كتاب عربي 21

توحّش السلطة هو آخرُ أطوار الاستبداد العربي

محمد هنيد
1300x600
1300x600

قد يكون من المستحيل اليوم حصر الانتهاكات اليومية التي يتعرض لها المواطن على امتداد الرقعة العربية بل قد لا نبالغ إن قلنا إنّ بلاد العرب هي اليوم موطن القمع والتنكيل بلا منازع. تختلف الوسائل وتتباين أشكال القمع قصفا بالطائرات أو تعذيبا حتى الموت أو الإعدام شنقا أو حتى السحل في الشوارع حتى تنقطع أنفاسك. 

سيكون من المستحيل حتما حصر الطريق إلى الموت في بلادنا لكنّنا بلغنا في هذا المضمار ما لم تبلغه الأمم الأخرى، في مؤشر خطير على تآكل الأمة من الداخل. في مصر يعدمُ خيرة أبنائها وقيادييها وفي تونس يُسحل المواطن عاريا في الطريق حتى يلفظ أنفاسه أما في سجون البلاد العربية فإن الموت أقرب إلى الإنسان من باب الزنزانة.

لن نخوض هنا في المعارك والحروب والنزاعات أو في ما يرتكبه الصهاينة في فلسطين من جرائم أو ما تقصفه الطائرات الروسية والأمريكية ومختلف المليشيات الأجنبية في بلاد العرب، لكننا سنتحدث في ما ترتكبه الدولة بما هي الضامن لحرية الفرد وسلامته الجسدية.

ما الذي يدفع الدولة العربية ـ إن سلّمنا جدلا بوجود الدولة ـ إلى توحش القمع؟ لماذا لا تتحرك المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لحماية المواطن؟ لماذا يفشل الخارج دوما في منع الجرائم المتعلقة بالتعذيب أو انتهاكات حقوق الإنسان؟ وما هي النتائج الطبيعية لتوحّش الدولة العربية؟

مشاهد القمع 

لا تزال مصر تحت صدمة جديدة إثر تثبيت محكمة النقض الحكم بالإعدام على عدد من قيادات الشرعية التي انقلب عليها العسكر هناك صيف 2013. في تونس مثّل مشهد سحل شاب حتى الموت مجردا من ثيابه مؤشرا خطيرا على عودة دولة القمع والتعذيب التي ثار ضدها التونسيون في 2010.

المشهدان لا يغطيان كل ما يحدث من جرائم بشعة في حق المواطن العربي من العراق إلى موريتانيا، حيث لم يعد في المعجم ما يكفي من المصطلحات لتوصيف فنون التنكيل بالبشر في بلاد العرب والمسلمين. لكنهما من جهة أخرى يعكسان حجم البشاعة التي وصل إليها نظام الحكم وأدواته بعد أكثر من عقد على ثورات الحرية التي طالبت بنهاية القمع.

 

لمّا كان النظام لا يستمدّ شرعيته من الشعب نفسه بما أنه قائم على القوة المسلحة وعلى التحالف مع القوى الأجنبية فإنه من الطبيعي أن لا يعير لهذا الشعب قيمة أو شأنا. لكنه من جهة أخرى يُدرك أنه لا يستطيع أن يحكم ويمارس السلطة ونهب الثروات دون إخضاع الجماهير سواء بالوسائل الناعمة أو بالوسائل الخشنة.

 


 
في مصر يسعى النظام الانقلابي إلى تحقيق هدفين لتثبيت نفسه وضمان ديمومته: 

أما الأول فهدف خارجي عبر التطبيع مع فرقاء الأمس مثل تركيا وقطر وهما الدولتان اللتان وقفتا دون تحفظ مع المطالب الشعبية الجارفة خلال ثورات الربيع. 

ثانيا يسعى النظام إلى إرهاب خصومه عبر تفعيل آلية الانتقام القصوى وهي الحكم بالإعدام على غريم سياسي تشفيا منه وتحذيرا لكل من تسوّل له نفسه تهديد الانقلاب مجددا.
 
قد لا نملك الأدوات الوصفية الكافية لرسم ما يحدث داخل الزنازين المصرية فهي دون شك جحيم لا يوصف ومقبرة للأحياء بعلم ومعرفة المنظمات الحقوقية والدولية التي تغض الطرف عن هذه الجرائم. هذه الجرائم لا تقتصر على المعارضين السياسيين أو النشطاء والصحفيين أو حتى من صفّق للانقلاب بالأمس بل هي جرائم تطال كل من لا يسير في ركب النظام ومن لا يبارك قمعه.
 
يختلف الأمر في تونس، حيث نجحت الثورة في حماية النشطاء السياسيين وفي ضمان حدّ كبير من حرية التعبير الذي هو أهم وأعظم مكاسب الثورة. صحيح أن التجاوزات ومحاولات تكميم الأفواه والعودة إلى النسق القديم لا تزال قائمة لكنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي تسعى إليه. 

بقطع النظر عن بعض التسريبات التي ترى في الجرائم الأمنية مخططا مكشوفا من بعض القوى السياسية المرتبطة بالدولة العميقة لإشعال الشارع ودعم مخطط الرئاسة في الانقلاب على الحكومة والبرلمان فإنّ سلوك النظام بشكل عام لم يتغيّر ولا تزال عقلية النظام الاستبدادي تسيطر على سلوكات الدولة الفردية والجماعية. 

صورة المواطن في وعي النظام 

إن قراءة جذور وعي القمع وسلوكاته في البلاد العربية تحيل إلى مرجعين أساسيين يتعلّق الأول بنشأة ما يُسمّى زورا الدولة الوطنية والتي لم تكن في الحقيقة إلا واجهة الوكالة الاستعمارية. ويرتبط الثاني بغياب الشرعية عن الأنظمة الحاكمة التي لا تستند في أغلبها على شرعية شعبية بل تتأسس على الانقلابات العسكرية أو التحالف مع القوى الأجنبية الضامنة لوجودها. وليست الانتخابات إلا خير دليل على ذلك حيث تكون وسيلة النظام لضمان شرعية دولية زائفة مثل مسرحية الانتخابات الأخيرة في سوريا.. وفي حال وصول أطراف لا تحظى بدعم دولي يكون الانقلاب العسكري الدامي وسيلة النظام العالمي للقضاء على الشرعية الوطنية. تقودنا هذه المسارات إلى تبيّن صورة المواطن أو الفرد العربي في وعي النظام وهي الصورة التي تسمح بالبحث في جذور القمع وانتهاك حرمة الإنسان.
 
لمّا كان النظام لا يستمدّ شرعيته من الشعب نفسه بما أنه قائم على القوة المسلحة وعلى التحالف مع القوى الأجنبية فإنه من الطبيعي أن لا يعير لهذا الشعب قيمة أو شأنا. لكنه من جهة أخرى يُدرك أنه لا يستطيع أن يحكم ويمارس السلطة وينهب الثروات دون إخضاع الجماهير سواء بالوسائل الناعمة أو بالوسائل الخشنة.

 

يختلف الأمر في تونس، حيث نجحت الثورة في حماية النشطاء السياسيين وفي ضمان حدّ كبير من حرية التعبير الذي هو أهم وأعظم مكاسب الثورة. صحيح أن التجاوزات ومحاولات تكميم الأفواه والعودة إلى النسق القديم لا تزال قائمة لكنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي تسعى إليه.

 


يمثل المواطن في صورته الفردية أو الشعب في تصوّره الجماعي كابوس النظام لأنّه يشكل مدار السلطة ومدار الثروة ومضمون الحكم نفسه. لذا فإنّ إخضاع المواطن أو الشعب يعدّ أهمّ التحديات التي تشغل بال السلطة وتؤرق أجهزتها القمعية والرقابية. 

لكن من جهة ثانية هل يصحّ الحديث عن الشعوب العربية مثل الحديث عن بقية شعوب العالم المتحضر؟ وهل يليق بالفرد العربي مصطلح المواطن بما يتضمنه مفهوم المواطنة من حقوق وواجبات؟ أليست الشعوب العربية أقرب إلى الرعية منها إلى الشعب؟ ما قيمة المواطن العربي في بلده هذا إذا اعتبرنا أنّ له قيمة أصلا؟
 
إعدامات مصر أو سحل المواطن حتى الموت في تونس أو زنازين التعذيب المفتوحة على طول البلاد العربية هي أخطر المؤشرات على انهيار قيمة الإنسان العربي في بلاده. لا قيمة له في بلد الانقلابات أو في بلد الثورة ولا قيمة له في النظام الملكي أو في النظام الجمهوري ولا قيمة له في الدولة الغنية أو في الدولة الفقيرة.
 
لن تتوقف دوامة توحش النظام حتى تعود للإنسان قيمته وكرامته على أرضه مؤسسةً على شرط الحرية والوعي بأنه لا بديل عن الثورة بعد أن رفض النظام الرسمي القبول بحتمية التغيّر التاريخية. إنّ ما يحدث اليوم من إمعان السلطة العربية في القمع والتنكيل ليس إلا آخر أطوار الانتحار في بنية سياسية استوفت كلّ شروط وجودها بعد أن قادت شعوبها وأوطانها إلى الخراب الكبير.


التعليقات (3)
الاستاذ محمد ناجوي
الخميس، 29-07-2021 10:57 ص
اطلعت على بعض مقالات الدكتور محمد هنيد عن الاحداث في تونس،لكن لي بعض الملاحظات عن ما يقول وخاصة حين يصف ماحصل في تونس في17ديسمبر2010الى 14يناير2011بأنه(ثورة)،وهذا أمر غفل عنه كثير من المحللين العرب.لكن انا شخصيا لم اعتبر ماحدث في تونس(ثورة)بل هو انقلاب على بن علي، والدليل هو الحوار الذي اجراه وزير الدفاع التونسي رشيد عمار لصحيفة Le point الفرنسية حيث قال(ان المخابرات الامريكيةCIAاتصل بي وبعلي الصرياطي قائد الحرس الجمهوري لزيارة لواشنطنوهذا قبل الاحداث التونسية ب12يوموقالوا لنا ان هناك فوضى ستحصل في تونس واحداث شغب،فقال رشيد عمار وماموقف الجيش؟قالو لهم كونوا مع الشعب،وعند سؤال رشيد عن مصير بن علي قالت CIAبن علي انتهى.ياساده هذا الكلام تجدونه مكتوب على صحيفةLe point الفرنسية وصورة كبيرة لرشيد عمار على غلاف الصحيفة ،إذن عن اي ثورة تتكلمون؟هذاللتوضيح
شريف عبدالوهاب
الخميس، 17-06-2021 11:46 ص
ليس هنالك وسيلة للاتصال بادارة هذا الموقع الموقر، ولم تمنحوا القُرَاء والمتابعين طريقة للاتصال بكم، بحيث كان ينبغي أن تتوفر في آخر الصفحة بند "إتصل بنا" مثل ما هو معروف في المواقع الأخرى. على كل أود أن ألفتَ إلى عنايتكم بأنه لا تظهر التعليقات على المقالات المختلفة بالهاتف الذكي ولا نعرف السبب، كما إن المعلقين قد يجدون صعوبة في إرسال التعليقات في بعض الأحيان، وإنما هناك برنامج يحول تعليقك إلى حروف لاتينية ويقول لك هناك مشكلة، فنرجو أن تحلوا كل هذه المعوقات وتأخذوا هذه الملاحظات على محمل الجد، شاكرين لكم حسن تفهمكم.
شريف عبدالوهاب
الخميس، 17-06-2021 11:14 ص
ينبغي أن يتذكر الرئيس التونسي قيس سعيد عندما يؤلب المؤسسة العسكرية والأمن على حكومة البلاد وبرلمانها، حيث إنه من غير المعقول أن تكون الوثيقة الانقلابية تمت مناقشتها في القصر الجمهوري، وتمت بلورتها وصياغتها وعرضها عليه دون علم مسبق منه، ينبغي أن يتذكر ما آلت إليه أمور السياسيين المصريين الكبيرين محمد البرادعي وحمدين صباحي الذين ألبّا وورطا المؤسسات الأمنية والعسكرية على النظام الديمقراطي في مصر، وَهَيَؤُوا مع آخرين الأجواء للانقلاب العسكري ثم إنتهى بهم المطاف إما إلى الهرب والنجاة بجلده "البرادعي نموذجا" أو معزول عن السياسة نهائيا ودون أن يسمح له حتى هامشا محدودا في حرية التعبير بل إنه يعيش في خوف وقلق دائم على حياته من الاعتقال والتنكيل به "حمدين نموذجا" أو مفصولاً ومن ثم مطرودا إلى الخارج محمد بدوي نموذجا بعد فترة وجيزة شغل فيها على رأس وزارة الداخلية. ونفس الشيء ينطق على عبير موسى وكل من يعمل على شاكلتها ممن يحنون لعهد القمع القديم ويعملون ليل نهار لاجهاض الديمقراطية السمحة في البلاد. وفي الختام، لماذا نظن أن أقدار الرحمن فرضت على المواطن العربي بالعيش تحت وطأة الدكتاتورية والاستبداد الدائم كل هذه السنين الطويلة، في الوقت الذي ينعم فيه مواطنوا بلاد غير مسلمة بالديمقراطية والحرية التامة؟ ربما يحتاج المواطنون في الوطن العربي بأن يبتهلوا ويتضرعوا بالدعوات الخالصة إلى الله عز وجل بأن يرفع عنهم بلاء الدكتاتورية والاستبداد المهلك.