قضايا وآراء

إلى العصيان.. كي نصل لحل وسط في السودان

ماهر البنا
1300x600
1300x600
اختار القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، وكالة "سبوتنيك" الروسية للأنباء، ليدلي لها بأول تصريحات "حصرية" له، واصفا الإجراءات التي قامت بها القوات المسلحة السودانية، والقرارات التي اتخذتها، بأنها بمثابة "تصحيح للمسار والعملية الانتقالية"، نافيا عنها صفة "الانقلاب". أما القوى السياسية السودانية المعارضة فقد سمت تلك الإجراءات وتلك القرارات بـ"الردة".

هكذا بات يتم تداول ثلاثة توصيفات للأحداث: انقلاب، تصحيح مسار، ردة.

البرهان شدد في تصريحاته على ما يحرص على إعلانه كل من يقود تحركا مماثلا في الدول العربية منذ عقد كامل: الإعلام جزء كبير منه غير صادق وغير أمين.. ينقل وقائع وحقائق لا ينظر إليها العالم.. الإعلام كان مضللا.. كثير من الحقائق غير معلومة للناظر إلى الخريطة السياسية السودانية.

وذكر أن حكومة عبد الله حمدوك عجزت عن معالجة الأزمات في البلاد، لافتا إلى أن إبعاد رئيس الحكومة عن منزله في بداية الحراك كان بسبب وجود معلومات حول استهدافه.

فرض البرهان، في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حالة الطوارئ في البلاد، وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، ويسمي هذا "تصحيح مسار".

قوى الحرية والتغيير التي تقود حركة الرفض الشاسعة الامتداد، في عموم أرجاء السودان، فندت ما قاله مندوبا روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي، وموقفا بلديهما اللذين حالا دون أن يتخذ المجلس قرارا بإدانة الانقلاب. وذكر موقع "قوى الحرية والتغيير" أن موقف النظامين الروسي والصيني كان متوقعا، فهما "ليسا على وفاق مع الشعب السوداني منذ ثلاثين عاماً.. والبلدان ساندا النظام السوداني والرئيس المعزول عمر البشير حتى آخر يوم في حكمه".

وكان المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، قد علق في 29 تشرين الأول/ أكتوبر، على عدم إدانة مصر والسعودية والإمارات لإجراءات قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، قائلا: "دعمهم الضمني لن يفيد السودان كثيراً، خاصة في حل المشاكل الاقتصادية الوشيكة.. السودان كان بصدد إعادة هيكلة ديون بقيمة 85 مليار دولار. لا أعتقد أن (هذه) الدول (مصر والسعودية والإمارات) ستكون قادرة على استبدال المجتمع الدولي والمؤسسات المالية في حل مشاكل البلاد الاقتصادية".

أشارت العديد من الصحف إلى أن الانقلاب يحظى بـ"غطاء عربي- إسرائيلي"، ومباركة روسية.

هذه هي الملامح الأولية للمواقف الدولية والعربية والإقليمية. موقف الاتحاد الأفريقي موقف إجرائي، تفرضه لوائحه التي تعارض أي تحرك عسكري للاستيلاء على السلطة، وموقف الأمم المتحدة هذه حدوده. السودان على الصعيد الدولي موضع استقطاب وصراع لا زال هادئا، وقد يظل على هذا النحو في انتظار التطورات داخل السودان.

* * *

يواجه السودان حزمة متنوعة من المشكلات البنيوية العميقة التي يندر أن تتجمع وتتفاقم في لحظة واحدة في بلد بهذه الأهمية، ويملك مثل هذه الإمكانيات المهدرة والمنهوبة.

اقتصاديا السودان من أعلى الدول مديونية في العالم، فقد وصل الدين الخارجي العام الماضي إلى نحو 58 مليار دولار، وهو ما يعادل 253 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وتوقعت تقارير موثوقة أن ترتفع نسبة التضخم السنوية هذا العام إلى نحو 250 في المائة. وجرى في شباط/ فبراير الماضي خفض سعر الجنيه السوداني من 55 جنيها للدولار إلى 375، كما تم إلغاء الدعم على الوقود.

ويتحمل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وبعض كبار المسؤولين عن الاقتصاد السوداني في حكومته، جزءا هاما من المسؤولية عن التردي الاقتصادي في العامين الماضيين، لأنهم خضعوا لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين، وشرعوا في تنفيذ برنامج تقشف اقتصادي صارم حظي بقبول الدائنين الدوليين في نادي باريس، مما تسبب في غضب عارم من فقراء المدن ومعظم سكان الأقاليم المهمشة، بعيداً من الخرطوم.

اجتماعيا وسياسيا السودان بلد شاسع متعدد الأعراق واللغات والثقافات والأديان، وتعاني كل أطرافه من نزاعات جهوية وإثنية، ويصعب للغاية إدارتها بمنطق عسكري سلطوي، إلا بإدامة الحروب الأهلية.

تاريخ السودان الحديث يبرهن مرة تلو الأخرى على استحالة نجاح العسكريين في السيطرة عليه وحكمه، مهما طالت مدة مثل هذه المحاولات. فمحاولة البرهان ليست الأولى منذ أن نال السودان استقلاله في سنة 1956، فقد حاول العسكر في سنة 1958، وفي سنة 1969، وفي سنة 1989.. في المرات الثلاث انتهى حكم كل من الفريق إبراهيم عبود، والرئيس جعفر نميري، والرئيس عمر البشير بثورات شعبية عليهم.

* * *

يدرك البرهان جيدا أن قطاعات واسعة من الشعب السوداني مسيّسة ولديها انحيازات واضحة رافضة لأي تدخل عسكري، وتمتلك خبرة طازجة من الثورة على نظام البشير. فكافة القوى اليسارية والماركسية والقومية العربية، والنقابات، هي ضد إجراءات البرهان، ووصفتها بالانقلاب، والردة.

لكنه يدرك، أيضا، أنه يمتلك السيطرة على كل مفاصل الدولة السيادية، التنفيذية والمدنية والعسكرية والشرطية والأمنية.

* * *

تعليق العمل بمواد من الوثيقة الدستورية هو الإجراء الحاسم في ما قرره البرهان، إنه بتر لمسار التحول الديمقرطي، الصعب والطويل.

الوثيقة الدستورية التي دشنت المرحلة الانتقالية، وقعها في آب/ أغسطس 2019، الفريق أول محمد حمدان دقلو، نائب رئيس المجلس العسكري، وأحمد الربيع، ممثل ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير المعارض، بحضور رؤساء ورؤساء وزراء عدة دول، من بينهم رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، ورئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي.. فتحت نافذة على إمكانية بناء سودان تعددي حديث، فالوثيقة تصف جمهورية السودان بأنها "دولة مستقلة ذات سيادة، ديمقراطية، برلمانية، تعددية، لا مركزية تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الانتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب".

كما تؤكد الوثيقة على أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم القتل خارج نطاق القضاء، وانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وجرائم الفساد المالي وجميع الجرائم التي تنطوي على إساءة لاستخدام السلطة التي ارتكبت منذ الثلاثين من حزيران/ يونيو 1989 لا تسقط بالتقادم.

هذا ما يستهدفه البرهان بمحاولته التي تتباين تقديرات مدى إمكانية نجاحها. ولهذا فإن مقاومة الانقلاب/ الردة، ودعم هذه المقاومة يقتضي التمسك بالوثيقة الدستورية واتخاذها كمرجعية أساسية، وأي جهد للوساطة أو التفاهم، يجب أن يرتكز على إلزام المكون العسكري بتسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني، وعلى أن تكون تبعية الشرطة والأمن لرئيس الوزراء.

هذا هو البرهان الذي ما زلت أنتظره من السودانيين، ولا أملك أي خيال لتقدير المدى الزمني الذي يمكنهم فيه تقديمه.

أدرك وطأة السنوات العشر الماضية على تفكيري وخيالي، الأمل في الثورة والتغيير يخبو ويضمحل في بقاع عديدة من وطني العربي، لكن الحسابات الدقيقة تخطئ أحيانا حين تركن فقط للخبرات السابقة، والتجارب المماثلة، وظني أن الواقع يظل يحمل المفاجآت.

لكلمتي "الحل الوسط" سمعة ليست جيدة، لكن كثيرا من المعلقين الذين يدّعون الحكمة يرون أن الحل الوسط في حال السودان، في هذه اللحظة، قد يكون له مفعول سحري، وإلا سينزلق إلى فوضى عارمة، أو عنف غير مسبوق، وترسيخ شبح العسكري الكئيب.

ظني أن "الحل الوسط" كي يفضي إلى تنفيذ الوثيقة الدستورية؛ هو في حاجة لنجاح دعوات العصيان المدني.
التعليقات (1)
ابراهيم
الأربعاء، 03-11-2021 08:02 م
الذى يرد على مقالك احد جهابذة علم الاجتماع ومايقوله عن مصر طول تاريخها ينطبق على السودان بالحرف...بالطبع اليسوا شعباً واحداً "المأساة الحقيقية في ذلك أن مصر لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الجذري الراديكالي قط، و إنما الحل الوسط المعتدل، أى المهدئات و المسكنات المؤقتة، و النتيجة أن الأزمة تتفاقم و تتراكم أكثر، و لكن مرة أخرى تهرب مصر من الحل الجذري إلي حل وسط جديد، و هكذا. بعبارة أخرى، مأساة مصر في هذه النظرية هى الاعتدال، فلا تنهار قط، و لا هي تثور أبداً، و لا هى تموت أبداً، و لا هى تعيش تماماً، إنما هى فى وجه الأزمات و الضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر و تتدهور ، تطفو و تتعثر ، دون حسم أو مواجهة حاسمة تقطع الموت بالحياة أو حتي الحياة بالموت، منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلي الضعف و من الصحة إلي المرض و من الكيف إلي الكم و أخيراً من لاقمة إلي القاع. غير أن النتيجة النهائية لهذا الانحسار المستمر المساوم أبداً و صفقات التراجع إلي ما لا نهاية هي أننا سنصل يوماً ما إلي نقطة الانكسار بعد الالتواء، و بدل المرونة سيحدث التصادم، و محل المهدئات ستحل الجراحةـ أي سنصل إلي نقطة اللاعودة إلي الحل الوسط، و عندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضاً، و لكن بعد أن يكون المستوي العام قد تدني إلي الحضيض، و الكيف قد تدهور إلي مجرد كم ، و المجد إلي محض تاريخ، و ذلك هو الثمن الفادح للاعتدال.” ? جمال حمدان, شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان - الوسيط