قضايا وآراء

غزّة وفصل الخطاب!

وليد الهودلي
1300x600
1300x600
عندما يخطب الخطباء خطبتهم، فإنهم يحلّقون في بلاغتهم عاليا ليسحروا قلوب الناس، يفتحونها على كنوز القران، ثم ينيرون العقول بالهدي النبويّ ويرسمون المشهد بدقة العبارة وقوة الكلمة وعمق الحكمة، ثم يذهبون بنزهة عقل مع القصة والمثل والعبرة، ويكتمل القول البليغ عندما يصل المعنى ليستقرّ في أعماق القلب فيحدث التأثّر ويحرّك كلّ مكنوناته في عالم العقل الواعي واللا واعي، ليصل إلى مصانع القرار وتحرير الأقفال والانطلاق في عوالم الفكرة الحية التي تسعى فتصنع السلوك وتترك أعظم وأدوم الأثر.

وهناك من الخطباء ما يرتجل فلا يحضّر ولا يخطّط فيشرّق ويغرّب، فلا تعرف لخطبته موضوعا ولا تجد برّا ترسو عليه سفن هذا الخطيب، تضيع معه في بحر لجيّ وتضيع في تلافيف أفكاره التي لا تجد لها قرار.

وهناك من ترى في خطبته عظمة ثقافته وقوّة تحضيره وتخطيطه، فتجد نفسك تسير معه خطوة خطوة إلى أن يوصلك إلى الهدف العملي الواضح المحدّد، تجد ضالّتك في الموضوع الأهم وتجد الحكمة وفصل الخطاب وانطلاق الإرادة إلى حيث رشادة الهدف وروعة السلوك الصالح المطلوب.

عندئذ نقول للخطيب: أحسنت ولا فضّ فوك، فقد أجدت القول وبلغت منتهى البلاغة وجمعت مجامع الكلم وروعة الفصاحة.

اضطررت لهذه المقدمة كي ندرك فضل خطيبتنا غزة، هنا هذه الأيام وقفت غزّة لتلقي على مسامعنا خطبة، ولم يكن في الخطبة كلام ولا سلام ولم تنبت شفتاها ببنت شفة، تكلّمت غزة بلغة جديدة يفهمها الأعداء جيدا قبل الأصدقاء:

هي صنعت الفكرة ورسمت مشاهدها رسما بليغا، فانطلقت الحناجر والأقلام وكلّ وسائل الإعلام لتقول وتخطب وتكتب وتروي ما صنعت.

لم تكن خطبة غزة مرتجلة متسرعة أو ضربة مرتدّة، لم تكن من غير تحضير أو تخطيط أو دون وحدة موضوعية فشرّقت وغرّبت ولم تدر كيف وأين ترسو بضائعها، بل كانت دالّة على أنها صاحبة وعي عميق ومعرفة وبحر من الخبرة التراكمية ذات المنسوب العالي. كان لها من الحكمة السياسية العالية التي تريك كيف ومتى وأين تضع أثقالها، تكيل الأمور بميزان من ذهب وترى فيها الحكمة وفصل الخطاب، وترى من كلّ هذا علوّ الهدف مع روعة وعظمة النتائج المنتظرة.

وفصّلت غزّة خطابها وهي تحدّد ساعة الصفر وتفرض كلّ أسفارها على عدوّها، أنارت ليل الظالمين بنيران حممها الصاروخية، وكان في خطابها العمليّ هذا مواعظ ودروس لكلّ الأعداء المحليين والإقليميين والدوليين. ضربت وأوجعت فوصلت بهذه البلاغة قلوب الأعداء قبل الأصدقاء.. زرعت هلعا ورعبا وفي الجانب الآخر، وزرعت فرحة وسعادة وإجلالا للفعل وأهله.

وكان في خطبة غزة من القرآن نصيبها الأكبر، لم تتل الآيات تجويدا وخشوعا في محاريب المساجد، بل جعلت من ربوع فلسطين محرابا تتلو فيها القرآن قراءة بطريقتها الخاصة، وقفت الآيات شاخصة حاضرة في الميدان، فعّلوا الآيات ووصلوا إلى مفاعيلها العظيمة: "ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، فلم يهنوا بل بادروا وأقدموا وهاجموا، "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون"، وكان لهم ذلك حقيقة على الأرض.. "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، وكان تبادل الألم بينما لم يكن تبادل الرجاء واليقين والثقة بنصر الله: "وترجون من الله ما لا يرجون".

وقالت غزة: انفروا خفافا وثقالا، ونفر معهم العالم، من عشائر الأردن التي أقسمت على تجاوز الحدود إلى المحيط العربي والإسلامي والغربي، وقبل كل شيء كان نفير الضفة ونفير فلسطين المحتلة 48.. جيش واحد التحم مع جيش القدس، نفر الحجر والمقلاع ونفر الناس فتية وفتيانا وشبابا وشيبة، تحوّل الشارع إلى تيار بشري هادر موحّد على ذات الشعار وبروح واحدة ذات عنفوان عال، لقد صنعت القدس وغزّة حركة حرّة أبيّة وكان للقرآن تلاوة عملية في ميادين المعركة كافة.

وخطبت غزّة بالفعل لا بالقول، فلم تستشهد بالقصة للوصول إلى العبرة بل صنعت القصة، قصة الفئة القليلة بعدّتها وعددها التي تغلب الفئة الكبيرة والتي لا تقارن بإمكانات الفئة القليلة بأي حال من الأحوال. صنعت قصة البطولة بكلّ أشكال البطولة، قصة كان فيها عنصر المفاجأة مذهلا، قصة تطوير الصاروخ كمّا ونوعا، في المدى وقدراته التفجيرية وتوجيهه، وقصّة النخوة التي تحرّك أصحابها بكل قوّة فحّركت آهاتُ القدس صواريخَ غزة وليكن ما يكون..

قصة الأنفاق وقصة الطائرة المسيّرة والغواصة المسيّرة، قصة التفوّق الاستخباري وإيقاع العدوّ في شباكه اللعينة، قصة توحّش وسادية المحتلّ بضربه الأهداف المدنية وقتله للأطفال، قصة الإعلام الحرّ المقاوم وإدارة المعركة إعلاميا.. لم تقل قصصا بل صنعت وزوّدت الخطباء والأدباء حاضرا ومستقبلا بمئات القصص.

وصنع أهل غزة قصة التضحية والصبر الجميل، حيث كان الذي يخرج من تحت الأنقاض مبتسما وهو يعلم أن من في البيت قد استشهد وهو الناجي الوحيد، ليقول: فداك يا أقصى.

وختمت هذه المجموعة القصصية بقصة تتجلّى فيها الحكمة السياسية في إلزام المحتلّ بطلب الهدنة وتوسيط الوسطاء كي يخرج من المعركة مذموما مدحورا.

لقد خطبت فينا غزّة خطبة بليغة بفعلها العظيم ووصلت في خطبتها فصل الخطاب. وهكذا تكون الخطابة وسواها فلا نامت أعين الجبناء.
التعليقات (0)