قضايا وآراء

الصيام وتجديد الإيمان بالغيب

خالد حنفي
1300x600
1300x600
قضية الإيمان بالغيب قضية مركزية في التصور الإسلامي، وأركان الإيمان كلها غيب ولهذا بدأت سورة البقرة بالتركيز عليها وخُتمت كذلك بالتأكيد عليها، وفي ثنايا السورة الحديث عن أركان الإسلام ومنظومته التشريعية، كما في قوله تعالى: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (البقرة: 2- 3), وختمت السورة كذلك بالتركيز على الإيمان بالغيب في قوله تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" (البقرة: 285).

وعالَم الغيب يقابل عالَم الشهادة، وهو كل ما غاب عنا كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: "الغيب كل ما أُمِرْتَ بالإيمان به مما غاب عن بصرك، وذلك مثل الملائكة، والجنة، والنار، والصراط، والميزان، ونحوها". ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى تعميق الإيمان بالغيب لدى شبابنا في عالم التشكيك والإثارة وعدم اليقين إلا في المشاهد المحسوس.

وقد شرع الله الكثير من التشريعات والأحكام لترسيخ واختبار الإيمان بالغيب كما في قوله تعالى: "يأيها الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم" (سورة المائدة: 94). فالذي يخشى ربه بالغيب سيمتثل مراقبة لله في أمر الصيد وإن لم يره أحد.

الإيمان بغيوب أحداث الدنيا كالإيمان بغيوب الآخرة

والغيب هنا لا يقصد به غيب العوالم الخفية في الآخرة فحسب كالجنة والنار والحساب والصراط، وإنما أيضا غيوب الدنيا وأحداثها: كالرزق، والنصر، وعقوبة الظالم الدنيوية والأخروية، فالله سبحانه وتعالى أقسم على أمر الرزق فقال: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ" (الذاريات: 22- 23). وفي الحديث: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفساً لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ"، لكنَّ ضعف الإيمان بالغيب عند بعض الناس جعلهم يخافون على أرزاقهم ويخشون فواتها ويسعون إلى تأمينها وضمانها بوسائل قانونية مشروعة أو غير مشروعة. وقد ألمح إلى هذا المعنى فضيلة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى حين قال: الوظيفة تضعف العقيدة. ولمـَّا سُئل: كيف ذلك؟ قال: هل رأيتَ موظفاً يقول في الصباح: اللهم ارزقني!

والنصر كذلك غيبٌ والقرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي تقطع بنصر الله للمؤمنين كقوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم: 47)، وقوله: "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر: 51)، وقوله: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات: 171-173)، وقوله: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ" (الروم: 60).

ولكن هذا النصر وإن كان حدثاً دنيوياً مشهوداً فهو غيبٌ قدَّر الله وقته عند استيفاء شرطه بحق المؤمنين، فاليقين فيه لا يصح أن يتزعزع لتأخره عنا بنظرنا القاصر، وهو المعنى الذي قصده ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في الحكمة السابعة من حكمه العطائية: "لا يشككنّك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه؛ لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك وإخماداً لنور سريرتك".

وكذلك انتقام الله من الظالمين غيبٌ علينا الإيمان به؛ لأن الله تعالى جزم به في كتابه فقال: "وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ" (إبراهيم: 42)، وقال: "يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" (غافر: 52) وقال: "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ" (غافر: 18).

وليس شرطاً أن نرى عقوبة الظالم في الدنيا وهذا لا يناقض العدالة الإلهية كما يزعم البعض، بل قد يكون عدم رؤية العقوبة في الدنيا أتم وأشد في عدم التخفيف على الظالم، وهذا بحد ذاته عقوبة له؛ لأنه حرم الهداية والتوبة في الدنيا كما في قوله تعالى: "وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم: 27).

وتأمل هذا الحوار القصير مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى يقول: حدث أن سألني شاب مغرور: أتعرف الله بدليل عقلي؟ فقلت له وأنا أتضاحك: أعرفه عن خبرة حسية.. قال: ما معنى خبرة حسية؟
قلتُ: إن اللقيط يعرف بالدليل العقلي أن له أباً، وإن كان لم يره.. لكن الابن الشرعي لا يحتاج إلى هذا الاستدلال، لأنه مغمور بحنان أبيه وإحسانه، يحسهما صباحاً ومساء، إنه يعرف أباه عن خبرة حسية، كما عبرت لك..

إنني سألت الله أموراً لا يقدر عليها إلا هو، وأجابني تبارك اسمه إلى ما طلبت، فكيف لا أعرفه بعد؟

كيف يجدد الصيام الإيمان بالغيب؟

إن من أهم مقاصد الصيام ومعانيه العودة إلى مركزية الإيمان بالغيب في التصور الإسلامي؛ واستعادة التوازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين ما غاب عنا وما نشهده بأعيننا، فالصيام يجدد الإيمان بالغيب في نفس الصائم.

من صور الاتصال بين الصيام والغيب ما يلي:

التحقق بالتقوى: حدَّد القرآن الكريم القصد الأعظم من الصيام في قوله تعالى: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: 183) والتقوى هي: استشعار معنى المراقبة لله عز وجل في الصيام، وقد رفع الله قدر الصيام من بين سائر أركان الإسلام، فقال في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وذلك لأنه عبادة سرية خفية لا يطلع على الصائم فيها إلا المولى الجليل سبحانه وتعالى. فالصائم يخشى الله ويدرك أنه يراه فلا يأكل ولا يشرب ولا يقترب من زوجته طاعة ومحبة وخشية لله، وطمعا في ما وعده به في عالم الغيب الأخروي.

قال تعالى: "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)" (ق: 31- 35).

وقد حدثني شاب يعمل مهندساً في شركة ألمانية كبرى، لاحظتْ رئيسته في العمل أن معدل إنتاجه يرتفع في شهر واحد على مدار العام لسنتين متتابعتين، ولمـَّا سألَته، وفكّر طويلا وانتبه إلى أن هذا الشهر في السنتين هو شهر رمضان وشرح لها عبادة الصيام، فردَّت زيادة معدل الإنتاج إلى عدم الأكل والشرب والذهاب للخلاء وإنفاق الوقت في العمل، فقال لها: لا، السبب أني أعيش بمعنى أن الله يراني وأنا صائم ويراني وأنا أعمل، فأخاف على صيامي فأجوِّد عملي وأحاسب نفسي على الدقيقة وأخاف أن أكسب مالاً من حرام بسبب التقصير في العمل.

وحالة الخشية لله بالغيب التي سيطرت على هذا الشاب فظهرت في عمله هي ما يجب أن يعيشه الصائم، فيتجدد ويتعمق إيمانه بكل ما غاب عنه ووعده الله به في الدنيا أو الآخرة.

التوجيه النبوي للشباب العاجز عن الزواج بالصوم في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والعلاقة بين الصيام وبين كسر الشهوة لدى الشباب وأداء الصيام لوظيفة الزواج هي: أن الصوم يرفع منسوب المراقبة لله عز وجل عند الشاب فيراقب نظراته وأفكاره، فتسكن غريزته وتتراجع شهوته حتى ييسر الله له سبيل الزواج. فالصوم يصبره على ما أعده الله له إن غض بصره وحفظ فرجه وكل ذلك غيب غير مشهود للمكلف.

تحري ليلة القدر والتعبد فيها: يحرص المسلمون حول العالم على تحري ليلة القدر والاجتهاد في العبادة فيها وأكثر ما يظهر هذا التحري في ليلة السابع والعشرين من رمضان؛ وذلك لأن الله تعالى عظَّم ليلة القدر وقال عنها: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)".

فعموم المسلمين الذين يتحرون ليلة القدر يتحرونها إيماناً منهم بغيب لم يشاهدوه، فلم يروا تنزل الملائكة أو تقسيم الأرزاق وإنزال الأحداث من اللوح المحفوظ، وهذا انتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن الظاهر إلى الباطن.

ترك الشهوة والمتعة العاجلة المحسوسة المشهودة اختياراً، طلبا وأملا في الفوز بالمغفرة والعتق من النيران في الآخرة وهو أمر غيبي. فالصائم يترك الطعام والشراب والشهوة وهي أمور مباحة محسوسة ويصبر عليها طوال شهر رمضان خشية لله بالغيب، ينتظر فرحته الصغرى في الدنيا يوم العيد وفرحته الكبرى يوم القيامة، وكل ذلك غيب.

دعوة الصائم عند فطره: يحرص المسلم الصائم على الدعاء عند فطره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّره بأن دعوته عند الفطر لا ترد؛ والدعاء إيمان لله عز وجل بأنه سميع بصير قادر، يسمع دعاء ونداء من ناداه وقادر على تحقيق وإجابة من سألوه، وبقدر إيمان الداعي بالغيب يكون افتقاره واضطراره في الدعاء وتلذذه بالمناجاة، وبقدر ضعف وفتور إيمانه بالغيب يقل دعاؤه ولا يظهر افتقاره.

واليقين الغيبي في بلوغ الدعاء عنان السماء هو الذي يحمل الداعي على الاستمرار فيه، وإن لم يجد إجابته مشهودة في الدنيا كما يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: "لا يَكُنْ تأَخُّرُ أَمَدِ العَطاءِ مَعَ الإلْحاحِ في الدُّعاءِ مُوْجِباً لِيأْسِكَ. فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجابةَ فيما يَخْتارُهُ لَكَ لا فيما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ. وَفي الوَقْتِ الَّذي يُريدُ لا فِي الوَقْتِ الَّذي تُرْيدُ".

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وبلغنا ليلة القدر، وعجل برفع البلاء والوباء عنا وعن البشرية جمعاء، إنك سميع الدعاء.
التعليقات (2)
محمد العوامي
الجمعة، 07-05-2021 12:41 م
جزاكم الله خيرا دكتورنا الفاضل ونفعنا الله بعلومكم
إيمان عمر
الجمعة، 07-05-2021 03:53 ص
مقال رائع، بارك الله فيكم فضيلة الدكتور خالد، وزادك الله تفقها وعلما، ونفع بك الأمة.