كتاب عربي 21

الأُمِّية الدينية تغذي سوق الدجل

جعفر عباس
1300x600
1300x600

كان البروفيسور علي كوباني المتخصص في الطب العدلي، والذي بكاه أهل السودان قبل أيام قليلة يتحف قراءه الكُثْر بخواطر سلسة عن تجاربه الطويلة في العمل في المشارح، ومن طريف ما كتب أنه أتاه ذات يوم أربعة أشخاص ذوي لحى محفوفة بعناية، ويرتدون ملابس بيضاء نظيفة وعلى كتف كل واحد منهم وشاح أخضر، وقال له أكثرهم لحما وشحما إنهم استصدروا من السلطات المعنية الإذن بنقل رفات "شيخهم" الذي توفي قبل تسعة أشهر والمدفون في المقبرة العامة، إلى الضريح الذي اكتمل بناؤه، وإنهم يريدون منه نبش الجثمان حسبما تقتضي الأصول المرعية ليتسنى لهم تشييعه إلى مكان يليق به.

بعد أن اطمأن إلى سلامة الأوراق الخاصة بذلك الإجراء، قال لهم كوباني إن عليهم تجهيز كفن جديد وصندوق خشبي متين لوضع الرفات فيه، مشيرا إلى أن العملية يجب أن تكون دقيقة لأنه من المؤكد أن الجثمان تحلل ولم تبق منه سوى العظام، هنا صاح فيه ذلك الرجل: كُف عن قلة الأدب، فجثمان شيخنا (المبروك) لا ولن يتحلل، ولما بان الغضب على وجه كوباني تدخل أكبر أولئك الأربعة سنا وقال: أنت ستتولى نبش القبر وسترى بنفسك أن شيخنا يرقد فيه في كامل هيئته الجسمانية.

جاء اليوم الموعود وتوجه كوباني ومساعدوه إلى المقبرة، ووجدوا حولها خلقا كثيرا من مريدي الشيخ المتوفى يقرعون الطبول ويطلقون البخور وينشدون الأناشيد التي تمجد الشيخ الراحل، وما كان من كوباني إلا أن طلب من الرجال الأربعة الذين كانوا يتولون الإشراف على كامل العملية، أن يعملوا على إبعاد المريدين عن القبر حتى يتمكن هو ومساعدوه من نبش الجثمان.

بدأت عملية النبش في حذر بالغ حتى وصلوا إلى الرفات، وكان الكفن الأصلي قد اهترأ واختفى بالكامل ولم يبق من الجثمان سوى كومة من العظام، قام كوباني بلفها بعناية، فإذا به يسمع أحد الرجال الأربعة يهتف بصوت جهوري: الله أكبر فقد وجدنا شيخنا سليما في كامل هيئته، فرددت الحشود التكبير وعلا دوي الطبول احتفاء بتلك "المعجزة"، ويقول كوباني إن من أطلق تلك الكذبة نظر إليه نظرة وعيد مؤداها: لو فتحت فمك بكلمة تنفي ما قلته فستنزل أنت في القبر الذي كان فيه شيخنا.

الدجل في السودان صار مؤسسيا منذ أن أحاط الديكتاتور الراحل جعفر نميري نفسه بعدد من الشيوخ الكذبة، ولم يكن نميري يقوم أو يقعد أو يرقد في سنواته الأخيرة إلا وفي يده عصا أعطاها إياه شيخه بوعد أنه لن يبرح كرسي السلطة طالما هو ممسك بتلك العصا، ثم استلم العميد عمر البشير السلطة باسم الجبهة الإسلامية القومية، وكما يحدث في كل سلطة انقلابية فقد انقلب البشير ونفر من كبار معاونيه على قيادة الجبهة ممثلة في الدكتور حسن الترابي، وشيئا فشيئا صار حكم الحزب الواحد سلطة الفرد الواحد، ورغم تبجح البشير المتكرر بأنه يحكم بما أنزل الله، إلا أنه وفور أن أحس بأنه بلا قاعدة جماهيرية بدأ في الاستعانة بطائفة من الشيوخ من بينهم ب. غ. الذي أذاع قبل نحو خمس سنوات أنه بشر البشير بأنه سيحكم لـ 31 سنة و25 يوما (سقط البشير وحكمه قبل أن يكمل ثلاثين سنة).

 

إذا كان أهل الحكم والسلطان المحروسين بالدبابات والطائرات والجواسيس ضعفاء أمام غواية التحصين بالسحر وضد السحر فلك ألّا تعجب لما جاء في دراسة للمنتدى القومي للفكر والتنمية بأن العرب ينفقون خمسة مليارات دولار سنويا على أعمال الدجل والشعوذة،

 



وعلى المستوى الشعبي فإن الاعتقاد بأن هناك بعض بني البشر لديهم القدرة على الرجم بالغيب وتغيير مجاري الأحداث متفش وبائيا، ولا أحد من باعة الوهم أولئك يرعوي عندما يسمع بالدجال الجزائري الذي لجأت إليه عروس عانت من تشنجات بعد أسبوع من عقد قرانها، ثم اختفى أثرها، وبعد عدة أيام تم العثور عليها محتجزة في مستودع ضيق واتضح أن الدجال اغتصبها عدة مرات، أو باللبنانية التي استعانت برجل ذاع أمر قدراته الخارقة ليحبط مسعى زوجها للاقتران بأخرى، فأعطاها مساحيق لتضعها في مشروب تقدمه لزوجها، ونجح "المفعول" في إحباط مشروع الزوجة الثانية، لأن الرجل مات مسموما، واتضح أن الدجال تعمد قتله كي يتسنى له الاقتران بالزوجة التي لجأت إليه، واستطاع دجال الاستيلاء على 33 ألف دولار من فلسطيني وزوجته بزعم إخراج الجان من جسد الزوجة، رغم إقامتها في فلسطين ووجود الدجال فى القاهرة (ربما بالـ"بلو توث")، بل مضى الدجال إلى أبعد من ذلك وطلب من زوج السيدة القدوم إلى مصر، لأن أنظمة الاستشعار عنده أفادت بأن بيت الزوجين في فلسطين يجلس فوق كنز من المجوهرات، ونجح بذلك في الحصول على مبالغ إضافية إلى أن انكشف أمره وتم اعتقاله.

وإذا كان أهل الحكم والسلطان المحروسين بالدبابات والطائرات والجواسيس ضعفاء أمام غواية التحصين بالسحر وضد السحر فلك ألّا تعجب لما جاء في دراسة للمنتدى القومي للفكر والتنمية بأن العرب ينفقون خمسة مليارات دولار سنويا على أعمال الدجل والشعوذة، وهو تراكم مبالغ صغيرة وكبيرة تدخل جيوب الدجالين مما يشي بأن الملايين من العرب "المسلمين" ضالعون في سوق الشعوذة، بل صارت هناك قنوات فضائية تلفزيونية عربية متخصصة في فك السحر وإحباط العين الحاسدة وتكتيف المراد شل قدراتهم على الإتيان بأفعال معينة، وبداهة فإن الدجالين الذين يظهرون على الشاشات ينجحون في استدراج كثيرين إلى زيارتهم حيث مقار إقامتهم ليتم تحديد الرسوم اللازمة للاستعانة بالجن لتنفيذ المهام المطلوبة.

تفيد دراسة أعدها مركز "البحوث الاجتماعية والجنائية" أن هناك نحو ثلاثمائة ألف شخص في مصر يدعون القدرة على علاج المرضى بتحضير الأرواح، و"إخراج الجن من جسد الإنسان"، إضافة إلى عدد مماثل يزعمون قدرتهم على علاج المرضى بآيات من القرآن والإنجيل وبعض الأعشاب "المبروكة"، وفي هذا تقول آمنة نصير، أستاذة الفقه بجامعة الأزهر إن الأميّة ليست وحدها المسؤولة عن الاتجاه إلى السحر والاعتقاد في التمائم. بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في أميّة العقيدة والفكر.

هذا زمان يحسب فيه كثير من المسلمين أنهم يقومون "بالواجب وزيادة" لأنهم يرددون آناء الليل وأطراف النهار: بسم الله / الحمد لله / استغفر الله / ما شاء الله، ثم، وهم لا يدرون، يشركون بالله أناسا أبعد ما يكونوا عن الله، فيعدونهم قادرين على تغيير مجرى الأقدار، والتكهن بما سيصير من أحداث هي في رحم الغيب، ويمارسون في سياق ذلك "تنجيس" الأموال بينما لصوص المال المحترفون يغسلونها.


التعليقات (1)
محمد قاضي
السبت، 01-05-2021 03:33 م
رزق النصابين على الهبل.