قضايا وآراء

قيس سعيد يفقد ثقة التونسيين

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
ليس أسوأ على المرء من أن يجد نفسه في وضعية ندامة دون قدرة على مراجعة نفسه وإصلاح خطئه قبل انتهاء أجل "الخطأ"، تماما كما يحصل لكثير من التونسيين الذين يعضون أصابعهم ندما لأنهم وضعوها يوما في الحبر لانتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية لمدة خمس سنوات؛ لا يمكنهم قطعها بالقانون ولا حتى بالخروج إلى الشارع.

لقد فاز قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية عام 2019 بنسبة عالية فاقت السبعين في المائة، وذلك لأن منافسه في الدور الثاني كان موصوما بالفساد وبشبهة العلاقة مع دوائر خارجية معادية للأمة. ولم يكن تصويت أغلب التونسيين لقيس سعيد قناعة بجدارته، وإنما كان الناخبون مضطرين حتى يمنعوا منافسه نبيل القروي من أن يكون رئيسا.

حديث "النظافة" لا معنى له حين يكون الشخص بلا تاريخ سياسي ولا تجربة نضالية ولا أثر فكري أو أدبي، فـ"النظافة" هي محصلة تجربة يخوض فيها الشخص معارك ويمر فيها بأزمات ويتعرض لفتن وإغراءات وابتلاءات، ويخرج منها في النهاية بأقل الخسائر المعنوية والأخلاقية. فـ"النظيف" هو من تتوفر له فرص "الاتساخ" ولا "يتسخ"، الاتساخ بالولوغ في المال العام وبالتحالف مع الفاسدين والمهربين والمحتكرين أو باستغلال النفوذ الإداري والمالي والسلطوي، أو باستغلال العلاقات الخارجية لتحقيق منافع خاصة ضد المصالح الوطنية. هذه "الفرص" لم تتوفر لقيس سعيد لكونه كان فقط أستاذا جامعيا في القانون الدستوري، ولم يكن له أي نشاط آخر خارج مدرج الكلية ولا علاقات خارج العلاقة بطلبة مادته.

عادة الحكم على الأشخاص يكون بتمحيص تجاربهم ودراسة مواقفهم وملاحمهم التي خاضوها ضد الظلم والاستبداد والفساد، وهو ما لم يحصل مع قيس سعيد لأن التونسيين تفاجأوا به مرشحا للرئاسة ولم يجدوا ما يؤاخذونه عليه، في حين وجدوا على بقية منافسيه مؤاخذات عدة. كان يمكن أن ينتبه العقلاء إلى كون تاريخ "السلبية" هو الخطيئة ذاتها والمؤاخذة كلها، حين يكون الشخص بلا تجربة فيها الخطأ والصواب وبلا تاريخ فيه الحسن والسيئ وبلا فعل فيه النجاح والإخفاق.
هل ساهمت دوائر غير معلومة حد اللحظة في تصعيد قيس سعيد لسدة الرئاسة وما مدى صحة التسريبات الأخيرة التي كشفها نائب في البرلمان؟

الفضائل تُكتسب بالقدرة على نقيضها، فالمتواضع هو من يتوفر على إمكانات التكبر ولا يتكبر، والمسامح هو القادر على أن يعاقب ولا يعاقب، والمسالم هو القادر على أن يحارب ولا يحارب، والنظيف هو الذي تتوفر على فرض "الاتساخ" ولكنه يقاوم إغراءات السلطة والمال ويحافظ على استقامته ونظافته. وهذا كله لم يتوفر لأستاذ جامعي لا يجد له التونسيون نشاطا سياسيا أو حقوقيا أو نقابيا أو إعلاميا أو ثقافيا زمن الاستبداد؛ الذي استمر عقودا وتعرض فيه آلاف التونسيين من طلبة وموظفين ونشطاء وجمعيات وأحزاب إلى أشد أنواع التنكيل والتشريد.

لم يكن قيس سعيد معروفا عند عموم التونسيين ولا عند النخبة السياسية ولا في الأوساط الحقوقية أو النقابية، لقد كان كعموم بسطاء الناس يأكل رغيفه ويلازم الصمت ويَحذر أن تتخطّفه الطير.

ما الذي جعله "يسطو" على أصوات ثلاثة ملايين تونسي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية؟ هل حصلت عملية توجيه للرأي العام بأساليب علمية مخادعة كما قيل؟ هل خضع المزاج الشعبي العام إلى عملية تكييف خفي غير مفضوح؟ هل ساهمت دوائر غير معلومة حد اللحظة في تصعيد قيس سعيد لسدة الرئاسة وما مدى صحة التسريبات الأخيرة التي كشفها نائب في البرلمان؟

كان يُمكن أن يطرح التونسيون مثل هذه الأسئلة وغيرها قبل وخلال عملية الاقتراع، ولكنهم كانوا فعلا كمن خدّرته النشوة فأضاع الفكرة ونسي الأسئلة.

ندامة الكثير، وربما الأغلبية من التونسيين، على انتخاب قيس سعيد رئيسا، هي ندامة مضاعفة، بل وتزداد وطأة كلما كشف الرئيس عن نوايا غير دستورية وغير ديمقراطية وغير مطمئنة لكونه رئيسا لكل التونسيين؛ موحدا بينهم متعاليا عن الصراعات الحزبية والأيديولوجية.

لقد أصبح الكثير من التونسيين يتوجسون من خطاباته كلما ظهر لهم متحدثا، فلا يتوقعون منه إلا توترا ووعيدا ووصما لـ"الآخرين" والـ"هُم" بالنفاق والتآمر والمرض، ثم يطلق تهديداته ويعد بالنصر عليهم ويعبر عن استعداده للشهادة كما لو أنه يواجه أعداء لا شركاء وطن.

رئيسنا يخاطب مخالفيه بـ"منصات صواريخ" و"جبهات"و"استشهاد" وغيرها من مفردات الحروب.
لقد أصبح الكثير من التونسيين يتوجسون من خطاباته كلما ظهر لهم متحدثا، فلا يتوقعون منه إلا توترا ووعيدا ووصما لـ"الآخرين" والـ"هُم" بالنفاق والتآمر والمرض، ثم يطلق تهديداته ويعد بالنصر عليهم ويعبر عن استعداده للشهادة كما لو أنه يواجه أعداء لا شركاء وطن

قيس سعيد الذي لم يُعرَف عنه انتماءُ أيديولوجي، فاجأ التونسيين ليلة السابع والعشرين من رمضان وهو يخاطبهم من جامع الزيتونة المعمور بقوله: "إن القرآن نزل على المسلمين وليس على الإسلاميين"، تصريح صادم في ليلة مباركة من شهر مبارك يحتاج فيه الناس خطاب الوحدة والتضامن والمحبة والتسامح. ومما أعطى كلامه ذاك دلالات سلبية هو توقيت قوله، إذ جاء في نفس يوم عودته من زيارة إلى القاهرة والتقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقد أطلق عليه صفة "الشقيق"، حتى فهم الكثير من المراقبين كما لو أنه يريد أن يتخذ منه أسوة في التعامل مع الإسلاميين.

قيس سعيد يضع التونسيين في منطقة القلق والارتياب، ولهم ما يبرر قلقهم ذاك وارتيابهم لما دأب عليه في العام الأول من إلقاء خطبه في الثكنات وأمام قادة الجيوش، ثم لما أبداه من محاولة استمالة القوات الأمنية إليه لولا قوة موقف رئيس الحكومة هشام المشيشي وتمسكه بصلاحياته، وإبطال تعيينات في مراتب أمنية عليا قيل إنها كانت مقدمة على عمل ما ضد المسار الديمقراطي.

تفاءل التونسيون خيرا بمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل الداعية إلى حوار وطني ينقذ البلاد مما تشهده من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية، ولكن رئيس الجمهورية قيس سعيد وبعد رفضه قبول أداء الوزراء القسم أمامه وبعد رفضه أيضا إمضاء مشروع تعديل قانون المحكمة الدستورية؛ تمادى فوضع شروطا تعجيزية للحوار أهمها مراجعة النظام السياسي ليكون رئاسيا ثم العودة إلى دستور 1959، وتجاوز دستور 2014 الذي يُعتبر دستور الثورة وقد صادق عليه 200 نائب من جملة 217.

لماذا يحرص الرئيس قيس سعيد على توسيع صلاحياته لتشمل وزارة الداخلية؟ لماذا يرفض المصادقة على قانون المحكمة الدستورية؟ لماذا يرفض أداء وزراء حكومة المشيشي اليمين أمامه وقد زكاهم البرلمان بنسبة عالية جدا؟ لماذا يرفض الحوار الوطني؟ لماذا يريد تغيير النظام السياسي من برلماني معدّل إلى رئاسي مطلق؟ ثم وهو الأهم: لماذا يريد العودة بالتونسيين إلى دستور 1959؟

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)