مقالات مختارة

لا عجب أن الجنازة في نجامينا والعزاء في باريس!

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

لا غرابة أن الحزن في باريس على مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي كاد أن يفوقه في العاصمة نجامينا. ولا عجب كذلك أن الرئيس إيمانويل ماكرون غرَّد بسرعة مُرثيا ديبي كأنه قائد كتيبة فرنسية قُتل على جبهات القتال دفاعا عن فرنسا من غزاة أجانب.

كان ديبي طاغية آخر في جزء من العالم ابُتليَ بكل أنواع الآفات، وعلى رأسها أنظمة حكم زاوجت بين الفشل والطغيان والعمالة للقوى الاستعمارية السابقة، خصوصا فرنسا. ديبي نجح في جمع كل هذه الصفات وأكثر. كانت له يد وعين في كل أزمات دول الجوار. كانت بالأحرى يد فرنسا وعينها. كان ديبي بيدقا فرنسيا في منطقة الساحل الإفريقي، تفوَّق على نظرائه الإقليميين في خدمة فرنسا ولم يترك لهم فرصة لمنافسته. رافق ضباط مخابرات فرنسيون ديبي في عمله اليومي منذ استلامه الحكم في انقلاب كانون الأول (ديسمبر) 1990 وشاركوه لحظات الحكم وأسراره.

لكل هذا، مفهوم الحزن الفرنسي على مقتله الغامض، رغم أن باريس لم تخسر برحيله، بل جددت إحكام قبضتها على تشاد وأعادت ترتيب أوراقها هناك. فمحمد إدريس ديبي، الذي خلَف والده القتيل، ليس سوى نسخة مستحدثة عن والده لكن بالمواصفات القديمة.

خلال تشييع جنازة ديبي قال الرئيس ماكرون إن بلاده «لن تدع أحدا يهدد استقرار تشاد الآن أو لاحقا». قليل من الشجاعة والنزاهة كان سيتطلب منه القول إن فرنسا لن تدع أحدا «يهدد مصالحها في تشاد الآن أو لاحقا».

في اليوم نفسه غرَّدت الرئاسة الفرنسية بأن «مجموعة دول الساحل وباريس تدعم خلال اجتماع مع المجلس العسكري في تشاد عملية الانتقال المدني ـ العسكري في البلاد».

نحن أمام اجتهاد جديد في الفقه السياسي والدبلوماسي أهدى التشاديين والأفارقة مصطلح «الانتقال المدني ـ العسكري». المدني والعسكري مثل الماء والزيت لا يلتقيان، لا في تشاد ولا في غيرها، لا سابقا ولا لاحقا. رغم ذلك لا ترى فرنسا، أرض الديمقراطية ومعقل الحريات والحقوق والإشعاع والأنوار، ضررا أو عيبا في الجمع بينهما وهي تعلم أنها تخوض في دجل سياسي لتواصل وضع يدها على طغمة فاشلة والأرجح عميلة.

الأمر ليس جديدا وغير مفاجئ. لقد سبق لفرنسا أن أوجدت، بشكل أو بآخر، أنظمة حكم ديكتاتورية في دول إفريقية عدّة ورعتها.. من مالي والنيجر نزولا إلى تشاد وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وجمهورية إفريقيا الوسطى والكونغو وروندا وغيرها. لم يحدث انقلاب أو تغييرٌ في الحكم هنا أو هناك لم تكن فرنسا، في أفضل الحالات على علم به، وفي أسوئها شريكة فيه. أسوأ من هذا، رعت فرنسا حروبا أهلية وشجعت أعمال إبادة داخل المجتمع الواحد، أبرزها مذابح الهوتو ضد أقلية التوتسي في رواندا سنة 1994.

وثائق داخلية للمخابرات الفرنسية وأخرى دبلوماسية تعترف بأن الضباط الفرنسيين، وبتوجيه من رؤسائهم في باريس، رفضوا توفير الحماية للتوتسي وشجعوا الجناة على التسلل إلى الكونغو المجاورة لتفادي المساءلة. الموضوع مطروح إلى اليوم على مكاتب كبار مسؤولي الدولة الفرنسية لإيجاد طريقة تلم الفضيحة. وهناك الآن أخذ وردّ بين سلطات بوركينا فاسو وباريس حول كميات هائلة من الأرشيف المتعلق باغتيال الرئيس البوركينابي توماس سانكارا في خريف 1987. هذا الأرشيف موجود بحوزة الفرنسيين الذين يبدو أنهم يُفاوضون من أجل تسليمه أو تسليم جزء منه. لماذا «تستولي» فرنسا على أرشيف انقلاب في دولة أفريقية لو لم يكن في الأمر ما يثير الشبهة؟

الحكمة: ليس لدى فرنسا الرسمية أيَّ مشكلة في الجمع بين المتناقضات عندما يتعلق الأمر بشعوب سوداء رأسمالها التخلف والجوع والكوارث الطبيعية والأمراض والجهل واليأس من الحياة. من وجهة نظر فرنسية هي شعوب لا تستحق حياة كريمة وحقوقا سياسية واجتماعية وحريات، لأنها إذا نعمت بهذه المكاسب فقد تصبح سيّدة مصيرها وتخرج عن قبضة المستعمر السابق. كل شيء مبنيٌّ وفقا لما تراه العين الفرنسية، وإلى الجحيم الشعارات والمُثل طالما أن الأمر لا يتعلق بمجتمع من الجزء الشمالي للكرة الأرضية.

بدل أن يجعل ماكرون من مقتل ديبي ونهاية حكمه البائس فرصة لمساعدة تشاد على بدء تجربة جديدة أقل بؤسا وطغيانا وفشلا، اختار الطريق السهل.. دعم الانقلاب. وبدل التشجيع على خطة تبعث قليلا من الأمل في نفوس التشاديين، اختار الانحياز لجنرال إنجازه الوحيد في الحياة أنه نجل الرئيس القتيل. بتزكية من فرنسا وماكرون وطغمة محلية، سيقود محمد إدريس ديبي فترة انتقالية من 18 شهرا تُتوَّج بانتخابات يترشح لها وحده و«يفوز» بـ95٪ من الأصوات ليبدأ 30 سنة جديدة من حكم فاشل لا ينتهي إلا بموته أو الانقلاب عليه. تعمَّد ماكرون تفويت الفرصة على تشاد بدعمه سلطة الأمر الواقع، لأن مصالح فرنسا في تشاد وإفريقيا مرتبطة بشعار «الطغيان يجلب الاستقرار» وتكريسه.
محاربة الإرهاب والجماعات الجهادية مجرد ذريعة لا تقنع أحدا. فرنسا تتحكم في إفريقيا منذ زمن بعيد.. قبل الجماعات الجهادية. ولو لم يكن الإرهاب موجودا، لأوجدته فرنسا أو اخترعت مسوّغا يتيح لها التحكم في مصائر الشعوب الإفريقية وخيراتها.

تتوارد أنباء عن أن الاتحاد الإفريقي ودول «المنظومة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» المعروفة اختصارا بـ«إيكواص» (15 عضوا) تضغط على ديبي الابن من أجل بعض التنازلات. يريدون منه تقليص مدة المرحلة الانتقالية إلى أقل من 18 شهرا، وأيضا الحد من صلاحياته المطلقة والواسعة. لكن من المستبعد أن تثمر ضغوط «الإيكواص». هناك أسباب تعيق جهودها، منها أن بعض الرؤساء في دول بالاتحاد الإفريقي و«الإيكواص» وصلوا إلى الحكم على طريقة ديبي الابن. ومنها أيضا أن فرنسا، مرة أخرى، لن تفرّط في رجلها الجديد بتركه تحت ضغوط رؤساء ليسوا أفضل منه. فرنسا التي لم تفرّط في إفريقيا في العقود الماضية لا يمكنها أن تفعل وقد تكالبت على القارة السمراء قوى صاعدة مثل الصين وتركيا وروسيا.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)