قضايا وآراء

كيف تتحرَّر فلسطين؟

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
بدأت كتابة هذا المقال مُترددا، أولا لتحسُّبي من فهم المتلقي الذي صار مؤدلجا، مُبرمجا على تلقي قوالب اختزاليَّة معلَّبة، تواضَعَت عليها الأجيال المتأخرة في هذا الموضوع الشائك، وثانيا لظني أنه من الأدق أن يكون هذا المقال تناولا لأسباب عدم تحرُّر فلسطين، قبل الكلام عن كيفيَّة تحريرها. ثم حسمت أمري، وقررت أن يكون النص تفكيكا لأسباب بقائها مأسورة إلى اليوم، وفي الوقت نفسه إعادة تركيب لكيفيَّة تحريرها. وهذا يقتضي - بذات الوقت - تكثيفا مع بعض الإطالة، لكنَّ القارئ المعني بالفهم سيحمل نفسه على مواصلة القراءة؛ عسى أن يكون المبلَّغ أوعى من المبلِّغ، وأقدر منه على الفعل.

وبناء عليه، فلعلَّ من المناسب البدء بطرح السؤال التفكيكي: "لم لا تتحرَّر فلسطين؟"؛ لتحديد مُنطلقات الإجابة على سؤال العنوان، وآفاقها. وربما كانت الإجابة المباشرة التي قد تتبادَر إلى ذهن القارئ؛ هي ما درج عليه من صيغ مقولَبَة مبذولة: تواطؤ القوى الغربيَّة، مُتضافرة مع خيانات بني جلدتنا، ويروح كل منهم يستعيد سرديَّات ونماذج تاريخيَّة تُعزز هذه الإجابة.

ونحن لا نُماري في مدى صحَّة هذه الإجابات، ولا في تعبيرها - بدرجة كبيرة - عن الوضع في فلسطين، ما بين فرض الانتداب وقرار التقسيم، وإنما نتشكَّك في مدى دقتها في التعبير عن حجم الأزمة وأعماقها اليوم. فلا ريب أن التراكُم الذي وقع خلال ثلاثة أرباع القرن الماضي، إذ ولِدَت أجيال وبادَت أخرى؛ قد غيَّر شكل القضيَّة ببطء، وأعاد بناء أبعادها في التصور. ومن ثم، فإننا نتغيَّا من تفكيكنا كشف الهوَّة الشاسعة بين تصورنا اليوم للمسألة الفلسطينية، وتصور جيل الانتداب لها. وكيف تبلوَرَت المؤثرات الحداثيَّة الوافدة للتلاعُب بهذا التصور، وتشويهه تدريجيّا، حتى آل بنا إلى سُلطة أوسلو وما بعدها.

فعلى الرغم من تنامي نعرات القوميَّة العربية في أنحاء الشام - منذ أواخر القرن التاسع عشر - كرد فعل على سياسات الأتراك المتأخرة، ورغم ظهور بوادر المناداة بقوميَّة مصريَّة إبَّان ثورة 1919م وما بعدها، ورغم دور مساعي شريف مكة - لمناوأة العثمانيين - في تعزيز هذا الاتجاه، الذي اتسق اتساقا واضحا مع ثمار الحداثة السياسيَّة التي بدأ قطافها آنذاك؛ فإن وعي جيل الانتداب بحقيقة القضيَّة ظلَّ واضحا إلى حدّ كبير، لم تشوهه الشوائب التي بدأت بالتراكُم لاحقا مع تكريس ثمار التحديث السياسي، بدءا بإلغاء الرابطة الأممية للمسلمين (التي مثَّلَتها "الخلافة" الجامعة)، وانتهاء بتكريس نمط الدول القُطريَّة ما بعد الكولونيالية، وما تفرضه من أطر سوسيومعرفيَّة اختزاليَّة شائهة.

وعندنا أن السبب الأول والأهم لاستمرار أسر فلسطين إلى اليوم، هو هيمنة نموذج الدولة القوميَّة القُطريَّة، بما تفرِضه من تجميد للواقع الجغرافي ما بعد الكولونيالي، ومن قطيعة للصيرورة التاريخيَّة، علاوة على إجهاضها للخيال السياسي، وتكبيلها للقُدرات المعرفيَّة؛ إذ ينحصِر إدراك "الفاعلين" و"الناشطين" في الحركة - بل وفي التنظير - داخل هذا النطاق المصطَنَع الضيق، الذي فرضه الوجود الكولونيالي على "ولاية فلسطين"، التي ظلَّت منذ الفتح الإسلامي - وحتى قرار التقسيم - إقليما من أقاليم "إمبراطوريَّة" إسلاميَّة أرحب، ثم إذا بها تُختَزَلُ في روع "الفاعلين" إلى "دولة" قُطريَّة مخصيَّة كجيرانها، ثم إلى "كانتونات" ممزَّقة؛ لا تستطيع حتى أن تتحقَّق بشروط "الدولة النماذجيَّة" التي يصبو إليها أهل "حل الدولتين"، بعد أن أحيطت آمالهم بسياجات القطيعة وشذرات الأوهام.

لقد أدى هذا الانقلاب التدريجي في الرؤية الكونيَّة للمسلمين وفي النموذج الحاكم فوق النظام العالمي، إلى تكريس أنظمة وهياكل وبِنَى مؤسسيَّة بعينها - زورا - كأنها هي الأداة الوحيدة الممكنة لتحقيق الانعتاق، وغاب عن أكثر الفاعلين أن الانعتاق من النموذج المهيمن هو عينه أول طريق الانعتاق من تجلياته، وأن قبول الأدنى يعني الاستمرار في التهاون والتنازُل: من أمة إلى دولة إلى أشلاء مزَّقها قرار التقسيم إلى حدود 1967م إلى شريط ساحلي ضيق، ثم إلى لا شيء على الإطلاق!

بيد أن الأزمة الأعظم لم تكن في هيمنة نموذج الدولة القُطريّة الحلولي على النُخَب ما بعد الكولونيالية فحسب، من خلال تغيُّر ملامح النظام العالمي بعد الحرب العالميَّة الأولى، وإنما كانت الضربة القاضية هي تغلغُله لاحقا في أوساط الإسلاميين المؤدلجين والمسيَّسين - حركيّا ثم معرفيّا - وتكريسهم له، ورضاهم - جهلا أو عمالة - بالحركة في إطاره والامتثال لقواعده، رغم أنهم كانوا يطرحون أنفسهم بوصفهم بديلا! لكنَّهم بعد أن كانوا يطرحون أنفسهم بوصفهم بديلا للنظام العالمي، صاروا هم أيضا إلى قبول التهاون والتنازُل، وقبول اللعب داخل إطار النطاق الإقليمي، ثم الرضا ببعض السُّلطة والنفوذ القُطري، وهو ما آل إلى لا شيء في أكثر البقاع التي شَهِدَت نشاطاتهم.

وبعبارة أخرى، فقد كان القبول بالحركة داخل هذا النموذج قبولا بمبدأ التنازُل عن النظام العالمي للإسلام ورؤيته الكونيَّة، وهو ما أفرز سلسلة التنازُلات السياسيَّة التي لن تتوقَّف إلا بالكفر بالنموذج نفسه وتحطيمه. وربما كان تنامي قدرات الفصائل "غير النظاميَّة" في فلسطين ولبنان، في معاركها المحدودة مع العدو الصهيوني؛ هو ما تحقَّق به كفري بهذا النظام العالمي ولبناته القُطريَّة. فمن خلال المعارك المحدودة التي تشنها هذه "الفصائل"، وتكرار نجاحها في تحقيق "أهدافها السياسية المحدودة"؛ يتكرَّس فشل نموذج الدول القُطريَّة إيذانا بتحطُّمه.

وينبني السبب الثاني لاستمرار فلسطين أسيرة النظام العالمي على الثمار المعرفيَّة والسياسية التي أثمرها تكريس السبب الأول. وهو ما يتجلَّى في تبلور مفهوم "الشعب العضوي" بين الفلسطينيين، في مقابل مفهوم "الشعب اليهودي" العضوي، وذلك بوصفهما شعبين عضويَّين متوهَّمين؛ يتنازَعان الهيمنة "الحلوليَّة" على قطعة أرض "فضاء"، بعد بتر أيَّة أبعاد متجاوزة للصراع، حتى تلك الأبعاد القوميَّة العربيَّة، التي انحدر التوجيه الأيديولوجي إليها إبَّان الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. فلا وجود للحق والباطل في المعادَلة السياسيَّة الوضعيَّة، بل ولا وجود لميتافيزيقا من أي نوع، وإنما هي معركة "عبثيَّة" بين ضارِب ومضروب! بل لقد كان المآل الطبيعي للديباجات القوميَّة العربيَّة، القطيعيَّة بطبيعتها؛ هو زيادة انغلاق هذه المقولات القوميَّة الأوسع إلى ديباجات "فلسطينيَّة" ضيقة، في مسعى لخلق شعب عضوي لا يكتمِل نضجه وتفرُّده إلا بالحلول في هذه الأرض؛ تكريسا لهويَّة "مُتفرِّدة"، ليست إلا مقلوبا كاملا لتصورات العدو الغاصِب!

هذا الاستبطان الكامل والساذج لآليَّات العدو وخططه -بعد قلب مضمونها-، قد اطَّرَدَ حتى تجسَّد بصورة لا عقلانيَّة في محاولة بناء ما اعتُبِرَ "شرعيَّة تاريخيَّة" للوجود الفلسطيني العضوي الحلولي، في مواجهة "الشرعيَّة التاريخيَّة" التي يطرحها الوجود الصهيوني العضوي الحلولي؛ إذ تكمن المفارقة في أن النماذج العقلانيَّة الماديَّة تطرد اطرادا لا عقلانيّا ماديّا، ورغم أنها نماذج حلوليَّة قطيعية ترفض التاريخ؛ فإنها قد تلجأ إليه لبناء "شرعيَّة تاريخيَّة" تتجاوز شرعيَّة "العدو" في القِدَم!

وستجد في ذلك - مثلا - كمّا هائلا من الأدبيات "العربيَّة" التي تتناوَل جغرافيا الكتاب المقدس، في محاولة لنفي "الدعاوى التاريخيَّة" الإسرائيليَّة، ونقل "الصراع النظري" الموهوم إلى مجال جغرافي آخر؛ كأنها دعاوى جادَّة أمام محكمة حقيقيَّة، وكأن إسرائيل استولَت على بلادنا بالدعاوى التاريخيَّة، وليس بالسلاح وسفك الدماء. هذا "العمل من خلال خطة العدو" محض "عبث أبله" نُساق إليه للإلهاء وتبديد الجهد. بيد أن كسر غطرسة الآلة العسكريَّة الإسرائيليَّة، على أيدي مجاهدين من خارج قفص الدول ما بعد الكولونياليَّة، يُعيد هذه "المدونة الأكاديمية" المقززة إلى حجمها الطبيعي؛ أولا لأن الأمر الواقع أثقل على حواس الكائن البراغماتي (الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء) من الجدالات النظريَّة، وثانيا لأن فرض "واقع" جديد حقيقي على الأرض هو الأسلوب الوحيد الذي تستجيب له البراغماتية الصهيونية والأمريكية، التي تستسلم للواقع بثقله، وتخضع له ولا تقاومه، بل تسعى للتكيُّف معه - كما هو - شرط أن يكون واقعا رادعا حقيقيّا، وليس نمرا من ورق مثل سلطة أوسلو!

أضِف إلى ذلك، أن هذا "الواقع" الجديد، المفارِق إلى حدٍّ كبير للتصورات العضويَّة الحلوليَّة، يُقوِّض مقولات الدولة القوميَّة القُطريَّة في روع المخلصين المخدوعين من بني جلدتنا؛ فهي ثورة جزئيَّة تقلِب الموازين المعرفيَّة وتغير الحسابات الاستراتيجيَّة، وتُضاف إلى رصيد الخبرة الحركية، وتُعزز ثقتنا بأنفسنا وركوننا إلى الله، تمهيدا لمعركة التحرير.

أما السبب الثالث لاستمرار هذا الأسر الموجِع، فبدهيٌّ أنه ينبني على سابقيه؛ إذ أدَّت هيمنة نموذج الدولة القوميَّة على أذهان الفاعلين، ثم تبلور هويَّة فلسطينيَّة حلوليَّة؛ إلى انحباس الجهود النظريَّة والحركيَّة كافة في داخل قضبان الإطار الوضعي، الذي تفرِضه هذه المعطيات ونموذجها المهيمن للنظام العالمي. وقد كان الاطراد الطبيعي لتغيُّر القاعدة المعرفيَّة التقليديَّة للاجتماع السياسي، ثم إعادة بنائها من جديد على الأسس الحداثيَّة التي فرضها النظام العالمي الكفري؛ هو حبس المسألة الفلسطينيَّة في دروب السياسة الحديثة، وغرقها في ترهات التفاوض السياسي، وسوقها - عقب كل دورة - إلى قبول سلطة أوسلو بوصفها "المخلِّص" الوحيد.

ولأن الهويَّة العضويَّة الفلسطينيَّة لا تُنكر ابتداء أنها جزء من "هويَّة عربيَّة" أوسَع، لهذا أُسِرَ المسار السياسي الفلسطيني في "الوساطات العربيَّة" المبتذَلَة والمنهِكة، التي جعلت من المسار التفاوضي دائرة استنزاف مستمر لا تؤدي إلى شيء، خصوصا في ظل انبطاح حكام العرب الكامل لأمريكا وإسرائيل.

ولهذا، فإن كسر هيمنة الوساطات السياسيَّة العربيَّة على المسألة الفلسطينيَّة (خصوصا في غزَّة) خطوة شديدة الأهميَّة في تكريس أي واقع جديد تستطيع فصائل المجاهدين "غير النظامية" خلقه على الأرض؛ فهذا هو الضمان الوحيد لتبلور مخرج حقيقي من هذه الدائرة المغلقة والعبثيَّة للتفاوض، التي تسعى الوساطات العربيَّة دوما إلى إجهاض أدواتها العسكريَّة، طمعا بالحفاظ على "تهدئة إقليمية" تحفظ على "الدول العربيَّة" استقرار نُظمها القُطريَّة ما بعد الكولونياليَّة، ولو كان ذلك على حساب المفاوِض الفلسطيني!

وسيتجلى كسر الهيمنة السياسيَّة للأنظمة العربيَّة لا في محو البُعد العربي للقضيَّة، وإنما في انفتاحها الحقيقي - كما كانت زمن الانتداب - بوصفها قضيَّة إسلاميَّة بالأصل، وما العروبة إلا مكون مهم من مكوناتها. وتتغيَّا إعادة القضية إلى خارطة اهتمامات المسلمين عامَّة، ألَّا ينفر النشطاء الأجانب العزل وحدهم لنُصرتنا، بل ينفر المسلمون من كل بقاع الأرض لنُصرة إخوانهم في الدين. وربما كان الدعم السياسي والعسكري التركي والإيراني للفصائل المجاهدة، هو أول تجليات كسر هيمنة الأنظمة العربيَّة، رغم أنه دعم ما زالت تُقيده المصالح القُطريَّة الأضيق لكل بلد منهما، بيد أنه يظل دعما أصدق وأقل تواطؤا من دعم الأنظمة العربيَّة.

هذا الدعم "الإسلامي"، هو ما يجب التعويل عليه بوصفه "تدويلا إسلاميّا" للقضيَّة، سيدور بدوره مع مصالح الدول المسلمة، حتى تستشعِر التحرُّر الإقليمي من النفوذ الأمريكي - الذي بدأ فعلا - وتصير حركتنا حُرَّة، وتزيد قدراتنا على دعم معارِك أكبر لفصائل المجاهدين؛ ليبدأ القفص القُطري القديم بالتحطُّم مع الانسحاب الكامل للنفوذ الأمريكي الذي يُكرِّس وجوده وتجمُّده، لنبدأ مرحلة جديدة لهيمنة القوى الإقليمية، التي ستُغير موازين العلاقات الاستراتيجية والسياسية.

* * *

لقد بدأ السادات حربه "المحدودة" في تشرين الأول/ أكتوبر 1973م، وهو ينوي خلق واقع سياسي جديد على الأرض؛ واقع يُغيِّر موقفه التفاوضي تماما وينقله لموقع أقوى، موقع يفرِض فيه معاييره و"قيمه". وبعد عدَّة أيام من اندلاع الحرب، تجلَّى أن كل هدفه المعلَن منها، بعد إذ حققت نتائج أسطوريَّة بالمقاييس العسكريَّة؛ هو مجرَّد إعادة فتح باب التفاوض وبدء المساومة السياسيَّة، بعد تغيير محدود للواقع على الأرض، محدود بحدود الدولة القوميَّة القُطريَّة الملعونة!

لكن ما علاقة ذلك بما يحدُث اليوم في فلسطين؟!

علاقته هو تشوفنا إلى ألا يكون البأس الفلسطيني اليوم مُجرَّد "كارت تفاوضي" لبدء دورة جديدة من دورات المساومة السياسية الرخيصة، التي استنزفت الفلسطينيين منذ أوسلو. بمعنى أنه إذا كان المطلوب من الفصائل المجاهدة التعامُل مع العدوان الصهيوني بمنطقه البراغماتي المسلَّح، وفرض واقع جديد على الأرض؛ فإن الواقع الذي نُريده ليس مُجرَّد أداة لتحقيق مكسب سياسي حزبي آني، وإنما يجب أن يكون هذا الواقع هزيمة للوجود الصهيوني؛ تنتَقِصُ من قدراته النفسيَّة، وتُبدِّد أمنه الاجتماعي، وتُخلخل جبروته العسكري، وتجعله يُعيد التفكير ألف مرة قبل الإقدام على أيَّة خطوة مستقبليَّة.

لقد انتهى زمن ضحايا "العمليَّة السياسيَّة" الأبرياء، الذين يتباكى عليهم السياسيون في نشرات الأخبار والأفلام الدعائيَّة، وينبغي علينا تدشين حقبة التضحيَّات الواعية، التي يُقدمها المسلم جهادا بين يدي الله، عساه يتقبَّلها ويُثقل بها ميزانه. إن البون بين الضحايا والتضحيات شاسع، وأحسب أننا قطعنا أكثره، والله أعلى وأعلم، وهو يهدي السبيل.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
التعليقات (0)