كتب

التحديث الكولونيالي وفشل الدولة الوطنية.. أطروحات هشام جعيط

هشام جعيط: بقي حلم بناء دولة الحرِّية والاشتراكية والوحدة القوية أو الدولة الإسلامية الكبيرة طوباويا
هشام جعيط: بقي حلم بناء دولة الحرِّية والاشتراكية والوحدة القوية أو الدولة الإسلامية الكبيرة طوباويا

الكتاب: "أزمة الثقافة الإسلامية"
الكاتب: هشام جعيط
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- الطبعة الثالثة 2011

منذ أن اندمج الوطن العربي في النظام العالمي الجديد الذي أسسته أوروبا بتجاربها الطويلة منذ القرن السادس عشر، وَاشتداد حدة المنازعات الأوروبية على مجالات النفوذ والقوة والسيطرة على الإمبراطورية العثمانية في الفترة الممتدة من مطلع القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى، التي كانت نتيجة ميزان القوى الواقعي فيها مضادة للسلطنة من جهة، ومضادة لمطامح العرب القومية، بحكم خضوعهم لمرحلة الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية الغربية في الفترة مابين الحربين العالميتين، (وأن كانت أقطار شمال أفريقيا قد خضعت للاحتلال قبل ذلك) من جهة ثانية، فإن التحديث الذي سيقوم به الاستعمار الأوروبي في المجتمع العربي التقليدي سيأخذ طابعاً تناقضياً مع الرؤى الحداثية والمبادئ الرسالية للديمقراطية المسماة بالليبرالية الغربية، والمتجسدة في نظام الدولة القومية أو الدولة ـ الأمة الأوروبية المدعية لنفسها بأنها تؤسس لحداثة ذات طابع كوني تقتحم بها حضارات الشعوب المختلفة، لتصهرها في بوتقة الاستعمار الغربي، باسم فكرة التقدم والتنمية، في اتجاه واحد "هو اتجاه الحضارة الصناعية الرأسمالي".
 
فالتحديث الكولونيالي لم يقم على أساس تحديث الأنماط والبنى الاقتصادية الاجتماعية والسياسية في المجتمع العربي، وأحداث بلورة جذرية لهذه البنى المتوارثة ضمن سيرورة من العمليات التراكمية التي تقود إلى تثوير القوى المنتجة، وتعبئة الثروات والموارد من أجل التحول الاقتصادي والتكنولوجي بشكل جذري في هذا المجتمع التقليدي، بما يفسح في المجال لتحقيق قطيعة مع التأخر التاريخي والإقطاعية، والانتقال إلى الحداثة، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الرأسمالية على حد قول ماكس فيبر، التي غيرت المجتمع الأوروبي بل العالم كله بشكل جذري، وأرست دعائم العقلانية التي جسدت القطيعة مع أساليب التفكير التقليدية غير العلمية، وأصبحت مع سيادة العقل العلمي القوة المهيمنة والمتحكمة في الإنتاج، وفي جميع مجالات الحياة الفكرية والثقافية والسياسية. "فالتحديث وإن كان تراكماً وتطوراً لا يتخذ لنفسه اتجاهاً واحداً بالضرورة ولايخضع إلى تطور خطي للزمنية Temporalité لأنه أساساً تحرر من نقل العادات والتقاليد وإبداع على جميع المستويات يخرج من المرجعية Réferencialité الضيقة ليؤسس قدرة متجددة على التجاوز المستمر نحو المستقبل.

كما أن التحديث الكولونيالي في المجال الثقافي ركز على الإيديولوجية الغربية، ونظرية التمركز الأوروبي للثقافة، التي انتجتها الرأسمالية، وتؤكد في الوقت عينه على أنَّ تاريخ أوروبا هو شمولياً وعيانياً، تاريخ العالم، وما على الأمم الأخرى، ومنها الأمة العربية سوى الانسياق في السيرورة التاريخية عينها، أي سيرورة الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية. وهكذا، فإنَّ التحديث الكولونيالي القائم على تمجيد إيديولوجية مركزية الثقافة الأوروبية، يقع في تناقضين صارخين اثنين، التناقض الأول، وهوالتعارض بين الصفة الإطلاقية للثقافة الأوروبية التي قامت على مبدأ الطموح العالمي العلماني والعقلاني لهذه الثقافة للسيطرة على صعيد كوني، وقانون التطور والتفاوت، أوالتطور اللامتكافئ الناتج عن عصر الرأسمالية والامبريالية، وما يفرضه عليها من رؤية المجتمع العربي الكولونيالي الخاضع لسيطرة الإمبريالية، والذي هوغير متماثل مع المجتمعات الرأسمالية الأوروبية. والتناقض الثاني، ويتجسد في التعارض بين النزعة الكوسموبوليتية للثقافة الأوروبية وتعاظم النزعة الشوفينية لقوميات أوروبا.

فالثقافة الأوروبية، استفادت من الحضارات الأخرى التي عرفها التاريخ البشري ،وجمعت عصارة القيَم الحضاريّة الإنسانيّة، وصَقلَتْها وأَخرجتها للعالَم، فهي في الأصل حداثة يجد الإنسان أينما كان عرقاً يربطه بها ولو من بعيد. لكنْ، ما يأسف المرء له هو أنّ الحضارة الأوروبيّة حُمِلت إلى العالَم الآخر الاستعمار والاستغلال والاستعباد. نعم، حملت قيَماً تتعارض بشكلٍ فاضح مع قيَم العدالة وحقوق الإنسان التي قامت عليها فلسفة الحضارة الغربيّة، فكانت أشبه بدستورٍ وطني أوروبي، ولم تكن دستوراً إنسانيّاً عالَميّاً. 

 

لَم تكُن حريّة الإنسان وحقوقه، والديمقراطيّة مطلباً جوهريّاً في الفكر النهضوي العربي، بل كانت الوحدة أو الاتّحاد هدفاً شامِلاً جامِعاً، يسود الاعتقاد أنّه بتحقيقه سيتمّ تحقيق كلّ ما يصبو إليه العربي الثائر.

 



وفي الواقع العربي، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومع اشتداد الصراع ضد الاستعمار الغربي ومن أجل الاستقلال وتكريس سيادة الدول، الذي اتخذ شكل الثورة والانقلاب الاجتماعي والسياسي ليشكل مدخلا لاستكمال العمل من أجل الاستقلال غير الناجز والسيادة الناقصة. وهكذا قادت الحركة القومية الثورة العربيّة مصبوغة بفكر النهضويّين العرب القائم على الوحدة العربيّة، انطلاقاً من الإيديولوجيا القوميّة العربيّة الجامِعة. ولَم تكُن حريّة الإنسان وحقوقه، والديمقراطيّة مطلباً جوهريّاً في الفكر النهضوي العربي، بل كانت الوحدة أو الاتّحاد هدفاً شامِلاً جامِعاً، يسود الاعتقاد أنّه بتحقيقه سيتمّ تحقيق كلّ ما يصبو إليه العربي الثائر.

في هذه الحقبة التي أطلق عليها في الخطاب السياسي والثقافي العربي إسم حقبة بناء الدولة الوطنية لبعض البلدان العربية، وحقبة بناء الدولة القومية للبلدان التي هيمنت فيها إيديولوجية القومية العربية، حيث كانت العروبة مرادفة لقيم التقدم الفكري والاجتماعي والتاريخي. وبالرغم من أن الوحدة كانت محور ايديولوجية الحركة القومية، إلا أن نشاط الحركة تركز في النهاية في المسألة الاجتماعية والسياسية، أي في تغيير توازنات السلطة واعادة توزيع الثروة.. 

العداء للغرب، أو للامبريالية بما تعنيه من سياسات الهيمنة الدولية عبر التكتل السياسي الغربي الليبرالي (لا للاستعمار)، العدالة الاجتماعية، الثورة على الماضي والتقاليد، وتصفية مرتكزات الطبقة الارستقراطية، التوجهات التقدمية واليسارية، والتحرر الديني، هذه هي قيم القومية الثورية لحقبة ما بعد الاستعمار. ولأنها ارتبطت بفكرة الطليعية السياسية، أصبح من الطبيعي أن لا ترى أي قيمة للقيم الديمقراطية والتمثيلية القانونية والدستورية، وأن تركز بشكل اكبر على النخبة الثورية المخلصة والمنظمة في تكوينات حزبية قوية. وبالمثل، لم يعد للوحدة في منظور هذه العروبة التقدمية والثورية قيمة مركزية طالما أصبحت تعتمد بشكل أكبر في ضمان تقدمها واستقرارها على قوى الثورة العالمية والمعسكر الاشتراكي. 

أما الوحدة أو الوحدات التي طمحت إلى تحقيقها أو همت بتحقيقها فلم ير أي منها النور. والوحدة اليتيمة التي تحققت بين مصر وسورية في أواخر الخمسينات بالكاد دامت ثلاث سنوات. وتوالت الهزائم العربيّة، منذ أن انهارت الوحدة السوريّة المصريّة. وبعد هزيمة الجيوش العربيّة من الدولة الصغيرة إسرائيل في العام 1967، أقامت الأحلاف الغربيّة والشرقيّة وجهاً جديداً للاستعمارمع الدول الوطنية العربية.

 يقول المفكر الراحل هشام جعيط في هذا الصدد: "فقد خاب ظنّ من اعتقد من التحديثيين في القرن العشرين سواء كانوا قادة دول ـ مصطفى كمال، رضا شاه، عبد الناصر، بورقيبة ـ أو مفكّرين أنّه يمكن التخلّص من الإسلام بشطبة قلم، لأنَّ هذا لا يكون من دون صراع وجدلية في الواقع المجتمعي والتاريخي". (ص 5 من المقدمة). إنَّها جدلية الدّين والحداثة والثقافة والسياسة، وقد أُرجعها جعيط إلى العمق التاريخي لأنه ما وراء صراعات الحاضر.

ويضيف جعيط: ولئن وُجد في أواخر القرن الماضي وإلى حدود منتصف هذا القرن عمقٌ في التفكير من لدن النهضويين والمصلحين والكتّاب والمفكّرين فيما بعد، فإنّ عهد الدولة الوطنية والقومية أطفأ كلّ جذوة من الفكر الجرذ. فلقد اعتبروا أنهم نجحوا بالسياسة، وبالتالي فإنّ السياسة هي كلّ شيء، ودخل في هذه اللعبة الفارغة المثقّفون والجمهور"(ص 6).

في قراءته لإخفاقات الدولة القومية العربية، يقول جعيط: الأوضاع تراوح مكانها. وتبين بعد قرن من انهيار الخلافة العثمانية وبعد عشرات السنين من بروز دعاة الدولة القومية والوحدة الإسلامية أنَّ السياسيين الذين يؤمنون بـ "الدولة الوطنية المصغرة"، مثل الحبيب بورقيبة، كانوا أصَّح. بقي حلم بناء دولة الحرِّية والاشتراكية والوحدة القوية أو الدولة الإسلامية الكبيرة التي تقام على أرض الخلافة السابقة طوباويا.

فقد انتصر مفهوم الحكام البراغماتيين للدولة الوطنية الجديدة، رغم مشاعر الانتماء داخل كامل العالم الإسلامي لأمة واسعة بأبعادها الثقافية والحضارية..وتبين أنَّ أغلب السياسيين الجدد ليس لديهم رؤيا ولا فكر سياسي واضح عن الدولة الوحدوية الكبرى ولم يقدموا لها مرجعيات فكرية متكاملة مثلما فعل المفكر ميشيل عفلق في مؤلفاته وخاصة في كتابه "في سبيل البعث  ".

وقد ولد ميشيل عفلق في دمشق في 1910 ومات منفيا في العراق في 1989 دون أن تحقق الأحزاب البعثية التي تنتسب إليه حلم الدولة القومية.وسجلت نفس الظاهرة بالنسبة للكتاب والسياسيين الوحدويين الإسلاميين مشرقا ومغربا. بقيت خواطرهم وأفكارهم عن الدولة الإسلامية المعاصرة طوباوية وحبرا على ورق.بل لقد تعمقت الهوة في الدول التي تبنت القومية والوحدة ذاتها. وابتعد الساسة ورجال الدولة عن أفكار ميشيل عفلق وصديقه منذ أيام الدراسة صلاح الدين البيطار (1912 ـ 1980) اللذين أسسا معا حزب البعث  العربي الاشتراكي في سورية، ورغم تحمل صلاح البيطار مسؤوليات كبيرة في الدولة وقيادة الحزب في سوريا في مرحلة الوحدة مع مصر وبعدها.

إِنَّ التيارات السياسية التي تفتقر إلى مفكرين قد تنحرف نحو العموميات ثم نحو العنف اللفظي والمادي. فقد فرَّ ميشيل عفلق بأفكاره وقناعاته عن العروبة والإسلام والوحدة من سوريا إلى العراق. وفرَّ صلاح البيطار إلى لبنان ثم إلى أوروبا، حيث اغتيل في باريس عام 1980". وفشل بقية المنظرين للوحدة العروبيين والإسلاميين مثلما فشل دعاة "العالمية الاشتراكية".. وتم تكريس واقع "الدولة الوطنية".

 

 

إقرأ أيضا: المفكر هشام جعيط.. طريق العرب والمسلمين لولوج باب الحداثة

 

إقرأ أيضا: هشام جعيط في مواجهة أطروحات خصوم الحداثة والاستشراق

 

إقرأ أيضا: لماذا نجحت الحداثة في اليابان وأخفقت في بلاد الإسلام والصين؟






التعليقات (1)
سامح ابراهيم
الثلاثاء، 15-06-2021 12:20 م
الجعيط يخلط عن حسن نية او سوء نيه لكرهه الاسلام بين علمانية القومية العربية او يتهمنا بافعال عملها غير الاسلام ينبغي علي الكاتب ان يكون على وعي و ادراك انه لكي تصف عمل بالاسلامي ان يكون نابع من القرآن الكريم و السنة و لا يلصق كل من حمل اسم المسلمين بالاسلام حتى لو كان ملحد

خبر عاجل