قضايا وآراء

حين يصنع الوهم السياسة

سمير ساسي
1300x600
1300x600

في تونس قال أحدهم: إن الشعب خرج يوم 25 تموز (يوليو) الماضي لمساندة الرئيس قيس سعيد في التدابير التي اتخذها وعلق بموجبها اختصاصات البرلمان.. أخذ الناس المعلومة بديهية وصارت مسلمة ومضى بها الركبان ولم يسأل أحد من الناس ولا حتى السياسيون المعنيون بالأمر أو الصحفيون الذين عرفوا بالحرص على تبين مصادر الخبر، لم يسأل أحد من هؤلاء: هل توجد صورة للمتظاهرين؟ كيف تختفي الصورة في زمن الصورة والتواصل الاجتماعي؟

لا أحد سأل هذا السؤال، ومضى الجميع يسلم بأن ناسا اكتسحوا شوارع تونس يساندون الرئيس سعيد في إجراءاته الاستثنائية..

في المغرب الأقصى قال قائل: إن الشعب عاقب حزب العدالة والتنمية بسب التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتلقف المحللون من ذوي الخبرة ومن المتطفلين الخبر وبنوا قصورا من تحاليل لم تنتبه أن الشعب الذي صوره كارها للتطبيع في خياره الانتخابي اختار أحزابا أكثر ولوغا في التطبيع من حزب العدالة والتنمية..

كذلك قال غيرهم: إن الناخب المغربي عاقب العدالة والتنمية بسبب فشل خياراتها لكن هذا القائل ومن تبع قوله وأشاعه لم ينتبه إلى أن الناخب المغربي اختار أحزاب الحكومة التي كانت جزءا من التحالف الحكومي بقيادة العدالة والتنمية في السنوات العشر الأخيرة، أي أنه مسؤول عن هذه الخيارات الفاشلة إن صح أنها سبب في تراجع موقع العدالة والتنمية الانتخابي.

ليس الهدف من إيراد هذه الأمثلة غمط حق الرئيس التونسي قيس سعيد ولا الدفاع حمية عن العدالة والتنمية المغربي، فهذا ليس مما نطرحه على أنفسنا كباحثين في فهم الظواهر المجتمعية لتشخيصها وتفكيكها ومقاربة أمراضها والمساهمة في اقتراح وصفات علاجها.. إنما الهدف من هذا كشف أحد أخطر وسائل توجيه الرأي العام من خلال تحويل الوهم إلى حقيقة ومسلمة، بل منع كل تساؤل مشروع عن هذا القول أو الفعل.. بلغة أخرى كيف ينجح صانعو الرأي العام وموجهوه من ساسة وجماعات ضغط ومؤسسات سبر آراء في سلب العقل الجمعي والفردي لعضو الانتظام المدني والسياسي في مجتمع المعلوماتية والتطور التكنولوجي؟ وما أثر ذلك على الممارسة السياسية والمدنية في مجتمعاتنا العربية؟ وغيرها من الأسئلة التي لا يسع المجال لبحثها.

لنعد إلى المثال التونسي، لقد سبب تحويل الشائعة بخروج الملايين من الشعب التونسي لمساندة الرئيس قيس سعيد في انقلابه على الدستور إلى مسلمة سبب في إفقاد الأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة التونسية خاصة منها المعارضة لسعيد كل قدراتها التفاوضية، وكانت أشبه بفريسة ذلك الوحش الذي يبادر إلى شل ضحيته قبل التهامها.. فقد استقر في لاوعي هذه الأحزاب أن الشعب فعلا هو مع تدابير سعيد، ولم يشككوا في هذه الحقيقة ولا قاموا بتنسيبها، فلا يوجد في السياسة إجماع كامل والتفاوت في الشعبية أمر عادي وجب توظيفه في اتجاه ايجابي لا تحويله إلى فوبيا قاتلة مانعة عن الفعل.

سلمت هذه الأحزاب والمنظمات بأن ما قام به سعيد هو استجابة لمطلب شعبي فجعلت ذلك قاعدة انطلاق في بناء مواقفها، فغاب عن هذه المواقف التمايز الجوهري مع ما قام به سعيد برغم الرغبة في هذا التمايز، ولم نسجل خطابا سياسيا قويا ضاغطا مفاوضا كأننا بهذه الأحزاب تقول لنا: مادام الشعب قد اختار فعلينا أن نساير هذا الاختيار بالقدر الممكن حتى لا نتهم بمعاداة الشعب..

 

سارع البعض إلى القول بنهاية الإسلام السياسي وهذه في الحقيقة نتيجة مستعجلة لا تليق بباحث مبتدئ فضلا عن خبير في الظواهر الاجتماعية والحركات المجتمعية.

 



وفي الحقيقة يكشف هذا العجز عن غياب للسياسة أو لنقل بشكل أكثر دقة عن موت السياسة في تونس وفي كل بقعة قد تتشابه في الأحداث.. لأن السياسة حياة وتدبير لا عجز وتسليم، واختلاف الشعبية عامل رئيس في العملية السياسية محفز للفعل لا قاتل له..

لقد استغل الرئيس سعيد هذا "الانتحار" التلقائي للأحزاب فدفع الأمر إلى أقصاه وحول قصة المطلب الشعبي إلى لازمة في كل لقاءاته..

وحتى ندرك الفرق أكثر نلقي نظرة على مواقف الفاعلين الدوليين من الوضع التونسي، فبيانات الاتحاد الأوروبي والكونغرس الامريكي وغيرهم ممن يعتمد في التحليل معلومات مخابراته وسفاراته كانت أكثر صرامة ووضوحا تجاه تدابير سعيد كأنها هي الوحيدة المعنية بمآل الوضع..

أما في الحالة المغربية فقد صرنا إلى استنتاجات أخطر وقراءة عرجاء لا تنظر إلى كل زاوايا الصورة في ملفات أعمق وأكبر، ذلك أن التسليم بأن الناخب المغربي عاقب العدالة والتنمية بسبب التطبيع على أهميته يسمح بتمرير التطبيع بشكل أخطر وأعمق وفي كنف الهدوء ودون ضجيج بما أن هناك أحزابا صعدت إلى سدة الحكم هي أكثر ميلا للتطبيع من العدالة والتنمية، كأن هناك فاعلا خفيا رمى بطعم انشغل به الناس عن الفعل الحقيقي واطمأن الجميع بأن الشعب انتقم للتطبيع وللقضية الفلسطينية وانتهى الأمر ولم يعد هناك داع لإعادة إثارة الموضوع والحال أن إثارته الآن أكثر الحاحا.

بلا شك لم يكن تبني حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية للتطبيع مع الصهاينة ليمر بسلام بل كان منتظرا أن يكون له وزران وزر التطبيع ووزر المرجعية، لكن الناخب المغربي لا يحدد خياراته وفق هذا البعد فقط وكذلك شأن كل الناخبين سواء في بلدان العرب أو الغرب لا تكون القضايا المصيرية والمبدئية محددا للموقف إلا باعتبارها جبل الجليد الظاهر أو لحظة التحول في الحدث الآن وهنا لكن حتما هي ليست العامل الوحيد في ضبط الرأي العام.

كذلك الشأن بالنسبة لعامل الفشل السياسي في تنفيذ إصلاحات اجتماعية واقتصادية برغم واقعيتها فلو كانت هي المحدد لما اختار الناخب أحزاب الائتلاف الحاكم مع العدالة والتنمية ليقود مرحلة يصفها بالقطع مع القديم، وما القديم سوى من صنع الفائزين الجدد الذين شاركوا العدالة والتنمية الحكم.

سارع البعض إلى القول بنهاية الإسلام السياسي وهذه في الحقيقة نتيجة مستعجلة لا تليق بباحث مبتدئ فضلا عن خبير في الظواهر الاجتماعية والحركات المجتمعية.

ما تزال السياسة في العالم العربي تدار من خلف ستار بلا احترام لقوانينها ولا فعل عقلاني مؤسس عمادها المراهنة على تحويل الأوهام إلى حقيقة ما دامت الميزة الأساسية للجماهير هي انصهار أفرادها في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية" كما يقول غوستاف لوبون.

التعليقات (0)