مقالات مختارة

انتخابات فلسطينيّة تحاكي الجنون

عمرو علان
1300x600
1300x600

«الجنون هو أن تكرّر الفعل نفسه أكثر من مرّة وتتوقّع نتائج مغايرة». يُنسب هذا الاقتباس خطأ إلى آينشتاين، لكن بغضّ النظر عمّن كان قائله الحقيقي، لعلّه أفضل ما يُوَصِّف حالة انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني المزمع إجراؤها قريباً.

 

لقد وقع الانقسام الفلسطيني، أصلاً، على ضوء نتائج انتخابات عام 2006 التشريعية، وكنتيجة لتباين النظرة بشأن الاستراتيجيات بين حركتَي «حماس» و«فتح»، ومنذ ذلك الحين، لم يطرأ أيّ تغيير على الظروف الداخلية الفلسطينية من ناحية المواقف، ولا الرؤى تجاه المشروع الوطني الفلسطيني، ولا الموقفان الخارجيان الدولي والعربي قد تبدّلا بشيء. بل على العكس، زاد انحدار السلطة الفلسطينية وارتباطها بالاحتلال داخلياً، وزاد الموقفان الدولي والعربي نكراناً للحق الفلسطيني وصلفاً تجاه القوى الفلسطينية عموماً، فكيف إذن يمكن توقّع أن تكون نتائج الانتخابات الجديدة أفضل من سابقتها، وأن تؤدّي إلى مصالحة فلسطينية؟ فما الذي يبتغيه، إذن، كلّ طرف من هذه الانتخابات بعيداً عن الشعارات المعلنة وحملات العلاقات العامّة؟ وما هو الحل للخروج من حالتَي المراوحة والتيه الواضحتين في الوضع الفلسطيني؟

السلطة الفلسطينية

 
مع إعلان الإدارة الأميركية السابقة عن صفقة القرن، هذه الصفقة التي تمثل التوجه الحقيقي للإدارات الأميركية المتعاقبة، وما تلاها من إفصاح الكيان الصهيوني عن مسعاه لضمّ أراضي الضفّة الغربية، ناهيك بسَنّ قوانين يهودية الدولة التي تهدّد أصل وجود فلسطينيّي أراضي الـ48 في ديارهم، ظهر بصيص أمل ولو كان ضئيلاً عن احتمالية كون السلطة قد استفادت من تجربتها الكارثية، خلال الأعوام الثلاثين الماضية، عندما أعلن محمود عباس عدم الالتزام بمخرجات أوسلو ووقف التنسيق الأمني، وقيل حينها إنّه يمكن التوافق بين سائر القوى الفلسطينية على أرضية الحدّ الأدنى في مقاومة الاحتلال على أساس المقاومة الشعبية. وعلى وقْع ذلك، تمّ عقد اجتماع أمناء الفصائل في بيروت، لكن سرعان ما تبدّد الأمل في أي تبدّل ولو كان طفيفاً في أداء السلطة، فقد استمرت السلطة في التعاون الكامل مع قوات الاحتلال بهدف إحباط أيّ محاولة لمقاومة الاحتلال، وتابعت قمع أيّ حراك شعبي على الأرض مهما كان سلمياً، وحتى مجرّد التظاهرة الشعبية السلمية للتضامن مع الأسير المضرب عن الطعام آنذاك، ماهر الأخرس، تمّ قمعها دون هوادة. وتبع ذلك تصريح حسين الشيخ مستهزِئاً بعقول كلّ الشعب الفلسطيني بلا استثناء، عندما أعلن ما أسماه «انتصار الشعب الفلسطيني» وعودة التنسيق الأمني رسمياً (ويا دار ما دخلك شر).


لقد بات جلياً من طريقة تعاطي السلطة الفلسطينية مع الواقع الفلسطيني، أنّ وظيفتها صارت محصورة بأمرين لا ثالث لهما؛ الأول: تحصيل المخصّصات، والآخر: تمهيد الأرضية في الضفة الغربية - بعلم أو بدون علم - كي يُنجِز الاحتلال مشروعه بابتلاع ما بقي من أراضي الضفة عبر منعها لأيّ شكل من أشكال المقاومة أو الحراك من أجل التصدّي لخطوات الاحتلال التي يستمر بتنفيذها على أرض الواقع.

 

وكلّ حديث عن مشروع وطني فلسطيني لدى السلطة ما هو إلا صرخات في البرّية، فحتى من كان يؤمن بطريق المفاوضات لتحصيل حقوقه لا يعمد إلى تجريد نفسه من كلّ ما لديه من أوراق ضغط أو تفاوض من تلقاء ذاته. وعلى هذا، صارت السلطة الفلسطينية تحاكي حكومة فيشي الفرنسية أو جيش لحد الجنوبي مع فارق أنّه كان لهذين الأخيرين مشروع، بغضّ النظر عن رأينا في مشروعيهما، بينما لا يوجد أي أفق مستقبلي أو مشروع للسلطة الفلسطينية، هذه ليست توصيفات يمكن إطلاقها بِخِفّة أو من باب الشعبوية، ولا هي دعوة إلى الاقتتال الداخلي الذي يجب اجتنابه بأيّ ثمن، ولا سيما في ظلّ وجود الاحتلال، لكن هذا توصيف لواقع حال يجب أن يؤخذ في الحسبان عند تقدير أيّ موقف.


وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة، نجد أنّ السلطة فعلياً باتت تمثّل مشروع الفلسطيني المهزوم. لذلك، نجد محمود عباس يقول إنّه سيفاوض ويستمر بالمفاوضات والاستجداء عساه يُحصِّل شيئاً من الحقوق الفلسطينية، ويُعلّل ذلك بكون الفلسطيني جرّب الطرق الأخرى ولم يحصل على مراده لأنّ الظروف الدولية والإقليمية والداخلية في غير مصلحته، بحسب فهمه غير الدقيق ولا الواقعي. لكن يغيب عن هذا التصوّر أنّه حتى خيار الاستسلام غير متاح للفلسطيني الموجود في الضفة وأراضي الـ48، فالكيان الصهيوني لم يَعُد يخفي مشروعه في هضم أراضي الضفة وترحيل سكانها عاجلاً أم آجلاً، وربما يكون مردّ التشويش في هذا التصوّر تجاهل أصل المشروع الصهيوني الذي هو مشروع إحلالي يقوم على اقتلاع السكان الأصليين للأرض وإحلال المستوطنين مكانهم، وقد ساعد في ظهور هذا التصوّر بروز بعض الأطروحات المشوِّهة لحقيقة الصراع من قبيل نظريات الفصل العنصري (الأبارتايد)، أو أنّ القضية الفلسطينية هي قضية كرامة أو مساواة. لكنّ المفارقة، هنا، أنّ خيار الاستسلام ربما يكون متاحاً لأهالي غزّة إذا ارتضوا العيش بذلّة تحت سيطرة الصهيوني، وليس لباقي سكّان المناطق الأخرى في أرض فلسطين. نكتفي بهذا القدر كي لا نستطرد عن أصل النقاش الحالي أكثر.


بناءً على هذا العرض، يمكن الخلوص إلى كون هدف محمود عباس والسلطة عموماً من إجراء الانتخابات هو تجديد شرعيتها، أو أخذ البيعة من حركة «حماس» وباقي الفصائل، بتأييد خطّها السياسي إن صحّ وصفه بالخط سياسي، ومن ثم لتعود إلى دوّامة ما يسمونه مفاوضات سلام وبلا أيّ أفق طبعاً، بينما تواصل تأدية دورها الوظيفي في تأمين الحماية لقوات الاحتلال والمستوطنين، ريثما يُجْهِز الكيان الصهيوني على باقي أراضي الضفة وعلى الوجود السكاني لأهالي الضفة وأراضي الـ48.

«حماس» وفصائل المقاومة

 
تمرّ «حماس» بأزمة خيارات واضحة وحقيقية، بسبب إخفاقها في فكّ الحصار عن قطاع غزة، هذا الحصار الذي تشارك فيه السلطة ذاتها وبعض الدول العربية المتواطئة، والذي بات يشكّل عبئاً على أهالي القطاع ويتسبّب في عجز الحكم في غزة عن تأمين الكثير من الحاجيات الأولية للغزّيين، ناهيكم بتعطيل حركة الدخول والخروج من وإلى القطاع، ما حوَّل قطاع غزة إلى سجن مفتوح بكل معنى الكلمة.

 

ويمكن المحاجّة بأنّ منشأ الحصار كان بسبب تقدير «حماس» الاستراتيجي الخاطئ الذي خاضت بموجبه الانتخابات التشريعية في عام 2006، التي لم تؤمّن للحركة أي حصانة ولا هي حمت ظهرها كما كان مرجواً، لكن بعيداً عن كلّ هذا النقاش يبقى الاحتلال هو مصدر الحصار الأول والأخير، ومفتاح فكّه ليس مع أحد سواه، لا مع السلطة ولا مع تلك الدول العربية المتواطئة، وهذا أمر أساسي لا يصحّ تجاهله عند صياغة أي استراتيجية لفكّ الحصار.


بناءً على ما سلف، يمكن استنتاج أنّ «حماس» تأمل من دخول الانتخابات فكّ الحصار أو تخفيفه على أقلّ تقدير، وهذا بالتالي يطرح فرضيّتين: إما دخول «حماس» الانتخابات على أساس المغالبة، وإمّا خوضها على أساس المشاركة بصيغة قائمة مشتركة مع «فتح» أو بصيغة أخرى يُتّفَق عليها.


فإذا كانت الانتخابات مغالبة، واستطاعت «حماس» الفوز بالأكثرية، عندها نكون أمام تكرار سيناريو عام 2006 بحذافيره، طالما لا تغيير في المواقف الداخلية للأطراف ولا تبديل للمواقف الدولية كما ذكرنا.

 

وأما إذا كانت الانتخابات بالمشاركة وارتضت «حماس» أن تكون أقلية، أو إذا ما فشلت في تحقيق الأغلبية بالمغالبة ففي الحالتين ستتحوّل إلى معارضة ضمن منظومة أوسلو، وعندها ستكون ملزمة باللعب وفق قواعدِه، وفي ظلّ وجود خطّين متوازيين على الساحة الفلسطينية لا يتقاطعان، أحدهما بات مرتبطاً بالاحتلال عضوياً وبالطبيعة لا يؤمِن بأيّ شكل من أشكال مجابهة الاحتلال حتى ولو كانت سلمية، والآخر يؤمِن بالمقاومة كسبيل لاستعادة الحقوق.


فستجد «حماس» وسائر فصائل المقاومة نفسها أمام ذات المعضلة الحالية، لكن هذه المرة ستكون قد منحت للطرف المقابل ذخيرة جديدة للاستقواء عليها، فهي ستكون مطالبة داخلياً ودولياً باحترام نتائج الانتخابات وتسليم قطاع غزة قبل أيّ تخفيف للحصار.

 

وهنا لن ينفع التذاكي فالحصار مفتاحه مع الاحتلال والآخرون هم مجرد تفصيل كما جادلنا، وتسليم القطاع لدى الكيان الصهيوني يعني تسليم كلّ فصائل المقاومة لسلاحها الموجود فوق الأرض وتحت الأرض ولا شيء دون ذلك.


لكن يردُّ البعض بأنّ دخول الانتخابات يمكن أن يمنح «حماس» وسائر فصائل المقاومة وضعاً في الداخل الفلسطيني يماثل وضع حزب الله في لبنان، وهنا يمكن قول الآتي: من الصعب مقارنة وضع قطاع غزة وحال فصائله بالحالة اللبنانية، لا من ناحية وجود سوريا على الحدود اللبنانية التي لا تشارك في حصار لبنان، والتي فوق ذلك تشكّل خطّ إمداد لحزب الله منها وعبرها، ولا من ناحية قوة حزب الله الذي بلغ مرحلة من القدرة التسليحية يستطيع معها تبديل معادلات إقليمية. ومع هذا، يجب الانتباه إلى أنّ من يطْبِق الحصار على غزّة هو الكيان الصهيوني بشكل مباشر، بينما يعدّ الأميركي الوحيد الذي لديه قدرة على ممارسة أشكال من الحصار على لبنان. وكان الأميركي يتَّبِع في الفترات الماضية استراتيجية المساكنة في لبنان لحسابات معقّدة ومخاوف لديه لا مجال لذكرها هنا، بينما تخلّى اليوم عن فكرة المساكنة، وهذا ما يفسر الضغط الاقتصادي الذي يمرّ به لبنان بالأساس، بالإضافة إلى عوامل داخلية لبنانية أخرى مساعِدة.

وخلاصة القول أنّ جميع قوى المقاومة في الإقليم تتعرّض، اليوم، لحصار مالي واقتصادي تتفاوت فعاليته وآثاره تبَعاً لظروف كلّ فصيل وجغرافياً موقع تواجده.

الخروج من حالة المراوحة

 
استعرضنا في ما سبق كيف أنّ دخول «حماس» الانتخابات لن يفضي إلى حلٍّ لحصار غزة، بل يرجّح أن يؤدّي إلى نتائج عكسية تعود بالضرر على المقاومة الفلسطينية. هذا ولم نفصل في المخاطر على المشروع الوطني الفلسطيني وثوابته وأهدافه لضيق المساحة. وقبل الخوض في الحلول، يجب الاعتراف بداية بأنّ إيجاد حلّ لأزمة غزة ليس بالأمر الهيّن كون الحصار مرتبطاً أولاً وأخيراً بالاحتلال ذاته وما هو إلّا أحد أعراضه، وهو ضريبة تدفعها قوى المقاومة إلى جانب ضرائب أخرى كثيرة يتحمّلها كلّ من يسعى إلى التحرير كما جادلنا. لكن يجب أيضاً الإشارة إلى أمر آخر جدير بالانتباه، وهو سماح كيان الاحتلال لقدر من المساعدات المالية بالوصول إلى سلطة رام الله، وحتى قطاع غزّة، كلّما أوشك الوضع على الانهيار، سواءً في الضفة أو قطاع غزة. وهذا يشير بوضوح إلى أنّ ما يخشاه العدو هو حصول انفجار في أيٍّ من هاتين الساحتين، ويبدو أنّ العدو بات مدركاً لمكامن ضعفه واختلال موازين القوى لغير مصلحته أكثر من إدراك بعض الفلسطينيين لهذه الوقائع، فنجد بنيامين نتنياهو يتراجع عن قراره الذي استثمر فيه كثيراً بإعلان ضمّ أراضي الضفة الغربية تحسّباً لانفجار الانتفاضة في أراضي الـ67، بناءً على تقديرات أجهزته الأمنية ولا شيء سوى ذلك، وهذا يدحض الفكرة القائلة بكون الضفة مترهّلة وغير حاضرة للتحرّك شعبياً. صحيح أنّ الحراك الشعبي دونه صعاب عديدة، أوّلها وجود جيش من مخبري أجهزة السلطة الذين باتوا يأتمرون بأمر الشاباك مباشرة، لكن هل يُعقل أن تعدم الفصائل الوسيلة في تحريك الشارع؟


وفي المقابل، فليس مردّ التذمّر الشعبي ضيق الحال المعيشي فقط، لكنّ حالتَي السكون والمراوحة اللتين يعيشهما الوضع الفلسطيني هما سببان لا يمكن تجاهلهما، حيث كون هذا الوضع يوحي بانسداد الأفق على الصعيد الوطني، وفي هذه الحالة تطفو المصاعب المعيشية على السطح لتأخذ موقع الصدارة على القضايا الوطنية الأخرى.

 

وهذه ليست دعوة للهروب إلى الأمام كما ربما سيحاجج البعض، فأيّ حراك شعبي في الضفة هذه المرة ستكون حظوظه في فرض الانسحاب على كيان الاحتلال من أراضي الـ67 مرتفعة للغاية، بناءً على استقراء التوازنات الدولية والإقليمية وحالة التراجع التي يعيشها الكيان الصهيوني.

 

ولا تغرّنكم حالة انهيار بعض الأعراب أمام هذا الكيان، فهؤلاء مصيرهم مرتبط بهذه المنظومة الاستعمارية وليس بمقدورهم تعديل موازين القوى بشكل حقيقي، ويصحّ فيهم القول الشعبي: «عصفور يسند زرزور».


بالإضافة إلى ما تَقدَّم، إذا ما وضعنا الحصار المفروض على قوى المقاومة الفلسطينية في إطاره الأوسع كجزء من الحرب المفروضة على كلّ قوى المقاومة في الإقليم أحزاباً ودولاً، كما نوّهنا في الفقرة السابقة، يصير فكّ الحصار عن غزة مصلحة مشتركة لكلّ هذه الأطراف مجتمعة، ويستدعي العمل من جهة الفصائل الإسلامية والوطنية الفلسطينية على محاولة صياغة استراتيجية موحّدة مع كلّ قوى المقاومة في الإقليم.

 

ندرك كون هذا الأمر يلزمه جولات وجولات من التباحث، وكون أيّ استراتيجية لفكّ الحصار بالتوافق مع القوى الداعمة ستكون من طبيعة الاستراتيجيات المتوسّطة المدى، لكن هذا يظلّ أجدى من الدخول في مغامرات غير محسوبة العواقب كالانتخابات، التي لن تؤدي إلّا إلى المزيد من إضاعة الوقت بحسب أكثر التقديرات تفاؤلاً.

خاتمة

 
حصار قوى المقاومة في غزة ليس بالأمر الثانوي ضمن استراتيجية العدو، لهذا لا يُتوقع أن تفلح الخطوات الملتوية ولا الهروب من حقيقة الأمر في فكّه، ويلزم لذلك خطوات من شأنها تبديل المعادلات على الأرض، ومشروع وطني متكامل.

 

واليوم، أمام الشعب الفلسطيني فرصة واقعية لفرض الانسحاب على الكيان الصهيوني من أراضي الـ67 عبر انتفاضة ثالثة، وهذا من شأنه بلا شك تبديل كل التوازنات القائمة، وما تمّ طرحه في هذا المقال هو عبارة عن أفكار للنقاش والتداول كون الأمر يحتاج إلى العديد من العقول للخروج باستراتيجية مجدية.

 

يقول المثل الإنكليزي: «يُغَلِّف الموت بالسُّكَّر»، كناية عن عدم مواجهة الأمور على حقيقتها، وهذا ما حاول هذا المقال تفاديه بدلاً من تبسيط الوضع القائم وتقديم حلول ظاهرها سهل وباطنها فشل، وتبقى هذه هي ضريبة التحرير والمقاومة التي لا مناص من دفعها.

 

عن الأخبار اللبنانية

0
التعليقات (0)