كتاب عربي 21

الصدع التونسي واحتمال الاحتراب الأهلي

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
كنا نكتب وتحت تأثير عملية الانتقال الديمقراطي عن قدرة التونسيين على بناء التوافقات السياسية في الأزمات، وبراعتهم في إيجاد المخارج المنجية من الانقسام والاحتراب، لكن بعد انقلاب 25 تموز/ يوليو أظن أنه من اللائق التوقف عن بث هذه الشحنة من التفاؤل. لقد انتهت أسبابها، وانقسم الشعب التونسي إلى شعبين وتصدعت وحدته صدعا يفتح الباب على كل التوقعات السيئة.

إن اللغة السائدة الآن بين المتكلمين في الشأن العام لا تبشر بخير، بل تنذر بكارثة قادمة وعند أدنى استفزاز مباشر في الشارع (والجميع يمسك حجرا كبيرا بيديه). لا أرى أحدا قادرا على إيقاف الدم، والشعور السائد أن العقلاء قد اختفوا من المشهد؛ إما خوفا أو ترفعا أو تربصا بموقع مع منتصر. وفي كل الأحوال لا أحد يقول الآن للشارعين المتناظرين بغلّ تاريخي؛ تريثوا فنحن في أرض واحدة وملزمين بالتعايش.
لا أرى أحدا قادرا على إيقاف الدم، والشعور السائد أن العقلاء قد اختفوا من المشهد؛ إما خوفا أو ترفعا أو تربصا بموقع مع منتصر

الرئيس قسم الشعب إلى شعبين متناحرين

السردية القائمة على اتهام البرلمان وحزامه بتقسيم الشعب؛ سردية تقوم على مغالطة ولا تلزم إلا مروجيها. لقد كان برلمانا منتخبا بالقانون المتفق عليه، والذي لم يسع أحد إلى تغييره قبل الانتخابات لاجتناب ضعفه وإغلاق نوافذه التي تسرب منها نواب المغانم والرشوة. لقد كان قانونا فاسدا ولكن الجميع حافظ عليه ليجد به مدخلا عبر أكبر البقايا، والذين يطعنون في البرلمان المجمد كلهم مسؤولون عن تكويناته التي لم تؤد ما عليها على وجه يرضي الناس، فضلا عن أن نقاد الأداء البرلماني هم المزغردون للفاشية وحزبها التي حولت البرلمان إلى سيرك ومنعوا تدخل الأمن لتهدئة أجواء النقاش، فضلا أيضا على أن هؤلاء النقاد بنوا حكومتهم (حكومة الفخفاخ) على هذا البرلمان الطاهر الذي أصابته نجاسة بعد سقوط الفخفاخ.

لذلك ففشل البرلمان هو مسؤولية كل مكوناته، والطعن في مصداقية النظام السياسي القائم على انتخابات 2019 ودستور 2014 متقاسمة بعدل بين الكتل بقطع النظر عن أحجامها بعد الصندوق. ويجب أن لا ننسى أبدا أن الرئيس أقسم اليمين على دستور 2014 وأمام هذا البرلمان الفاسد.

نتج عن هذه السردية التطهرية تقسيم الشعب إلى جماعة البرلمان وجماعة الرئيس. وقد بنى كل متراسه خلف شرعية، وإن كانت جماعة الرئيس هي الأعلى صوتا حتى الآن، بينما تظهر جماعة البرلمان ودستور 2014 صامتة وتتربص بما سيفعل الرئيس في قادم الأيام. ولكن لا علامة على وجود نوافذ حوار بين المعسكرين، أي أن الانقسام يترسخ بلا أفق صلح أو توافق كالعادة.

التسريبات المتسارعة عن شروع الرئيس في نقض النظام السياسي القائم على دستور 2014 تتوالى، والحديث عن البدء في إلغاء العمل بالدستور تُسمع في منابر كثيرة، لكن ردة الفعل الاستباقية على ذلك لم تظهر بعد. هل سيكون استسلاما لمشروع الرئيس؟ قد يكون هذا أفق محتمل لاجتناب معارك الشوارع المتقابلة، لكن كم يكون ثمنه على مستقبل السياسة في تونس؟
التسريبات المتسارعة عن شروع الرئيس في نقض النظام السياسي القائم على دستور 2014 تتوالى، والحديث عن البدء في إلغاء العمل بالدستور تُسمع في منابر كثيرة، لكن ردة الفعل الاستباقية على ذلك لم تظهر بعد

وهم الاعتماد على الموقف الدولي

زمن ابن علي كانت معارضته تعيش أياما من الانتصار المزيف لمجرد صدور بيان من منظمة أوروبية تفضح جرائمه على حقوق الإنسان، فتبني على بيان غير ذي قيمة مواقف وانتظارات. وقد رأيت سلوكا مماثلا في نصف الشهر الأول من الانقلاب، كأن الموقف الدولي معني فعلا بالمحافظة على دستور بلاد لا تعني له إلا ما قد تعنيه فاصلة بين لفظين في جملة اعتراضية. وقد برز خبراء في تحليل الموقف الدولي يتحدثون بلغة المطلع على الكواليس، وهو اطلاع مدعَى.

سيرة الموقف الدولي مع تونس وبلدان تشبهها واحدة، وقد تحمّل ابن علي ربع قرن بكل مجازره ضد حقوق الانسان، وتحمل القذافي 42 سنة لم يزعجه فيها إلا بقدر ما اقترب من خطر استعمال نفطه في الإضرار بمصالح الغرب، ما دام ليس هناك دم في الشوارع يهدد مصالح الدول، فإن قتل التونسيين لأنفسهم لا يعنيه في شيء، وقد تكلم الجار الجزائري بما يفيد بعدم تدخله ما دامت حدوده غير مهددة.

ويبدو الرئيس أقدر على الاستفادة من هذه اللا مبالاة الدولية، فهو يتقدم بخطى ثابتة نحو مشروعه، وهو بدوره لا يفتقد الأنصار في الخارج، والظاهر أن داعميه يملكون ما ينفعه في خطواته الأولى للاستقرار، بينما تبدو بقية الأطراف الدولية محايدة أو تتظاهر بالانشغال بمصير الديمقراطية. وهي تمثيلية لا يصدقها إلا الباحث عن ذريعة للتراخي أمام موجة قادمة من التغيير السياسي والقانوني ستفضي إلى متاهة بلا مخرج.
يبدو الرئيس أقدر على الاستفادة من هذه اللا مبالاة الدولية، فهو يتقدم بخطى ثابتة نحو مشروعه، وهو بدوره لا يفتقد الأنصار في الخارج، والظاهر أن داعميه يملكون ما ينفعه في خطواته الأولى للاستقرار، بينما تبدو بقية الأطراف الدولية محايدة أو تتظاهر بالانشغال بمصير الديمقراطية

نعم الشعب انقسم إلى شعبين، وأرى شقا منه يتقدم واثقا ويضع الشق الثاني أمام أمر مقضي بحيث لا يبقى له الا الاستسلام أو الدم. وما أشبه هذا بأيام ابن علي الأولى عندما أوهم الناس بميثاق وطني تبنى عليه الديمقراطية، فلما استقر له الأمر وقد أمضى الجميع وسلم؛ قلب ظهر المجن للجميع واستفرد بالسلطة والمال، وحوّل البلد إلى سجن كبير بلا نوافذ.

وحدهم عشاق الحرية سيتعذبون

خارج سجون ابن علي وخارج سجون الرئيس الجديد (التي نراها تتهيأ من جديد) سيبكي فقط عشاق الحرية المترفعون عن المغانم المادية، فهم من دعم مسار الثورة ونفخ في صورتها وجعل منها على بساطتها ثورة حريات وكرامة، وهم من لم يبتز الثورة والدولة، ورابط على أفق الحريات لتكون أسا لدولة جديدة تحفظ كرامة الإنسان.

هؤلاء مهددون في حريتهم ويهددهم الشعبويون بالسحل في الشوارع، ويتخلى عنهم الجميع في المعركة الأخيرة قبل الخراب. ستظهر في القريب جمل التوافق تحت سقف مشروع الرئيس، وسيكتب الطامعون كما كتبوا دوما: دعونا نجرب خيارا آخر كما لو أن هناك خيارا بين الحرية والسجن الكبير.

المغنم الوحيد في معركة طمس الحريات وكسر قلوب عشاقها هو أن الفرز اتضح وعرف كل كاذب موقعه، ولم تعد خطابات "ديمقراطي ولكن" تقبل أو يسلم لأصحابها بسلامة الطوية.

انقسم الشعب انقساما لا يراه الكثيرون.. عشاق الحرية ضد الانقلاب، والأيام دُول.
التعليقات (0)