قضايا وآراء

أفغانستان.. شاهد على هزيمتين

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600
ثلاثة عقود تقريباً فصلت بين الهزيمة السوفييتية والهزيمة الغربية، التي واجهها تحالف دولي من 38 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان، وبقدر ما يرى بعضهم أن لا مياه جرت تحت الجسر الأفغاني منذ الغزو الأمريكي 2001، بقدر ما أرى أن مياهاً كثيرة سالت، إذ إن ثمة مفارقات جوهرية وبنيوية في التعاطي الأفغاني مع الانسحاب الأخير، وهو ما سيلقي بتداعيات عميقة وبعيدة المدى على المسرح السياسي الأفغاني، ومعه المسرح الباكستاني والإقليمي والدولي بشكل عام.

كنت شاهداً على الانسحاب السوفييتي من أفغانستان الذي بدأ في آب/ أغسطس 1988 واكتمل في شباط/ فبراير 1989، غطيته وتابعت تفاصيله لحظة بلحظة يومها. وها أنذا اليوم أتابع الانسحاب الغربي برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم مما قد يبدو ظاهراً بأن الهزيمتين متشابهتان، فإن الواقع يشير إلى عمق المفارقات بين الانسحابين أو الهزيمتين كما يحلو لبعضهم تسميتهما. ولعلي هنا أشير إلى بعض هذه المفارقات، مما قد يساعد صانع القرار المعني في التعاطي مع الحدث بشكل أكثر واقعية.

الانسحاب السوفييتي من أفغانستان عام 1989 جرى بمفاوضات بين حكومة باكستان والحكومة الشيوعية الأفغانية العميلة للسوفييت، ثم بمفاوضات بين واشنطن وموسكو، مما أسفر عن انسحاب أو هزيمة لم يكن المجاهدون لا من قريب ولا من بعيد طرفاً فيها، وحتى اتفاقيات جنيف التي وقعتها الأمم المتحدة كانت بين باكستان وأفغانستان بضمانات أمريكية ودولية، وهو ما يختلف تماماً وكلية في حال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان اليوم. إذ تم إبعاد الحكومة الأفغانية تماماً عن المفاوضات، وأشركت حركة طالبان كممثل وحيد عن المقاومة الأفغانية، بينما كانت أطراف المقاومة أيام الانسحاب السوفييتي من أفغانستان على الأقل ثمانية أحزاب، سبعة منها جهادية سنية، وواحد شيعي ممثلاً بحزب الوحدة. مثل هذا الواقع اليوم فرض حركة طالبان الأفغانية طرفاً شرعياً وحيداً للمقاومة الأفغانية، بدعم سياسي واضح من باكستان، لم تشأ الأخيرة أن تدخل فيه كطرف سياسي بديل عن طالبان، وهو ما وفّر وسيوفر لها هامش مناورة إقليمياً كبيراً، ولذا فإن أي محاولة لتدوير الحكومة الأفغانية من قبل أطراف دولية وإقليمية وأممية على حساب طالبان، سيكون مآله فشلاً كبيراً ما دامت واشنطن نفسها طلّقته.
على ما يبدو ثمة تعهدات سرية أمريكية لطالبان بعدم الدخول في دعم جوي للحكومة الأفغانية بعد الانسحاب، وهو ما تجلى اليوم ونحن نرى تساقط المديريات والمناطق الأفغانية بأيدي الحركة

لم تُشغل حركة طالبان نفسها بكليشيهات غربية عن شكل الدولة وقانونها ودستورها، وشكل الحكومة وهل هي موسعة أو غير موسعة، كما انشغل يومها المجاهدون الأفغان، مما أثار خلافات بين فصائل المجاهدين، فكان لكل فصيل رؤيته السياسية والشرعية. أما الحركة اليوم التي تحتكر "المقاومة الشرعية" لوحدها، فلم تخض في كل هذه التفاصيل مركزة على العمل العسكري فحسب. فالانشغال بمثل هذه الخلافات سيضعف المجهود العسكري، وسيكون على حسابه في أفضل الاحتمالات، ولذا انصبت الطاقات والقدرات الطالبانية اليوم على العمل العسكري فقط.

على ما يبدو ثمة تعهدات سرية أمريكية لطالبان بعدم الدخول في دعم جوي للحكومة الأفغانية بعد الانسحاب، وهو ما تجلى اليوم ونحن نرى تساقط المديريات والمناطق الأفغانية بأيدي الحركة، بالإضافة إلى تصريحات وتلميحات أمريكية عن قرب سقوط الحكومة الأفغانية أو إمكانيته.

أما على الأرض فظهرت الانتكاسات السريعة المتوالية والمتتالية لجبهات الحكومة الأفغانية، مع تحاشي حركة طالبان التعهد بإسقاط مدن كبرى، وهو الفخ الذي وقعت فيه فصائل المجاهدين عام 1989، ففشلت فيه، مما شكل يومها انتكاسة حقيقية. فطالبان اليوم اختارت استراتيجية كرة الثلج أو دبيب النمل، من حيث السيطرة على المديريات والمناطق الأفغانية بشكل تدريجي لضرب مصداقية الحكومة في القدرة على الصمود، بالإضافة إلى تكبير كرة ثلج الدعم والتمويل الخاصة به من خلال الغنائم وتجنيد جنود جدد لصالحها، مع تقليص قدرات عدوها، وفوق هذا تسديد ضربة نفسيه للحكومة الأفغانية وداعميها.
الخشية كل الخشية أن تتحول أفغانستان إلى ساحة مواجهة وتصفيات إقليمية على غرار ما حصل بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، في ظل رغبة روسية وإيرانية لتنسيق المواقف في أفغانستان ما بعد الهزيمة الأمريكية

الطرف الإقليمي الأكثر اهتماماً بالشأن الأفغاني اليوم هو باكستان، وقد ظهر من خلال مقابلة وزير خارجية باكستان شاه محمود قريشي مع تلفزيون أفغاني فرحه وتهليله لهذا الانتصار الطالباني. وقد حسم رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان مسألة استخدام القواعد العسكرية الباكستانية من قبل واشنطن، حين رفض أي استخدام أمريكي لقواعد بلاده ضد أفغانستان مستقبلاً.

لكن الخشية كل الخشية أن تتحول أفغانستان إلى ساحة مواجهة وتصفيات إقليمية على غرار ما حصل بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، في ظل رغبة روسية وإيرانية لتنسيق المواقف في أفغانستان ما بعد الهزيمة الأمريكية.
التعليقات (0)