تقارير

الشاعر القائد كمال ناصر.. الأدباء حين يوقدون الثورة بأجسادهم

الشاعر كمال بطرس ناصر حمل هويته الفلسطينية في شعره كما في مساره السياسي
الشاعر كمال بطرس ناصر حمل هويته الفلسطينية في شعره كما في مساره السياسي

من قال إن عزلة الأدباء مكانهم، وليل الأدباء زمانهم، والطبيعة فضاؤهم؟ من قال إن الشعر يتناقض مع الرصاص، والعشق لا يكون إلا للمرأة، والأغاني لا تزغرد للشهداء؟ من قال إن الأدباء لا يقودون الثورات؟ ولا يحترقون بنارها؟ ولا يوقدون أتونها؟ 

حين كتبتُ مقالي النقدي عن محمود درويش والمتنبي، وحياتهم في ظل السلطة، التي تشبه القنديل المضاء بالنار، وهم حاموا حوله كالفراش، فاستفادوا من ضوء هذا القنديل إعلامياً ومن دفء ناره سلطوياً، لكنهم لم يحترقوا بناره.. وتطرقت إلى الشاعر كمال ناصر الذي قدم كل جهده للثورة، وعمل بها فاحترق بنارها وأوقد خلفه ناراً لا تنطفئ، وأطلق دمه "ربيع فردان" فصار رمزاً للشعراء القادة، كما صار قبله بسنة غسان كنفاني رمزاً للأدباء القادة.

اغتالته مخابرات العدو مع رفيقيه كمال عدوان وأبي يوسف النجار في نيسان 1973، بطريقة إجرامية حيث قاموا بعدها بصلبه في مكان اغتياله لأنه مسيحيٌ في الثورة الفلسطينية يناضل ضدهم (ترميزاً لزعم صلب المسيح). وكان تشييعهم في شوارع بيروت هو الأكبر بتاريخ لبنان، حيث شكل استفتاءً كبيراً على الثورة الفلسطينية ونضالها.

كتب القصيدة العامودية والشعر الحر، واستخدم الإطارين العامودي والحر أحياناً في القصيدة الواحدة. وفي مرحلته الأخيرة ابتعد عن الصخب الموسيقي في شعره وعن اللهجة المباشرة إلى حد ما. وكان ـ إلى جانب الشعر ـ يعشق الموسيقى، ويعزف على البيانو، وكان يلحن بعض قصائده بنفسه ويغنيها أمام أصدقائه!

من هو شاعرنا؟

هو كمال بطرس ناصر، ولد عام 1925 في غزة، من أسرة عريقة من بلدة "بيرزيت" بقضاء رام الله، وقد أعاده والده بطرس ناصر إلى بلدته، وأنهى تعليمه الثانوي عام 1941 في كليّتها المشهورة (جامعة بيرزيت اليوم)، ومنها انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ونال البكالوريوس في الآداب عام 1945. عاد إلى فلسطين وعمل أستاذاً للأدب العربي في مدرسة صهيون بالقدس عام 1946، وخلال عمله درس الحقوق في معهد الحقوق الفلسطيني، مدة أربع سنوات، ثم عمل في الكلية الأهلية برام الله.

بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، أصدر كمال مع عدد من زملائه جريدة يومية باسم "البعث"، ثم أصدر بمفرده مجلة أسبوعية باسم "الجيل الجديد" عام 1949، لكن السلطات الأردنية عطلتهما. وانتسب عام 1952 لحزب البعث العربي. عمل في الكويت سكرتيراً للشيخ فهد السالم الصباح، ثم زار بغداد وعاد إلى القدس عام 1953. وتولى رئاسة تحرير جريدة فلسطين اليومية في القدس، وانتُخب عام 1956 عضواً في مجلس النواب الأردني، وكان معارضاً للحكومة.

تعرض للاعتقال مراراً، وبعد اختفائه 15 شهراً، اضطر للخروج من الأردن عام 1957، إلى دمشق حتى عام 1965 حينما صدر العفو العام.

سافر إلى باريس، وهنا نظم ديوانه "أغنيات باريس" ومسرحية "التنين" ثم عاد إلى دمشق عام 1966، ثم هرب إلى بيروت، لكن السلطات اللبنانية أبعدته مجدداً إلى الأردن..

كان في الضفة الغربية عندما وقعت النكسة في حزيران 1967، فاعتقلته قوات الاحتلال في سجن رام لعدة أشهر، ثم أبعدته إلى الأردن في كانون الأول (ديسمبر) 1967.

بعد خروجه من السجن، انتظم في الكفاح المسلح الفلسطيني وأوفدته منظمة التحرير الفلسطينية للقاء البابا في الفاتيكان، لمحاولة إقناعه بحق الفلسطينيين في القدس. وأصبح عضواً في اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969. وكان مسؤولاً عن دائرة الإعلام والتوجيه القومي في الثورة الفلسطينية، وتسلم رئاسة تحرير مجلة "فلسطين الثورة" سنة 1972.

اغتالته فرقة من الموساد الإسرائيلي مع رفيقيه في منطقة فردان في بيروت عام 1973. ودُفن حيث أوصى، في مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية في بيروت بجانب قبر صديقه ورفيقه غسان كنفاني، في المقابر الإسلامية وهو المسيحي البروتستانتي.

صدر للشاعر كمال ناصر عدة مجموعات شعرية، منها: جراح تغني، بواكير، خيمة في وجه الأعاصير، أنشودة الحقد، أغنية النهاية. وجمع الدكتور إحسان عباس الآثار الشعرية الكاملة للشاعر.

كما جمع له ناجي علوش الآثار النثرية (مقالات وكتابات متنوعة) في بيروت 1974. 

كان كمال ناصر شاعراً ملتزماً، كما يقول معجم البابطين، ينمّ نتاجه الشعري على التزامه بقضايا النضال والعمل الفدائي، جمع بين الاعتماد على العروض الخليلي، وشعر التفعيلة، غلب على قصائده صور الثوار والمناضلين ومشاهد الباحثين عن الحرية، ارتبطت في جملتها بوقائع النضال الفلسطيني، استخدم لغة ذات نبرة تحريضية وثيقة الصلة بلغة الحياة اليومية. 

نماذج من شعره

له عدة قصائد ملفتة، منها قصيدة "اللعنة"، التي فيها تناظر بقلم لاجئ قصيدة بدر شاكر السياب (عيناك غابتا نخيل)، فيقول:

عيناكِ خيمتان ترويانِ.. أسطورةَ الضياع في الزمان 
وتَعمُقان في دُجى الحِرمان.. وتُصلَبان في ذُرا المكان 
على أديم الهجر والنسيان!!.. عيناكِ خيمتان للعذابِ 
تطلّ منهما رؤى المصاب.. جريمةُ التاريخ والأحقاب 
وغفلةُ الأصحاب والأحباب.. في موكب النِّزال والغِلاب 
عيناكِ خيمتان للصراعِ.. مغموستان في دم الجياع
لحنٌ كئيبٌ موحش الإيقاع.. تعزفه قيثارةُ الأوجاع

ومنها قصيدته التي أحسبها صدى شعاره الشهير "يا وحدنا" الذي أصبح صرخة الوجع الفلسطيني، قصيدة "الشعب أقوى":

الشعبُ أقوى والتفَتُّ فلم أجد حولي سِوايا! 
الماءُ، والزاد القليل، وثورةٌ بين الحنايا 
وبقيةٌ من ذكرياتي البيض في إحدى الزوايا 
تَجترُّني قَلقًا، فأدفعها، فتجذبني البقايا 
وتَشيلُني بين الرؤى السوداء، تضحك من رؤايا!! 
الشعبُ أقوى والتفَتُّ فلم أجد حولي سوايا


وتنبئ قصيدته "الوصية الأخيرة" بموته المفاجئ، فيقول فيها:

حبيبي!
إذا ما أتاك الخبرْ
وكنتَ وحيداً
تداعب بين يديك وحيدي
وتهفو لموعدنا المنتظرْ
فلا تَبكني، إنني لن أعودْ
فقد هان عبر بلادي الوجودْ
ذليلاً، جريحاً
ورنَّ بأذني، نداءُ الخطرْ

حبيبي!
إذا ما أتاك الخبرْ
وصاح النُّعاةْ
يقولون مات الوفيُّ، وغِيضَت رُؤاه
ونام العبيرُ بحضن الزَّهَرْ
فلا تبكِني، وابتسمْ للحياه
وقل لوحيدي، لأني أحب وحيدي
أبوكَ رؤى شعبهِ
أضاءت دُجى قلبهِ
وحطَّت على دربهِ
شظايا فِكَرْ
رأى الظلمَ يُدمي رُباه
فثار إلى مُبتغاه
وكان شهيدًا
تَسامى، فلَوَّنَ معنى الصلاه
وعَمَّق مِنْ وحيها وابتكرْ

أخيراً، لم يكن كمال ناصر مجرد شاعر، بل كان قائداً لمشروع ثورة الإعلام في إعلام الثورة، حيث وحد الإعلام الموحّد، وقاد مشروعه الذي حلم به، وحوّل اسم مجلة "فتح" إلى مجلة "فلسطين الثورة"، لكي تكون باسم الجميع، وحاول تسليم إدارتها إلى صديقه غسان كنفاني (من الجبهة الشعبية). وعمل على توحيد الفصائل إعلامياً، حتى لو لم يتحدوا سياسياً.

 

*كاتب وشاعر فلسطيني


1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
السبت، 18-09-2021 07:53 ص
قصة الشاعر المجنون وكيف تغزل في عيون الممرضة التي تعالجه بالمستشفي حتي بكت من كلامه الغزلي ( والسيف في الغمض لا تخشي مضاربه ، وسيف عينيكي في الحالتين بتار )شاعرنا الكبير إدريس جماع لم يكن به جنون بل أتهم بالجنون لأمور سياسية وكتب قصيدة تحكي عن مأساته وهذه آبياتها يامن تتحدثون عن جنونه ولاتعلمون مابه ادريس جماع ـ قصيدة صوت من وراء القضبان:على الخطب المريعِ طويتُ صدري .. وبحتُ فلم يفدْ صمتي وذكري .. وفي لُـجج الأثيرِ يذوب صوتي .. كساكب قطرةٍ في لُجّ بحر .. دجى ليلي وأيامي فصولٌ .. يؤلّف نظمُها مأساةَ عمري .. أُشاهد مصرعي حيناً وحيناً .. يخايلني بها أشباحُ قبري .. وفي الكون الفسيح رهينُ سجنٍ .. يلوح به الردى في كلّ شِبر .. وأحلامُ الخلاصِ تشعّ آناً .. ويطويها الردى في كلّ سِتر .. حياةٌ لا حياةَ بها ولكنْ .. بقيّةُ جذوةٍ وحطامُ عمر .. خطوبٌ لو جهرتُ بها لضاقت .. بها صورُ البيانِ وضاق شعري .. جهرتُ ببعضها فأضاف بثّي .. بها ألماً إلى آلام غيري .. كأني أسمع الأجيالَ بعدي .. وفي حَنَقٍ تُردّد هولَ أمري .. يقلّبني الفِراشُ على عذابٍ .. يهزّ أساه كلَّ ضميرِ حُرّ .. تطالعني العيونُ ولا تراني .. فشخصي غيّرتْه سنينُ أسري .. يصمّ صليلُ هذا القيدِ سمعي .. وفي الأغلال وجداني وفكري .. وأين الأمنُ حتى من حياتي .. فقد فنيتْ وما خطبي بسِرّ .. وتسلبني الكرى إلا لماماً .. يدٌ من حيث لا أدري وأدري .. وفي جنبيَّ إنسانٌ وروحٌ .. وحبُّ الناسِ في جنبيَّ يسري .. وقاكِ اللهُ شرّاً يا بلادي .. سرتْ نيرانُه لحصاد عمري .. ينازعني الحياةَ وفي ضلوعي .. هوًى ضجّتْ به خفقاتُ صدري .. وأيامي تَساقط من حياتي .. كأوراقٍ ذوتْ والريحُ تذري .. تَطامنَ دوحُها وهوى مُكِبّاً .. وأجفلَ عنه تيّارٌ بنهر .. وهُدِّمَ مؤنسُ الأعشاشِ فيه .. فلم تهزج له أنغامُ طير .. ولستَ ترى حواليه رُواءً .. ولكنْ وحشةً وذبولَ زهر .. يغالب محنتي أملٌ مُشِعٌّ .. وتحيا في دمي عَزَماتُ حُرٌ .. هذه الأبيات هي من اروع ما سمعت ،و الاكيد أن قائلها تجاوز النهى و كل الحدود .أنه جنون الرومنسية يا صديقي .