مقالات مختارة

باقة ورود برية

سمير عطالله
1300x600
1300x600

لست أذكر اليوم الذي غابت فيه مهيبة سلامة، سوى أنه كان شتاء. حاولت أن أبحث عنه في السجلات وفي ذاكرة البعض، لكن يبدو أنه كان تاريخاً غير مهم لأحد. إنه أهم يوم في حياتي. اليوم الذي أصبحتُ فيه، وأنا في العاشرة، مهزوماً مدى العمر.


لأنني لم أتوصل إلى معرفة ذلك اليوم، أقوم في عيد الأمهات بزيارة مدفنها. عيدٌ عام، في أكثر قضايا الأرض خصوصية. لكن كل أم هي جميع الأمهات. ولا أخاطبها خلال الزيارة كثيراً لأنه، بالنسبة لها ولي، يوم مثل جميع الأيام.

 

يستحيل أن يمضي من دون أن تتراءى لي، مرتدية ثوباً طويلاً أبيض طرّزت عليه وروداً وحناناً وأمومةً. كانت تطرز الزهور والورود والفراشات، لكي نعيش. رأيتُ أبي في البيت مرة واحدة في خيال خاطف. وكان يعنِّفها.


أفسدتني سنوات الأمومة العشر. صارت الدنيا رماداً وأنا طفل. وصارت الذاكرة جريحة، وصار ظلم الوحدة مثل قسوة الصخب.

 

كانت لا تزال شابة، وكنت لا أزال طفلاً، ومن بعدها صارت الطفولة دمعاً، وصار الشباب ضياعاً. لم تعد للأشياء قيمة، ولا للسنين معنى. المهزوم لا يطيق الحياة. كائن هزيل مع قدره. كل ما يستطيعه هو الحزن. وكل أحزان الأرض لا تفي مهيبة سلامة.


جاءت أمي إلى الزواج من عائلة ميسورة تماماً. لا معنى هنا للتفاصيل. كل شيء أصبح الآن بعيداً، إلا حضورها، تعمل كيفما تنقلت، تشقى وتتعب، وفي الليل تقرأ الروايات الحزينة.

 

وإذا ما زارتها بنات شقيقاتها عند العصر، طالبنها بأن تغني لهن بصوتها الذهبي، الأغاني التي تفرح لها الصبايا، والقصائد التي تولد بموسيقاها. جمال اللحن من جمال الشعر.


كنا نسكن في منزل والدها الكبير. غرف كثيرة وخالية وعتم في الشتاء، وقنديل شحيح لكل المساحات. شرفة رائعة لها أعمدة رخامية منحوتة بأزميل شاعري.

 

لكن في العام التالي جاء أصحاب البيت «الأصليون»، وكان على الابنة المطلقة أن تنتقل بنا إلى منزل مستأجر قريب. هل قالت مهيبة سلامة شيئاً؟ هل سمعتها مرة تشكو هجران أبي؟ هل غابت ابتسامتها على سرير المرض؟ هل تذمرت من القلّة التي تملأ البيت وتملأ كوكبها الحزين؟ هل غضبت؟ هل علا صوتها إلا في الأغنيات التي تطلبها الصبايا، اللواتي يمنحن أسرارهن اللطيفة إلى خالتهن ذات العينين الخضراوين، خضرة ملوكية مثل بحيرة الإسكندرية في زمن الأساطير.


عشت مهزوماً بعد أمومة مهيبة سلامة. ولم أستطع أن أدرك أن كل شيء في هذه الدنيا يخلق وله بديل إلا الأم. وطفقت تائهاً في العالم أبحث عنها.

 

وعندما أيقنت مدى الضياع والهزيمة، صرت أكتفي بباقة من الورود البريّة في عيد الأمهات. الورود التي كانت تزين بها بيتنا الصغير.

 

لم تكن تملك ثمن ورد الحدائق. لو تدري مهيبة سلامة، أي أم أفقدتنا يوم استقلت، في سكينة، عربة الأحزان.

 

عن صحيفة الشرق الأوسط 

1
التعليقات (1)
المهندس/ أحمد نورين دينق
الأربعاء، 24-03-2021 04:47 ص
في الوجود:المعاني تشرح بعظها البعض ؛ لو سألني أحدكم عن معنى الرحمة ، لقلت له:إعتناء الأم بوليدها . لو قال لي:زدني:لقلت له:توفير الخالق أكسجين التنفس مجانا بلا درهم أو دينار للكائنات الحية . يقول الشاعر السوداني الهادي آدم في معنى الأمومة:من كان يسقيني و من ذا يطعم? و أنا على عهدي أصم و أبكم?من ذا يترجم صرختي و يحيلها معنى؟فيدرك ما أقول و يفهم?فإذا مرضت فلن يخالط جفنها?غمض فتسهد و البرية نوم?أمي و يا لفؤادها من جنة?كم نعمت بها و كم ذا أنعم?!كم كنت أملأ ليلها و نهارها?عبثا يضيق الصدر عنه فتحلم?!أشكو فتشكو ما أحس كأنني?من جسمها عضو يزال فيعدم?حتى إذا كشف السقام قناعه?عن مقلتي و زال ما تتوهم?!طفرت دموع البشر ترسم فرحة!?فيها الحنان العبقري مجسم?هي شمعة و لهى تذوب لكى أرى?خطوي و في رقصاتها أتقدم?حاشا الأمومة ما نسيت حقوقها?و عهودها فهي الأبر الأرحم.ما أصدق قول الشاعر:(كم كنت أملأ ليلها و نهارها!) ليدل على تمام الجحود في مقابل تمام الرحمة!من أراد إسداء جميل الأمهات لنا ، فليجتهد في إدرار المزيد من الرحمة للوجود من حوله جميعا من غير فرز .