أفكَار

أزمة العرب بين فجوات الماء وفجوات الوعي والسياسة

العرب يمثلون نحو 5% من سكان العالم ولا يتجاوز نصيبهم من المياه النقية المتجددة نسبة الـواحد من المائة- (الأناضول)
العرب يمثلون نحو 5% من سكان العالم ولا يتجاوز نصيبهم من المياه النقية المتجددة نسبة الـواحد من المائة- (الأناضول)

هل يحتاج العرب، اليوم، إلى ورقة إعلامية، تعرض واقع الفجوة المائية التي يعيشونها وتنبههم إلى الوعي بضرورة تأمين الماء وتبرز لهم التحديات التي تواجههم في المستقبل؟ فتوفير الماء وابتكار السبل للحفاظ عليه وترشيد استهلاكه بات معضلة عالمية بسبب التطور الطبيعي للحياة الذي زاد من الحاجة إليه في الفلاحة والصناعة والسياحة أو بسبب الاحتباس الحراري نتيجة لتدمير الإنسان للطبيعة وإخلاله المستمر بتوازنها البيئي. والإجابة ستكون قطعا بلا. لذلك لم تجعل هذه الورقة مغزاها تحسيسيا وإنما شاءت أن تتأمل الواقع العربي من زاوية مغايرة هي زاوية الأمن المائي علّها تعثر في المشهد على عناصر لم ننتبه إليها في زوايا الاقتصاد والثقافة والاجتماع.

1 ـ "استعارات نحيا بها"
 
يستمد تصورنا للماء اليوم من عالمي الاقتصاد والحرب. وتكشف اللغة عن القلق الشديد الذي بات يؤرق وعينا الباطن. فيشار إليه بـ "الذهب الأزرق" ويطلق على مصادره "الموارد المائية" وعلى معدّاته "البنية التحتية" للمياه ويشار إلى استعماله بـ "استهلاك الماء" وإلى البحث عنه أو العمل على تخزينه بـ "المشاريع المائية". ويقيّم مستقبل التنمية في البلدان في ضوء "ميزانها المائي"، قياسا على الميزان التجاري. ويضبط سلم خماسي لهذا الميزان يتدرج من حالة "الوفرة المائية" إلى حالة "التوازن المائي" إلى حالة "العجز المائي" إلى حالة "الندرة المائية" وتنتهي بـ "حالة الندرة المائية المطلقة". وقياسا على الفجوة الرقمية بتنا نتحدث عن "الفجوة المائية" عند المقارنة بمعدل استهلاك الماء عند الفرد بين الدول.

وكما للاقتصاد لوبيات ومافيا تعتاش من الفساد المالي أصبحنا نسمع في خطاب الخبراء حديثا عن "الفساد المائي" و"مافيات المتنفذين" بل كثيرا ما تنتهي بعض السياسات إلى "الإفلاس المائي". وفي الآن نفسه بات المشرّع يتحدث عن "الحقوق المائية" في الإشارة إلى طرق إدارته واقتسامه. وبالفعل أخذت الاستعارات تتحول إلى الحقيقة وأخذت الدول تعمل على تصدير مخزوناتها المائية الفائضة.

وكثيرا ما احتجت تركيا عند احتجازها لماء الأنهار التي تنبع من أراضيها بأنها تتصرف في ثروتها المائية كما تتصرف نظيراتها في ثروتها النفطية. وها أنّ أثيوبيا الآن تعمل على تحويل ماء أنهارها إلى سلعة تبيعها إلى جيرانها فيما تفكر بلدان الخليج في اشتراء المكعبات الثلجية لسد حاجتها منها إلى الماء.

ويختزل مفهوم "الأمن المائي" كلّ معاني الحرب. وهنا أيضا، لا يتعلّق الأمر بمجازات توشي الكلام وتزينه. فالعالم يتجه شيئا فشيئا نحو الحروب المائية. فكانت حرب 1967 في بعد من أبعادها بداية الحرب المائية كما سنعرض في حلقتنا الثالثة من هذه الورقة وكان النزاع حول تقاسم مياه شط العرب أحد الأسباب ـ المعلنة على الأقل ـ لنشوب الحرب بين العراق وإيران عام 1980 وها أنّ طبول حرب تقرع في حوض النيل. 

ومع ذلك ورغم هذا القلق الباطن ستكشف ورقتنا عمق الفجوة المائية التي يعيشها العرب. فترصد بعضها في الواقع، وفي تلك الهوة الكبيرة بين الحاجة إلى الماء وما هو متاح منه، وتجد بعضها الثاني في الأذهان. فيبرز عند المقارنة بين مدى وعي الآخر القريب منا إقليميا بقيمة الأمن المائي واللامبالاة التي يواجه بها العربي هذه المعضلة أما بعضها الثالث فكائن الهوة بين ما تنص عليه القوانين الدولية لاستخدام المجاري الدولية في الأغراض غير الملاحية وما تمنحه بلدان المنابع التي تعمل باستمرار على احتجاز نصيب العرب منه والاستيلاء عليه.

2 ـ معضلة الأمن المائي العربي.. عجز مائي مفزع

من يعرف العطش أكثر من العرب؟ ومن صنع منه مجازاته مثلهم؟ فتحدثوا عن التعطّش إلى الديمقراطية وإلى الحرية، وبه شبهوا شدة الشوق إلى الحبيب. 

وقديما قال جميل وقد أهلكه وجد بثينة:

وَما صادِياتٌ حُمنَ يَوماً وَلَيلَةً   **    عَلى الماءِ يُغشَينَ العِصِيَّ حَواني
لَواغِبُ لا يَصدُرنَ عَنهُ لِوِجهَةٍ   **         وَلا هُنَّ مِن بَردِ الحِياضِ دَواني
يَرَينَ حَبابَ الماءِ وَالمَوتُ دونَهُ **             فَهُنَّ لِأَصواتِ السُقاةِ رَواني
بِأَكثَرَ مِنّي غُلَّةً وَصَبابَةً           **                   إِلَيكِ وَلَكِنَّ العَدُوَّ عَداني

وها أن المعنى الحقيقي للعطش عندهم اليوم يصبح أعمق من كلّ المجازات. فإقليم شبه الجزيرة العربية يعدّ القطاع الأكثر جفافا من العالم والأكثر طلبا للماء في الآن نفسه. أما بقية الأقاليم فيُحبس ماؤها عند دول المنبع فلا يسعها إلا أن تقف مكتوفة الأيادي وقد افتقرت إلى الحيلة والوسيلة. كذا تفعل إيران بالعراق وتضيف تركيا سوريا إلى بلد النهرين وتستحوذ إسرائيل على بحيرة طبريا وتعمل أثيوبيا اليوم على منع الماء عن السودان ومصر والصومال. وتعاني موريتانيا الأمرين لاستغلال نصيبها من نهر السنغال. 

ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة تتفق مختلف البيانات في تصوير الوضع الكارثي. فالعرب يمثلون نحو 5% من سكان العالم وبالمقابل لا يتجاوز نصيبهم من المياه النقية المتجددة نسبة الـواحد من المائة. ولا تسيطر الدول العربية على منابع مياهها. فتقع 60 % منها خارج أراضيها. وتقع جميع الدول العربية تقريبا تحت خط الفقر المائي. فالمعدل السنوي لاستهلاك العربي له لا يكاد يفوق الـ 1000 م3 إلاّ في الحالات القليلة. وتخبرنا التوقعات بأنه سينزل دون الـ 500م3 في بلدان الخليج في أفق 2025، علما أنّ نزول نصيب الفرد دون الـ1700 م3 يدخل البلاد في حالة العجز المائي.

ويقسم العالم العربي إلى أربعة أقاليم مائية مختلفةٍ من جهة الخصائص البيوـ مناخية والموارد المائية، متقاربةٍ من جهة النتائج، هي إقليم المنطقة الوسطى في إفريقيا على ضفاف النيل وإقليم المشرق العربي وإقليم المغرب الكبير وإقليم شبه الجزيرة العربية. ورغم ضائقتها المائية تواجه هذه الأقاليم مناكفات من دول المنابع وتحجز مياه أنهارها عبر إقامة السدود العملاقة. وهذا ما يفتح ورقتنا على البحث في النزاعات المائية في ضوء القانون الدولي.

3 ـ قضايا الماء وسبل معالجتها في ضوء القانون الدولي

يقع شطر مهم من العالم العربي على ضفاف البحار، فتتجمع عنده لانخفاض السواحل، روافد الأنهار التي بنى عليها حضارته لمئات السنين والقادمة من مرتفعات الأقاليم المجاورة، من مرتفعات تركيا وإيران (دجلة والفرات ) وأوغندا (النيل الذي يمرّ عبر أثيوبيا) وغينيا (نهر السنغال الذي يصبّ في السواحل الموريتانية). ولكن هذا القدر الجميل بدأ يتحوّل إلى كابوس اليوم مع اشتداد الحاجة إلى الماء وتنامي القدرة على تخزينه واحتجازه عند المنابع، ومع عمل البعض على تحويله إلى بضاعة أو ورقة ابتزاز سياسي.
 
ولمواجهة الصراعات الدولية عليه، حاولت الأمم المتحدة تقنين اقتسامه. فقد أقرت في 21 ماي 1997 اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية وأدخلتها حيز التنفيذ في 2014 بعد استيفاءها لشروط اعتمادها. ولعلّ عرض أهم بنود هذه الاتفاقية أن يفسّر لنا شيئا من الصعوبات التي يواجهها العرب في إيجاد أرضية تفاهم مع شركائهم الإقليميين.

 

رغم عدم وجود إحصائيات دقيقة تتفق مختلف البيانات في تصوير الوضع الكارثي. فالعرب يمثلون نحو 5% من سكان العالم وبالمقابل لا يتجاوز نصيبهم من المياه النقية المتجددة نسبة الـواحد من المائة. ولا تسيطر الدول العربية على منابع مياهها.

 



تشير المادة الثالثة من الباب الأول إلى إمكانية عقد اتفاقيات بين دول المجاري المائية. وتترك لها إمكانية التشاور والتفاوض بـ "حسن نية" لضبط بنودها. وضمن الباب الثاني وتحت عنوان "مبادئ عامة" تشير المادة الخامسة من هذه الوثيقة إلى ضرورة انتفاع دول المجرى المائي، كل في إقليمها، بالمجرى المائي الدولي بطريقة "منصفة ومعقولة". وتتيح لدول المجرى المائي الدولي "الانتفاع به بصورة مثلى ومستدامة للحصول على فوائد منه، مع مراعاة مصالح دول المجرى المائي المعنية".

وتشرح المادة السادسة المعنى المقصود بـ "الانتفاع المنصف والمعقول" للحد من البعد الإنشائي للوثيقة فتذكر:
 
"يتطلب الانتفاع بمجرى مائي دولي بطريقة منصفة ومعقولة، بالمعنى المقصود في المادة 5، أخذ جميع العوامل والظروف ذات الصلة في الاعتبار بما في ذلك ما يلي:

(أ‌) العوامل الجغرافية والهيدروغرافية والهيدرولوجية والمناخية والأيكولوجية، والعوامل الأخرى التي لها صفة طبيعية.

(ب) الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لدول المجرى المائي المعنية; (ح) السكان الذين يعتمدون على المجرى المائي في كل دولة من دول المجرى المائي.
(د) آثار استخدام أو استخدامات المجرى المائي في إحدى دول المجرى المائي على غيرها من دول المجرى المائي.
(هـ) الاستخدامات القائمة والمحتملة للمجرى المائي.
(و) حفظ الموارد المائية للمجرى المائي وحمايتها وتنميتها والاقتصاد في استخدامها وتكاليف التدابير المتخذة في هذا الصدد.
(ز) مدى توافر بدائل، ذات قيمة مقارنة، لاستخدام معين مزمع أو قائم".

وتشير المادة السابعة إلى ضرورة التزام الشركاء بـ "عدم التسبب في ضرر ذي شأن واتخاذ كل التدابير المناسبة للحيلولة دون التسبب في ضرر ذي شأن لدول المجرى المائي الأخرى". وتطلب  المادة الثامنة الالتزام العام "على أساس المساواة في السيادة والسلامة الإقليمية والفائدة المتبادلة وحسن النية من اجل تحقيق الانتفاع الأمثل من المجرى المائي الدولي وتوفير الحماية الكافية له" وذلك بـ "إنشاء آليات أو لجان مشتركة حسبما تراه ضروريا لتيسير التعاون بشأن اتخاذ التدابير والإجراءات ذات الصلة في ضوء الخبرة المكتسبة من خلال التعاون في إطار الآليات واللجان المشتركة القائمة في مختلف المناطق".

4 ـ إدارة الخلافات حسب وثيقة الأمم المتحدة: ثغرات بسبب الخطاب الأدبي

عملت هذه الوثيقة على إرساء تقاليد في إدارة المجاري المشتركة بين الدول المعنية. فنصّت المادة 12 على ضرورة إخطار دول المجاري المائية المشتركة بالتدابير المزمع اتخاذها والتي يمكن أن يكون لها أثر ضار في الوقت المناسب .واشترطت أن يكون هذا الإخطار مصحوبا بالبيانات والمعلومات الفنية المتاحة. بما في ذلك نتائج أي عملية لتقييم الأثر البيئي، من أجل تمكين الدول التي تم إخطارها من تقييم الآثار الممكنة للتدابير المزمع اتخاذها. 

وألحت المادة 17 على ضرورة أن تقوم المشاورات والمفاوضات "على أساس وجوب قيام كل دولة، بحسن نية، بإيلاء قدر معقول من الاعتبار لحقوق الدولة الأخرى ومصالحها المشروعة". فـ "تمتنع الدولة التي وجهت الإخطار، أثناء المشاورات والمفاوضات عن تنفيذ التدابير المزمع اتخاذها أو السماح بتنفيذها لفترة ستة أشهر، إذا طلبت إليها ذلك الدولة التي تم إخطارها وقت قيامها بالإبلاغ، ما لم يتفق على خلاف ذلك". 

أما "في حالة نشوء نزاع بين طرفين أو أكثر بشأن تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية، وفي غياب اتفاق فيما بينها ينطبق على النزاع، تسعى الأطراف المعنية إلى التوصل إلى تسوية للنزاع بالوسائل السلمية" وفق المادة 33. وتقترح بعض الآليات. فيجوز لها أن تشترك في طلب المساعي الحميدة أو الوساطة أو التوفيق من طرف ثالث. ويمكنها الاحتكام، حسب الاقتضاء، إلى مؤسسات المجرى المائي المشترك التي تكون الأطراف قد أنشأتها. ولها أن تتفق على عرض النزاع على محكمة العدل الدولية. وفي حالة الفشل في التوصل إلى حلّ مرض لجميع الأطراف، يعرض النزاع، على لجنة محايدة لتقصي الحقائق أو يعرض على محكمة العدل الدولية أو على التحكيم أمام محكمة تحكيم قائمة وعاملة.

لعلّ عرضنا لأهم بنود هذه الاتفاقية أن يفسّر الصعوبات التي يواجهها العرب مع شركائهم. فهذه الوثيقة القانونية غارقة في الخطاب الأدبي الذي يمكن تأويله على أكثر من وجه كالإشارة إلى ضرورة الاستخدام "العادل والمنصف" للمصادر المائية أو كتعويلها على "التعاون التقائي" و"حسن النوايا". فتفترض أنّ العلاقات سلسة بين مختلف دول المجاري المائية وتتجاهل المشاكل الحدودية أو العرقية أو العقائدية أو التاريخية التي تحكم الدول المتجاورة غالبا. وفضلا عن ذلك فالاتفاقات التي يمكن أن تعقد بين الدول تكون غير ملزمةٍ ومفتقرةً لآليات تنفيذها كما في الحالة الأثيوبية المصرية السودانية التي نعرضها في حلقتنا الثانية.


التعليقات (0)