جوبز ومسيرته مع شركة؛ أبل ليس صفاته التي تجعل منه شخصا بغيضا إلى النفوس، ولا المنتجات المذهلة التي أدهشت بها أبل العالم، بل إن جوبز هذا الذي ارتبط اسمه بكمبيوترات ماك وهواتف آيفون والكمبيوتر اللوحي آيباد وجهاز الاستماع الصغير المحمول آيبود، دخل مجال التكنولوجيا وعالم الإدارة، وهو لا يحمل سوى الشهادة الثانوية العامة.
ما الذي يجعل من "وليد" بلا أي مؤهل أكاديمي حقيقي يدخل عوالم الكمبيوتر ويصبح المجدد الأكثر تميزا فيه، ثم يرتاد عالم صناعة الأفلام بلا أي خبرة وينجح في أن يكون علما من أعلامها؟ إنها البيئة العامة التي تسمح بالتجريب والابتكار والخطأ، ثم تصحيح الخطأ

التحق جوبز بجامعة ريد الأمريكية وقضى فيها عاما دراسيا واحدا لم يتقيد فيه بمنهج دراسي، ثم ركب موجة التمرد الشبابي التي سادت في الولايات المتحدة سبعينيات القرن الماضي، وانغمس في عالم المخدرات، ثم جذبته البوذية لبعض الوقت، ثم سافر إلى الهند للقاء قادة طوائف "روحانيين"، وعاش معظم سنوات شبابه فاقدا البوصلة.

الصانع الحقيقي لمجد شركة أبل ومن وضع اسمها في أطلس الصناعات التكنولوجية هو ستيف وزنياك، الذي كان مثل سميِّه جوبز بلا أي مؤهل أكاديمي وشغوفا بألعاب الكمبيوتر، وما جمع بينهما، هو حب إيقاع الآخرين في "مقالب" ذات طابع مركب تتداخل فيها التكنولوجيا مع الحيل الكهربائية، وأظهر وزنياك براعة لم تكن معهودة وقتها في ابتكار أجهزة صغيرة متعددة الأغراض، وبإيعاز من جوبز تحولا إلى ابتكار كمبيوتر أبل 1 ثم ابل 2، وبقية القصة معروفة، لأن تلك الجهود المتواضعة قادت جوبز ليصبح الرئيس التنفيذي لواحدة من أكبر وأنجح شركات الكمبيوتر والمنتجات الإلكترونية في العالم، بل وعندما أزيح لبعض الوقت من شركة أبل، قام بإنشاء شركة بيكسار التي أدهشت العالم بسلسلة أفلام "توي ستوري" للرسوم المتحركة بالتعاون مع شركة ديزني.

ما الذي يجعل من "وليد" بلا أي مؤهل أكاديمي حقيقي يدخل عوالم الكمبيوتر ويصبح المجدد الأكثر تميزا فيه، ثم يرتاد عالم صناعة الأفلام بلا أي خبرة وينجح في أن يكون علما من أعلامها؟ إنها البيئة العامة التي تسمح بالتجريب والابتكار والخطأ ثم تصحيح الخطأ، بيئة تستفز العقل وتحث على ما يسمى التفكير خارج الصندوق، ويجد فيها كل موهوب ما يغذي ويشحذ موهبته، ثم من يقدر ويحترم ويحتضن تلك الموهبة.

أثبت ستيف جوبز على الدوام أنه رجل إدارة من الطراز الأول، وياما دخل في صدامات مع دهاقنة علوم الإدارة والصناعة في بلاده، و"مسح بهم الأرض"، وأثبتت الوقائع أنه كان على حق في قراراته وتكهناته التي استخف بها أولئك الدهاقنة، وكل ما فعله جوبز هو أنه قرأ سِيَر عمالقة الإدارة وخالط بعضهم، ثم كوّن مدرسته الخاصة التي كان عمادها "الحس الداخلي" وليس أي نص مدوَّن حول كيفية إدارة الأعمال.

يحلو للعرب مدمني جلد الذات التندر قائلين؛ إنه لو نشأ ستيف جوبز وعاش في سوريا، باعتبار أنه من أب سوري، لما أفلح حتى في صنع تبغ بنكهة التفاح للشيشة (الإشارة هنا إلى أن رمز شركته أبل هي التفاحة)، ولكن بالقدر نفسه، لو بقي أحمد زويل حامل جائزة نوبل في العلوم في مصر، لما أفلح في صنع مشروب فيمتو (نال نوبل لأمر يتعلق بالفيمتو ثانية)، ولو بقي الطيب صالح في السودان لربما لم يكن سيجد الفرصة ليصبح كاتب عمود صحفي.
مناهجنا الدراسية معلبات لا يخضع أمد صلاحيتها للتدقيق والمراجعة، وليس من حق الطالب أو حتى المعلم التشكيك في دقتها وصحتها، ولا يوجد مجال لطرح الأسئلة حول أي مقرر مدرسي

أنظمة التعليم والحكم والسياسة عندنا تقضي بأن الشهادات الدراسية العليا غايات عليا في حد ذاتها، ومن يحوزها يحوز المناصب العليا دون حاجة منه إلى التزود بالمزيد من المعارف، ونحن قوم نقيم وزنا كبيرا لـ"التخصص" ولا يقبل الواحد منا عملا في غير "مجاله"، وبعد دخول الحياة العملية يُقفل باب الاجتهاد الذي يكون أصلا مواربا - خلال مرحلة طلب العلم - بزاوية حادة جدا تسمح فقط بتسلل ما تسمح به المناهج الدراسية.

مناهجنا الدراسية معلبات لا يخضع أمد صلاحيتها للتدقيق والمراجعة، وليس من حق الطالب أو حتى المعلم التشكيك في دقتها وصحتها، ولا يوجد مجال لطرح الأسئلة حول أي مقرر مدرسي، بل إن التشكيك في صلاحية مقرر ما يعتبر تشكيكا في أهلية وزير التربية، ومن ثم في أهلية الحكومة؛ وعاقبة هذا وخيمة.

ولهذا ينجح بعضنا، ويصبح مالئا الدنيا وشاغلا الناس فور العيش في البلاد التي تموت من البرد حيتانها، ولا تنجب بلداننا نظراء لغيتس وجوبز وزكربيرغ.
التعليقات (0)

خبر عاجل