كتاب عربي 21

عن الكنداكات المعاصرات

جعفر عباس
1300x600
1300x600

قبل أيام قليلة تجمهر نفر من قبيلة الجعليين السودانية شاهرين السيوف، وقطعوا الطريق السريع الذي يربط الخرطوم بشمال السودان، في موجة ثانية من احتجاجهم لأن امرأة تتقلد منصب الوالي في منطقتهم، وقالوا بصريح العبارة "لن تحكمنا امرأة"، والجعليون هؤلاء أهل فروسية، وهم وحدهم من تصدى للغزو التركي في عام 1821، ومنذ وقتها والبعض منهم يحتكرون "المَرْجَلة، ولكن كان قادة الاعتراض على حكم ولية / والية ممن تضرروا من سقوط نظام عمر البشير في نيسان (أبريل) من عام 2018، خاصة والبشير ينحدر من تلك المنطقة، وأن تلك الوالية شرعت في استبعاد كبار رموز عصر البشير من دهاليز الحكم العليا ومحاسبة بعضهم في أمور تتعلق بالمال العام.

ومن المفارقات أنه كان للمرأة السودانية سهم كبير في الحراك الشعبي الذي أدى إلى سقوط نظام البشير، حتى صارت تعرف بالـ"كنداكة" وهو اللقب الذي كانت تحمله ملكات وأميرات مملكة النوبة القديمة، اللواتي كن يصرفن شؤون الحكم ويقدن الجيوش، وتقع ديار الجعليين تلك في قلب تلك المملكة، كما أن من يزعمون أنه لا يليق بهم أن تحكمهم امرأة، خضعوا خلال القرن الثامن عشر لحكم الملكة ستنا بنت عجيب (ستنا اسم مركب من ست + "نا" الجماعة، أي "سيدتنا نحن"، وبالتالي ينم عن تقدير للمرأة، تماما كما أسماء نسائية أخرى شائعة مثل ست النساء وست البنات وست الأهل وست أبوها).

التشكيك في أهلية النساء للمناصب الدستورية والتنفيذية العليا راسخ عند معظم الشعوب، ولهذا كان التهليل والتهويل الأمريكي لفوز كمالا هاريس بمنصب نائب الرئيس الأمريكي، مع أنه لا يختلف كثيرا عن منصب زوج ملكة بريطانيا أي "كمالة عدد"، حيث لا يوجد وصف وظيفي للمنصب يحدد صلاحيته وسلطاته، ولا يكون لشاغل المنصب ذكر إلا عند خلع الرئيس بسبب الإدانة القضائية أو الوفاة.

في العديد من دول العالم برزت نساء قويات الشكيمة والعزيمة كرئيسات لبلدانهن، ولعل أشهرهن مارغريت ثاتشر البريطانية وإنديرا غاندي الهندية، ولكن سجل أي منهما لا يضاهي سجل أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا التي وصلت إلى المنصب عام 2005، وقادت بلادها في ظروف عصيبة خلال مخاض إنشاء دولة موحدة تضم شطري ألمانيا اللذين كانا متنافرين ومتحاربين، وجعلت منها "قائد" الاتحاد الأوروبي ورقما عالي الأهمية في الساحة الدولية.

وخلال العشريتين الأوليتين من القرن الحالي ارتفعت أسهم النساء في مختلف القارات، وشغلن كراسي الرئاسة في بلدانهن، وعرف التاريخ مثيلات إيلين جونسون سيرليف رئيسة ليبيريا التي عصف بها الاحتراب الأهلي الموغل في الوحشية، ونجحت جونسون سيرليف في تضميد الجراح والتخفيف من حدة المرارات التي نجمت عن المذابح البشعة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الليبيريين في تسعينيات القرن الماضي ومطالع القرن الحالي.

 

في العديد من دول العالم برزت نساء قويات الشكيمة والعزيمة كرئيسات لبلدانهن، ولعل أشهرهن مارغريت ثاتشر البريطانية وإنديرا غاندي الهندية، ولكن سجل أي منهما لا يضاهي سجل أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا التي وصلت إلى المنصب عام 2005، وقادت بلادها في ظروف عصيبة خلال مخاض إنشاء دولة موحدة

 



وشهد العقدان الأول والثاني من هذا القرن وجود نساء في مناصب الرئاسة في البرازيل وبريطانيا والأرجنتين وكرواتيا وبنغلاديش وليتوانيا وترينيداد وتوباغو وكوسوفو والدنمارك وفنلندا وجمايكا وكوريا الجنوبية وسلوفينيا وقبرص والسنغال والنرويج ولاتفيا وأفريقيا الوسطى وتشيلي ومالطا وبولندا وسويسرا.

قبل نحو عامين تم تداول صورة لمستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل وهي تتوسط بعض وزراء حكومتها مصحوبة ـ من باب التهكم، بالحديث الشريف "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، فطلب موقع الجزيرة نت من الفقيه والمفكر الليبي د. محمد علي الصلابي صاحب المؤلفات العديدة، وأشهرها "فقه التمكين في القرآن الكريم"، و"البرلمان في الدولة الحديثة المسلمة" أن يكلمها في شأن ذلك الحديث الذي ينهى ظاهره اللفظي عن إسناد أمور الحكم للنساء.

يقول الدكتور الصلابي: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً، وبهذا يكون الحديث قد ورد في مناسبة تاريخية مُعينة أبلغ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الفرس كانوا يعيشون حالة من الانهيار السياسي والانحلال الأخلاقي، تحكمهم ملكية استبدادية كسروية فاسدة وتسود بلادهم صراعات على السلطة، بلغت بهم حد الاقتتال، وقد أسندوا أمر قيادتهم إلى ابنة كسرى، وذلك تعلقاً من الفرس بأوهام وثنية سياسية لا علاقة لها بشورى ولا رأي جماعي، فكان الحديث وصفاً لحالة الفرس المتردية وقراءة بصيرة في سنن قيام الدول وانحلالها، فهذا إخبار عن حال وليس تشريعاً عاماً.

ويستطرد الصلابي قائلا: إن فهم روح النص أمر في غاية الأهمية، "ولا يُؤخذ عموم النص قاعدة مُسَلمة، لأنه لو أخذ على عمومه لعارض ظاهر القرآن، فقد قص القرآن قصة امرأة (بلقيس ملكة سبأ) قادت قومها أفضل ما تكون القيادة وحَكمتهم أفضل ما يكون الحُكم، وتصرفت بحكمةٍ ورشد أحسن ما يكون التصرف ونجوا بحكمتها وحصافة رأيها من التورط في معركة خاسرة يهلك بها الرجال وتذهب الأموال ولا يجنون من ورائها شيئاً، وكان أساس حكمها التنظيم والشورى.

ويضيف الصلابي: "الواقع الذي نعيشه في عالم اليوم هو أن كثيرا من النساء هُنَّ لأوطانهن خير من كثير من الرجال، وبعض هؤلاء النساء أرجح في ميزان الكفاية والمقدرة السياسية والإدارية من كثير حكام العرب والمسلمين"، ثم يوضح أمرا آخر مهما، وهو أن أنظمة الحكم، خاصة تلك التي تسند الرئاسة للنساء، تكون فيها المسؤولية جماعية والولاية مشتركة تقوم بأعبائها مجموعة من المؤسسات والأجهزة، والمرأة إنما تحمل جزءاً من المسؤولية مع من يحملها، لهذا نعلم أن حكم المستشارة الألمانية ميركل أو رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أو غيرهن من النساء في العالم عند التحقيق والتأمل ليس حكم امرأة في شعب، بل حكم مؤسسات دولة وتنظيم محكم وإن كانت في رأس الهرم امرأة. 

وصعود النساء إلى مراقي السلطة العليا أمر مشروع بل وحتمي، خاصة وقد ازدادت فرص تلقي العلم بين النساء، حتى في الدول العربية التي تسود الكثير منها عقلية "جاهلية" لا ترى في النساء خيرا، ولعل تصدر البنات لقوائم النجاح في الامتحانات الأكاديمية الحاسمة خير دليل على أننا نستشرف عصر "نسونة" الكثير من وظائف الدولة التنفيذية العليا.


التعليقات (0)