مقالات مختارة

"استراتيجية التوتّر" في السودان

جلبير الأشقر
1300x600
1300x600

"استراتيجية التوتّر" تسمية أُطلقت على الممارسات التي شهدتها حقبة "سنوات الرصاص" التي شهدتها إيطاليا بين نهاية ستينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين، وهي سنوات تميّزت بتفشّي الظاهرة الإرهابية في البلاد.

وتشير "استراتيجية التوتّر" إلى تواطؤ الدولة العميقة مع مجموعات اليمين الأقصى التي قامت بتنفيذ عمليات إرهابية من أجل خلق مناخ ملائم لدفع الحكم باتجاه سلطوي وتسهيل انقضاضه على قوى اليسار، لاسيما الحزب الشيوعي الإيطالي.

وما يشهده السودان اليوم أشبه ما يكون بتلك الاستراتيجية حيث تقوم جماعات أقصى اليمين السوداني، أي أعمدة نظام عمر البشير السياسية المكوّنة من بقايا حزب "المؤتمر الوطني" وحلفائه في السلطة، ومنها "الحركة الإسلامية" التي يتزعّمها علي أحمد كرتي و"حزب الأمة ـ الإصلاح والتجديد" برئاسة مبارك الفاضل (انشقاق عن "حزب الأمة القومي" الذي تزعمه الإمام الصادق المهدي حتى وفاته قبل ما يناهز ثلاثة شهور).

وإذا صحّ أن "استراتيجية التوتّر" الراهنة في السودان لم تلجأ حتى الآن إلى الأعمال الإرهابية (باستثناء محاولة اغتيال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قبل ما يناهز العام) فهي تسعى الآن وراء تسعير التوتّر في البلاد من خلال استغلال النقمة الشعبية إزاء تدهور الحالة الاقتصادية والأوضاع المعيشية، وذلك بافتعال أعمال شغب وتعدّ على الأملاك العامة بغية خلق مناخ من الفلتان الأمني يبرّر مواصلة الجهاز العسكري والأمني الموروث من النظام السابق تشديد قبضته على السلطة وقضم الاتفاقيات التي اضطرّ إلى إبرامها مع "قوى إعلان الحرية والتغيير" عندما كانت هذه الأخيرة تمثّل الحراك الشعبي الثوري الذي أطاح بحكم البشير.

والحال أن الانهيار الاقتصادي يتسارع بحيث ضربَ أرقاما قياسية من خلال فيض معدّل التضخّم النقدي عن 300 بالمئة خلال الشهر المنصرم بالتوازي مع هبوط سعر صرف الجنيه السوداني إزاء الدولار الأمريكي من 260 جنيها للدولار الواحد في بداية هذا العام إلى ما يناهز 400 جنيه الآن في السوق الموازية (سعر الصرف الرسمي هو 55 جنيها للدولار الواحد).

وقد نجم هذا التردّي الخطير في حالة السودان الاقتصادية عن انتهاج مجلس الوزراء السوداني للسياسات التي أملتها عليه المؤسسات المالية الدولية، ولاسيما صندوق النقد الدولي، بعيدا عن إجراءات الرقابة على الرساميل والمصارف والأسعار التي لا بدّ لأي حكم ثوري أن يتّخذها لتفادي ما يشهده السودان بالضبط.

وحيث كانت وزارة المالية في الحكومة الأولى التي نشأت عن الاتفاق بين القوات المسلّحة وقوى "الحرية والتغيير" قد عُهدت إلى إبراهيم البدوي، الذي عمل كخبير اقتصادي لدى البنك الدولي عدة سنوات، فقد عُهدت في الحكومة الجديدة التي أدّت اليمين قبل أسبوع إلى جبريل إبراهيم، زعيم "حركة العدل والمساواة" إحدى جماعات دارفور المسلّحة التي عقد المجلس السيادي السوداني معاهدة سلام معها، علما بأن إبراهيم كان سابقا عضوا في الحركة الإسلامية التي شاركت في حكم عمر البشير.

ويجري ذلك في إطار تحييد متزايد للقوى التي قادت فعليا الحراك الشعبي الثوري في السودان، والمتمثلة بطرفين أساسيين هما "تجمّع المهنيين السودانيين" و"لجان المقاومة" والسير بخطى حثيثة نحو استعاضة الهيئات التي تشكّلت إثر اتفاقات صيف عام 2019 بهيئات مؤلفة من أطراف أكثر ملاءمة لاستمرار النظام القديم بحلّة جديدة شرط مشاركتها به.

وأبرز هيئة مستجدة اليوم "مجلس شركاء الفترة الانتقالية" الذي شكّله الفريق أول عبد الفتّاح البرهان، رئيس المجلس السيادي، في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي والذي يُراد به أن يحلّ محلّ هذا المجلس الأخير بذريعة تمثيل الجماعات المسلّحة الموقّعة على اتفاقية السلام، بما يعزّز إقصاء أطراف "الحرية والتغيير" غير المرغوب بها ويوطّد دور القوات المسلّحة، لاسيما "قوات الدعم السريع" التي يترأسها محمد حمدان دقلو (حميدتي).

والحال أن شقيق المذكور ونائبه في قيادة تلك القوات، عبد الرحيم، جرى تعيينه في "مجلس الشركاء" وذلك بزيادة عسكري جديد إلى الخمسة الأعضاء في المجلس السيادي. هذا وتسعى القوات المسلّحة وراء توسيع نطاق إمبراطورتيها الاقتصادية على غرار القوات المسلّحة المصرية وبالتعاون معها، بينما يسعى الأخوان دقلو وراء توسيع أشغالهما بالتعاون مع دولة الإمارات المتحدة.

ثمة تكامل واضح بين "استراتيجية التوتّر" بشقيّها السياسي والاقتصادي وبين الخطوات المتصاعدة في شدّ الخناق على الثورة السودانية، وقد انتهزت القوى المضادة للثورة الظروف التي خلقتها جائحة فيروس كورونا كي تمضي إلى الأمام على هذا النهج الرجعي.

فقد أصبح جليا أن حالة ازدواجية السلطة التي نشأت عن الانتفاضة قبل عامين قد انتهت ورجحت كفّة القوات المسلّحة بصورة متزايدة خلال العام المنصرم، الأمر الذي يحتّم على قوى الثورة الحيّة أن تتهيأ لمواجهة قادمة محتّمة، سوف يتوقف عليها مصير الثورة السودانية بين خنقها من قبل القيادة العسكرية وبين مواصلتها بتجذّرها.

ولا يسعنا هنا سوى أن نكرّر ما ختمنا به مقالا سابقا عن الثورة السودانية قبل أقل من عامين بقليل، حين ذكّرنا بالتحذير الشهير الذي صدر في عام 1794 عن سان جوست، أحد أبرز قادة الثورة الفرنسية في طورها الجذري: "إن الذين يقومون بأنصاف الثورات لا يقومون سوى بحفر قبورهم".

 

 

(القدس العربي)


التعليقات (1)
المهندس/ أحمد نورين دينق
الأربعاء، 17-02-2021 06:46 ص
هل الشعب السوداني صبور?:(الشعب الذي لا يصبر و يتحمل أخطاء نظامه الديمقراطي،صيد ثمين للأنظمة الدكتاتورية).الحلاق المبتديء يبدأ برؤوس أقاربه،في السودان لا يريدون ذلك!يريدون حلاقا حاذقا منذ البدأ!فأنى لهم ذلك?!حصاد ثورة أكتوبر1964 ثلاث حكومات في ظرف عام واحد..يطالبون الحكومات الديمقراطية ببرامج إصلاحية محددة الآجال(مئة يوم،سنة،..الخ)،فإذا فشلت،إستبدلت بأخرى متناسيين بأن البرامج الإصلاحية محددة الآجال تقدر عليها فقط الحكومات ذات المدخدرات،كما في دول الخليج أو الدول المتقدمة عموما..أما الحكومات المبتدئة(رزق اليوم باليوم)،فلا تقدر على ذلك..و المؤسف أن البعض من المثقفين يحرضون الشعب لتغيير الحكومة الديمقراطية لحاجة في نفوسهم(إيجاد موطيء قدم في التشكيلة الجديدة)..الحقيقة الحلوة الفائتة على البعض أن الشعب السوداني كان في حاجة الى الحرية فقط،وإستطاع إنتزاعها من عدوه بيديه،أما السلام و العدالة فبإستطاعته صناعتهما بيديه أيضا،فإعتصام نيرتتي كان رسالة شعب جبل مرة للمناضل عبد الواحد بأننا لن نتخلف عن قاطرة تنمية السودان من أجلك.سلام جوبا جاوب عن سؤال:كيف يحكم السودان و أثاب المناضلين على نضالهم..على الشعب الإيمان بتجربته .