قضايا وآراء

كيف نتجاوز الصراع بين العلماني والإسلامي؟

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

كلما حدث تحول سياسي في العالم الإسلامي، وقيمناه نحن الأكاديميين والسياسيين والإعلاميين العرب، من زاوية الصراع بين ما هو ديني وما هو دنيوي، مثلما فعلنا مع دخول طالبان إلى كابول يوم 15 آب (أغسطس) الماضي ومثلما نفعل إزاء التنافس بين "فتح" و"حماس" في فلسطين. بل نكاد في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين أن نصنف تلك السنوات الخمسين التي عشناها (من 1970 إلى 2020) بأنها في العالم العربي والإسلامي كانت سنوات الصراع المرير المستحكم بين العلماني والإسلامي.. 

ولم يقتصر الصراع المذكور على الصفوة المختصة الخبيرة بشؤون السياسة والدين، بل أفرد الصراع ظله على كل عملية التنمية في أقطارنا الجنوبية المتخلفة وعطل حركة التاريخ واستقرت في مجتمعاتنا ما سماه العالم الدكتور أحمد كمال أبو المجد (حربا أهلية ثقافية). 

وأعتقد أن هذا المصطلح خفيف إذا تعلق الأمر بأزمة الجزائر التي استفحلت منذ بداية التسعينيات إلى 2000، لأن ما حدث فيها على فترات متفاوتة الحدة هو حرب أهلية حقيقية وليست (ثقافية) متشابكة الفرقاء معقدة المنطلقات خطيرة النتائج (أقصد إلغاء الجيش الجزائري نتائج الانتخابات التشريعية لعام 1991). 

وشرح أحمد كمال أبو المجد مشروعه الحضاري لفك الاشتباك بين الأنظمة القائمة والحركات الإسلامية (مجلة وجهات نظر ـ العدد الحادي عشر ـ كانون الأول ـ ديسمبر 1999). وجاءت مواقفه جريئة رصينة ـ كعهدنا دائما مع أفكار هذا العالم الحقوقي الضليع ـ رؤية واضحة مشرقة جاءت نتيجة قراءة معمقة للواقع العربي والإسلامي. 

وإني أنصح كل زملائي الجامعيين وإخواني المهتمين بشأن المستقبل بأن يطلعوا على هذه الوثيقة الأساسية المختصرة ذات البصيرة الحضارية البعيدة حتى بعد عقدين من تحريرها.. وقد عالج أبو المجد فيها وجود الخلل في التصادم بين العلماني والإسلامي، وأرجع أسبابه إلى سوء تفاهم أصلي ترجع جذوره إلى مرحلة التحرر ومقاومة الاستعمار. وأكد بأن الأغلبية الساحقة من الحركات الإسلامية نشأت لمقاومة الاستعمار الغربي الدخيل. 

 

رأينا في بعض الحركات المنتسبة إلى الإسلام زيغا واضحا عن الإسلام باعتناق مبادئ التكفير وإهدار دماء العلماء والمفكرين وبالتالي التحول إلى مذاهب الفوضوية والعدمية التي لا تمت للفكر الإسلامي بأية صلة.

 


 


ولعل أخطاء بعض النخب الحاكمة مثل (الناصرية والبورقيبية والبعثية على سبيل المثال) هي الخلط الكبير والقاسي بين حركات عنيفة باغية وحركات تأصيلية واعية.. ومن هنا احتد الصراع خلال الخمسين سنة الأخيرة في معزل عن أي حوار عقلاني جاد وهادىء ورصين، وهربت المواقف جميعها إلى التطرف والتعصب والعنف ـ المادي واللفظي ـ وضاعت أصوات العلمانيين التنويريين باسم العقل وأصوات الإسلاميين التأصيليين باسم الهوية، وأصبح الحوار لاغيا وتغيرت معطيات العالم بالعولمة وثورة الاتصالات وطغيان النموذج الأمريكي وجاءت الألفية الثالثة لتسجيل الدول المركزية في العالم العربي والإسلامي مصنفة ضمن الدول المتخلفة ـ بمعنى العجز عن الاستقلال التكنولوجي والصناعي والغذائي ـ أو مصنفة في أفضل الحالات ضمن الدول المؤهلة للتنمية المستدامة ولكنها أيضا المكبلة بالديون (بنسبة غالبة هي دين مليار دولار لكل مليون مواطن). 

وبالطبع فإن مجرد رفع شعار الإسلام على راية السلطة لم يكن ضامنا للتقدم ولا حتى للهوية والأمن والاستقرار ـ كما كان الحال في بعضها ـ بينما تقدمت دول عربية وإسلامية خطوات كبرى على طريق التنمية دون أن ترفع الشعارات وكان أداؤها الاقتصادي أفضل. 

ويدعو أحمد كمال أبو المجد إلى تصحيح العلاقة بين الأنظمة والحركات الإسلامية على أساس توحيد التوجه الحضاري على ضوء العولمة وتغيير أولويات الفقه المعاصر وتبني الاحترام العميق للحضارات الأخرى والأخذ منها وإثراء الحضارة الإنسانية بقيم التسامح والعدل والتضامن بعيدا عن التطرف والبغي وبذر الفتنة، فالفتنة أشد من القتل. ومن الظلم ومن الخطأ لأن الفتنة خطيئة ولا سبيل إلا سبيل الحوار بالتي هي أحسن. 

وقد رأينا في بعض الحركات المنتسبة إلى الإسلام زيغا واضحا عن الإسلام باعتناق مبادئ التكفير وإهدار دماء العلماء والمفكرين وبالتالي التحول إلى مذاهب الفوضوية والعدمية التي لا تمت للفكر الإسلامي بأية صلة. وأنا مع أحمد كمال ابو المجد في إعطاء قيمة الحرية بكل معانيها المنزلة العليا في الألفية الجديدة التي تميزت بالحرية المسؤولة المكفولة بالدساتير والتي نهضت بها الأمم وظلت لدينا تلك الفريضة الغائبة إلى حين! 

أتذكر تلك اللقاءات التي جمعتني بأستاذنا أحمد كمال أبو المجد في الدوحة رحمة الله عليه بمناسبة مشاركتنا معا في مؤتمرات فكرية تحرص دولة قطر على تنظيمها وجمع أفضل المفكرين فيها وكنا نجتمع للغداء في بيت صديقنا المشترك زميلي في جامعة قطر د. جمال عطية صاحب المؤلفات العديدة في الحضارة والشريعة... أتمنى أن تزول العوائق الصحية وتعود الدوحة للقاءات الفكر وتلاقح الحضارات وتبادل التجارب! فللدوحة تاريخ ثري من المبادرات الثقافية الكبرى جزى الله أميرها كل خير ونخبتها النيرة من خيرة القطريين المثقفين.


التعليقات (0)