أخبار ثقافية

مريد البرغوثي.. صوت فلسطين المختلف

ينحدر مريد البرغوثي من بلدة دير غسانة برام الله- جيتي
ينحدر مريد البرغوثي من بلدة دير غسانة برام الله- جيتي

بوفاة الشاعر الكبير مريد البرغوثي فقدت الساحة الشعرية العربية صوتا مميزا ظل يحفر صوته الخاص، ويصقله ويعيد التجريب حتى آخر دواوينه الشعرية.


في الفترة التي ظهر فيها شعر مريد البرغوثي ملفتا، كان من المغري بحق أن يكون الشاعر فلسطينيا، وقد كان القالب الشعري معدا مسبقا لركوب الأسطورة أو تمثل البطل الملحمي المخلص الذي تقترب صفاته من صفات الآلهة، كل هذا الصخب لم يكن ليصغي إليه هذا الصوت الشعري، بل ظل يصغي لبصمته الخاصة التي كانت أكثر وضوحا ونقاء وصدقا.


صدر ديوانه الأول سنة 1972 بعنوان الطوفان وإعادة التكوين، ومن الطبيعي إذا أردنا أن نرثي شاعرا أن نعمل على تعداد مزايا عبقريته منذ ديوانه الأول.. ولكن شاعرنا الكبير كان ديوانه الأول ديوانا عاديا جدا لا يخرج عن لغة الشعر الفلسطيني في السبعينيات، لغة شعرية متوسطة تكرس صورة الملحمة والبعث والثورة.


كانت الساحة الشعرية آنذاك تحتشد بأسماء كبيرة اتخذت من ذات اللغة والموقف الشعري طريقها ومضت فيه، وأسست لجانب مهم من شعرنا العربي. بعضها استمر وتألق مثل درويش حتى "لماذا تركت الحصان وحيدا" وبعضها ترك الشعر مثل وليد سيف حتى "وشم على ذراع خضرا"، لكن تكمن عبقرية مريد بإيمانه الصادق الذي لم يخيبه أبدا بموهبته الشعرية التي تجلت فيما بعد بديوانه "قصائد الرصيف" الذي صدر في بيروت سنة 1980.

 

اقرأ أيضا: وفاة الشاعر والأديب الفلسطيني مريد البرغوثي

ماذا يعني لنا أن يطلق شاعر فلسطيني سنة 1980 وفي بيروت قصائد تحتفل باليومي وبما نراه عاديا في حياتنا ويراه هو غير عادي.. ماذا يعني ذلك في ظل أصوات الرصاص والقنابل والحرب.. ماذا يعني سوى أن صوت الشعر الأعمق بداخله أقوى من صوت الرصاص والصخب.. ماذا يعني سوى اقتراح جبهة جديدة وأشد عمقا للرفض والمقاومة وإثبات الجذور وامتحان صلابتها ودون جعجعة سوى جعجعة الشعر الخالص الذي يرميه علينا مثل الورود والذي لم ندرك جمالها الا بعد ان التفت لها درويش سنه 1994 في " لماذا تركت الحصان وحيدا"، محاولا أن يكون ما بدأه مريد منذ الثمانينات هو خلاصه الشعري القادم.


يبدو أن مريد قد وجد صوته الخاص منذ ذلك الحين.. صوته الخاص الذي ميزه عن باقي الأصوات الشعرية الفلسطينية... و يا له من صوت مميز مصقول بالصدق والاحتفال بالشعر وبالحياة، الحياة التي ظن متلقو الشعر الفلسطيني أنها مرهونة بالموت وحده لا بالعيش أيضا، وبالأسطورة وحدها لا بالبساطة أيضا، وبالمأساة فقط لا بالملهاة أيضا.


من ديوان "قصائد الرصيف" قصيدة بعنوان (انفرادي) يقول:


من الذي ينتظر الوحيد
في الغرفة الوحيدة
حيث الملابس المبعثرة
والمقعد المحدد الزوايا
ولوحة التقويم في الجدار
مائلة، وتحتها منفضة مكتظة
وكوب ماء
من الذي ينتظر الوحيد
في الغرفة الوحيدة
حيث السرير مكتف بذاته
وحيث قرر المساء ان يجيء كل يوم؟

 
ظلت اللغة الشعرية ذات البعد الملحمي، إن صح التعبير، تراود مريدا في الدواوين القادمة، لكن صوت التفاصيل ظل أصيلا وثابتا بل ويكتسب بعدا فريدا عندما يصدر من رجل متعب أو من أم فقدت أبناءها في الشتات. في ديوان طال الشتات يصف هذه الأم وصفا بديعا يختلط به الحنين بعاطفة الأم المتفجرة والصامتة يقول من قصيدة (أمنا) بلسان حال الأم:


أود الخروج إلى كوكب خارج الأرض
حيث تعج الممرات بالراكضين إلى غرفةٍ من سواها
وحيث الأسرة فوضى
وكل المخدات تصحو مجعلكة
قطتها غائص في الوسط
تريد اكتظاظ حبل الغسيل
وأرزا كثيرا تفلفله للغداء
وإبريق شاي كبيرا كبيرا يفور على النار عصرا
ومائدة للجميع، مساءً ينقِّط مفرشها
سمسم الثرثرات


ديوان رنة الابرة يمكن اعتباره علامة مميزة في الشعر العربي، والقصيدة التي سمي الديوان باسمها تحتفل بصوت رنة الإبرة الذي يسمعنا لحنه وموسيقاه. تطريز الثوب الفلسطيني بالإبرة يصبح له رنة مميزة نكتشف فيها الخضرة والأزهار والمروج الشاسعة بألوانها المبهجة. كل ذلك بإطار شعري يحتفل بالموروث الشعري العربي التقليدي.. وخاصة بالقافية. ينسج لوحة بديعة طافحة بالجمال والارض والجذور الممتدة بلغة فاتنة تقطر شعرا صافيا.


وأما قصيدة غمزة فترسم لوحة عرس فلسطيني يمجد الحياة ويدخل في عمق الاحتفالات القروية البسيطة ما قبل الاحتلال، عندما كانت الأعراس، أعراساً عادية كأي عرس في أي قرية عربية.. استعادة للحلم البسيط الذي أصبح بعيد المنال.


(غمزة)
غمزة من عينها في ليلة العرس
وانجن الولد!
وكأن الأهل والليل
وأكتاف الشباب المستعيذين من الأحزان بالدبكة
والعمات والخالات والمختار
صاروا لا أحد
وحده اللَّويح
في منديله يرتج كل الليل
والبنت التي خصّته بالضوء المصفى
أصبحت كل البلد.


وخلاصة مقولة مريد الشعرية نجدها في قصيدته المطولة الشهوات. التي تجمع ذلك كله في بناء شعري يكاد أن يكون (مانفستو) للدعوة التي ظل يرددها دون أن نمل منها ودون أن نصاب بالسأم، وهي عدم تحميل البطل ما لا يطيقه من تصورات تحد من حركته ومن مكانته في التاريخ.


مريد البرغوثي تجربة شعرية متألقة في الشعر العربي تميزت ببصمة خاصة، ونكهة مختلفة يجدر بنا الالتفات لها فضلا عن الاحتفال بها.


رحمه الله رحمة واسعة، ولشعره الخلود والبقاء.

التعليقات (3)
sandokan
الأربعاء، 17-02-2021 02:13 م
مريد البرغوثي.. صوت فلسطين المختلف يذكرني بالفيلم الهندي الرائع : يوجد مئات الألوف من البيوت في العالم يعيش فيها الناس و سترى تعاستهم و سعادتهم .. كل إنسان هو مسافر في هذا العالم يعيش و ينشأ هنا يتزوج و يموت هنا ( مسافر ) هو قصة ثلاثة عاشق في هذا البيت واحد بعد الاخر مكث فثرة ثم رحل ( musafir ) .. يقول الشاعر عبد الحليم محمود : لقد خاض في التيار يوسف ذهلاً .. و لم يكُ ذا عَومٍ و لا راكب الفلك .
ابوجمال
الإثنين، 15-02-2021 04:25 م
احسنت التعبير
علي الأعسر
الإثنين، 15-02-2021 02:13 م
مقالة جميلة وملخصة..