كتاب عربي 21

من تغطى بالأمريكان عريان

جعفر عباس
1300x600
1300x600

الدرس الأكبر المستفاد من نجاح حركة طالبان السهل في اجتياح أفغانستان بالكامل خلال فترة قصيرة، ليس أن حركة محلية وطنية هزمت قوى أجنبية، وليس أن مقاتلين لا يملكون هليكوبترات أباتشي ودبابات أبرامز وقاذفات القنابل والقذائف الصاروخية الذكية انتصروا على من يملك كل أدوات القتال تلك، وليس أن مليشيا هزمت جيشا نظاميا، وليس أن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة كما يحاول شيوخ طالبان تصوير المشهد على أنه إعادة لسيناريو غزوة بدر الكبرى.

الدرس الأكبر المستفاد في تقديري هو أن الولايات المتحدة ليست من فئة الصديق في ساعة الضيق، وكان الأسلاف في عصور تقدير دور المعلم يذهبون بصغارهم إلى المدارس ويقولون للمعلمين: لكم اللحم ولنا العظم، وما فعلته واشنطن في أفغانستان وغيرها هو أنها أكلت عملاءها فيه لحما ورمتهم عظاما جيفاً، غذّتهم بكذا تريليون دولار، ورطنوا بالإنجليزية، ونسوا ألسنة أهلهم: البشتوية والإيماقية والطاجيكية والأذرية والبلوشية، وقبل أن تشتد سواعدهم رمتهم.
 
العميل مأجور ومأمور وعصمة أمره ليست في يده، وكما يقول المثل الإنجليزي فمن يدفع لعازف المزمار هو الذي يحدد المقطوعة التي يود الاستماع إليها، وأمريكا بذلت المال بسخاء للنخب الأفغانية، وبعد هوجة عام 2001 وما تلاها من أعوام أتوا بحامد كرزاي رئيسا لأفغانستان، وكان مؤهله الرئيس أنه يجيد الإنجليزية بحكم الدراسة والعمل طويلا في الهند وباكستان، وكان "نِعْم" الاختيار بالمقاييس الأمريكية، فقد كان أراجوزا يسهل تحريكه، وكما كان هناك طابور طويل من رؤساء لبنان لا يفعل شيئا إلا بموجب إذن مسبق من دمشق الأسدية، فقد كان كرزاي طوع بنان الأمريكان، ولا يقدم على أمر لم يطلبوه منه، وإذا أمروه اشتط في التنفيذ، ولما "صدّق حاله" وحاول أن يتصرف كرئيس حقيقي أنهوا خدماته.

وبعد أن قضوا من كرزاي وطرا لفظوه لفظ النواة، وجاء الدور على أشرف غني وكان أعلى تأهيلا بالمقاييس الأمريكية من كرزاي، فهو نتاج النظام التعليمي الأمريكي، حيث نال الدرجة الجامعية من جامعة بيروت الأمريكية والماجستير والدكتوراه من جامعة كولمبيا الأمريكية، وأجلسوه في قصر الرئاسة في كابل طرطورا لا يهش ولا ينش إلا بأمر الكفيل الأمريكي، وعندما جاءت لحظة الحقيقة وتعرض حكمه الصوري للخطر لاذ بالفرار، بينما قبطان السفينة المهني المحترف يقوم عند إشرافها المؤكد على الغرق بترتيب نجاة جميع من هم على متنها ويكون آخر المغادرين، وقد لا ينجو.

 

أمريكا تأخذ الأنظمة العميلة كما البامية الطازجة المشهود لها بوفرة القيمة الغذائية، وعندما تحقق غاياتها تتركهم "ويكة"، وهي البامية المجففة في عامية مصر والسودان، والتي لا سبيل لتحويلها إلى شيء ذي فائدة على المائدة إلا بالسحن والهرس والطحن، وفي رواية أخرى تلفظهم كما العلكة التي تعرضت للَّوك طويلا حتى فقدت خصائصها أو كمحارم الورق التي يستعصي إعادة استخدامها.

 



ومن المؤكد أن أشرف غني صاح في الأمريكان عندما طرقت حركة طالبان أبواب كابل: أمي، أبي أدركاني، ولكنه كان وقتها قد استنفد أغراضه، فكان أن اضطر إلى أن يسبق السفير الأمريكي في الهرب من البلاد، مما يشي بأن سيناريو هروبه كان جاهزا بكامل تفاصيله، وأنه كان بالتالي يضع في الاعتبار انتصار طالبان ما لم يرمِ الأمريكان بكامل ثقلهم في المعركة، فآثر الفرار بجلده، لأنه يفتقر إلى الجَلَد اللازم لقيادة جيشه "العصري" في مواجهة جيش طالبان "البدائي".

وفي عام 2003 جاء عراقيون يحملون جينات إفرنجية مع الجيش الأمريكاني وتوزَّعوا غنائم السلطة بعد سقوط نظام صدام حسين، وما إن اشتدت المقاومة ضد الوجود الأمريكي في البلاد حتى اضطروا للتحصن في المنطقة الخضراء في بغداد محروسين بالمارينز الأشاوس، وفات عليهم أن يخشوشنوا لأن النعمة لا تدوم، وبدأت نعمة الحراسة الأمريكية في الزوال عندما استشعر الأمريكان فداحة الثمن الذي يدفعونه يوميا بالبقاء في العراق، فقلصوا وجودهم العسكري كثيرا، وشيئا فشيئا رفعوا أيديهم عن العراق بعد أن استبانوا أن الثمن الذي يدفعونه أعلى من الفائدة المرجوة من البقاء، فكان أن آلت الأمور في العراق إلى إيران ووكلائها العراقيين، فـ"راحت" على طابور العملاء الذين قدموا مع الجيش الغازي في 2003، وصاروا في ذمة التاريخ.

كان محمد رضا بهلوي كلب الحراسة الأمريكي في الشرق الأوسط، وكان ذلك نظير أن يبقى عرشه محروسا من قبل الأمريكان، ولكن ما أن أدركت واشنطن أن ثورة 1979 الشعبية ضد النظام الشاهنشاهي منتصرة حتما حتى رفعت عنه يدها، بل وعندما لجأ إليها الشاه الهارب من إيران طلبا للعلاج رفضت منحه تأشيرة لدخول الأراضي الأمريكية، وتفضل عليه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بقبر في مصر التي أتاها بعد أن نهش السرطان عافيته.

وكم من ديكتاتور طرطور في فيتنام ولاوس وكمبوديا والفلبين وبنما وغيرها حظي طويلا بالمال وبهيلمان السلطان لأنه كان يحرس مصالح الأمريكان، وما أن دارت عليهم دوائر الغضبات الشعبية، حتى تركهم الأمريكان قائلين لهم "ديروا بالكم ودبروا حالكم".

والشاهد هو أن أمريكا تأخذ الأنظمة العميلة كما البامية الطازجة المشهود لها بوفرة القيمة الغذائية، وعندما تحقق غاياتها تتركهم "ويكة"، وهي البامية المجففة في عامية مصر والسودان، والتي لا سبيل لتحويلها إلى شيء ذي فائدة على المائدة إلا بالسحن والهرس والطحن، وفي رواية أخرى تلفظهم كما العلكة التي تعرضت للَّوك طويلا حتى فقدت خصائصها أو كمحارم الورق التي يستعصي إعادة استخدامها.


التعليقات (1)
أبو العبد الحلبي
السبت، 21-08-2021 05:53 م
رحم الله الشاعر القائل : (فإما أن تكون أخي بحقٍّ ** فأعرف منك غثّي من سميني . وإلا فاطَّرحني واتخذني ** عدواً أتقيك وتتقيني). من مشاكل بني آدم العويصة مخلوقات شديدة العداوة تظهر بمظهر الصداقة و الإخاء بينما تبطن إيقاعهم في أفخاخ الشر و تستدرجهم إليه بشتى الطرق و من ضمن ذلك النصيحة و لقد كان من جرأة هذه المخلوقات على الباطل أن أقسم أحدهم كاذباً لآدم و حواء (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) و ما كان أبوينا يتوقعان أو يظنان من مخلوق أن يقوم بالحلف الكاذب بالله في ذلك المكان "الجنة". حذَرنا رب العالمين اللطيف بعباده من الشيطان أو الشياطين – سواء شياطين الجن أو شياطين الإنس –وبيَن لنا وجوب أن نعاديه ليس فقط بالاستعاذة بالله منه (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)فقال و لكن أيضاً بعدم إتباع خطواته الخبيثة المتدرجة المؤدية إلى خسران الدنيا و الآخرة . من شدة حقارة الشيطان أنه ينسحب و يتخلى و ينأى بنفسه عن من ساروا على طريقته أو وفق تعليماته و في ذلك يقول تعالى (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ). في واقعنا المعاصر ، الشياطين الإنسية واضحة تماماً لكل ذي عقل و هي تتجسد مثلاً في أولئك الذين استعمروا بلادنا قديماً و حديثاً و لقد كان أحمق الحمقى من أبناء جلدتنا من وضعوا أنفسهم في خدمة الاستعمار و أدواته فتحولوا إلى جواسيس خونة أذناب مقابل متاع تافه مؤقت . هذا النوع من مطايا الاستعمار هو بحجم أدوات لأدوات و مع ذلك فإن ضرره على الأمة بليغ ، و في نهاية المطاف ترمى هذه الأحذية البالية في سلال النفايات محاطة بالخزي و العار مع ما ينتظرها من عذاب من العزيز الجبار المنتقم و يعود الاستعمار إلى بلاده البعيدة من دون أن يذرف دمعة شفقة على عبيده الذين كبَهم وراءه أو ربما أخذ جزءاً منهم إلى بلاده ليقوموا بالأعمال الحقيرة و ليمارس عنصريته عليهم كما رأينا في فرنسا مثلاً.