أفكَار

قراءة في المحددات السياسية والطائفية للمشهد اللبناني

النائب اللبناني عماد الحوت يشرح مجددات المشهد السياسي في لبنان  (مركز الزيتونة)
النائب اللبناني عماد الحوت يشرح مجددات المشهد السياسي في لبنان (مركز الزيتونة)

يمرّ لبنان اليوم بظروف صعبة تهدّد استقراره السياسي والاجتماعي، بعد أن زادت حدّة الصراع السياسي الداخلي والتوترات على مستوى المنطقة إلى درجة تهدد بانفجار كبير. إنّ طبيعة التركيبة الديموغرافية في لبنان، وطبيعة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية، تجعل أي خلاف في لبنان يتحوّل بسرعة إلى مستوى عالٍ من الاستقطاب. 

ولبنان يعاني منذ أواخر 2019 استقطاباً سياسياً حاداً وأزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية، في مشهدٍ تتصارع فيه مصالح دول إقليمية وغربية. قد لا تكون الأزمة الحالية هي أولى الأزمات التي عصفت بالبلاد، فقد سبقتها أزمات كبرى منذ إنشاء دولة لبنان الكبير سنة 1920، ولكنها الأخطر كونها أصبحت متشعبة لدرجة أن لبنان أصبح يتأرجح بين حدين: وبينهما احتمالات متعددة بعضها يصل إلى تعديل في بنية النظام.

الباحث والسياسي اللبناني الدكتور عماد الحوت، يقدم قراءة في المحددات السياسية والطائفية للمشهد اللبناني في حلقة أولى، ثم في الجزء الثاني يقدم السيناريوهات المتوقعة للوضع في لبنان. 

الورقة التي تنشرها "عربي21" في جزءين، مقدمة في الأصل لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت.


أولاً: المحددات الأساسية للمشهد اللبناني:

1 ـ تركيبة طائفية هجينة:

لم يفلح لبنان منذ تأسيسه في تكوين هوية وطنية موحدة؛ إذ صنع الفرنسيون زعماء متعدّدين لمجموعات طائفية متعدّدة، ووزعوا الحصص عليهم، فطغت على صورة لبنان منذ تأسيسه مخاوف الأقليات وصراعات الطوائف، ما أسقط المفهوم الوطني الجامع من قاموس اللبنانيين وأدّى إلى وجود رؤى متناقضة ومتصارعة بين الفئات اللبنانية حول مختلف القضايا نتيجة استثمار الزعماء لهذا المناخ وتعميق جدار الخوف المتبادل بين المكونات، مما حوّل التعددية من نعمة يمكن استثمار تنوّعها إلى نقمة ولّدت أرضية خصبة لتكرار الأزمات كل 15 إلى 20 سنة، كما أنتجت مجموعة من التعقيدات أهمها تواطؤ الزعماء على بناء منظومة محاصصة وفساد واستباحة المال العام، وإيجاد أحزاب عميقة داخل الدولة، وإضعاف متعمّد لمنظومة الدولة لكسب ولاء المواطن وتحويله إلى رقم لدى الزعيم بدل أن يكون مواطناً في الدولة، واستقواء زعماء الطوائف بالخارج لزيادة وزنهم السياسي مما ساعد على تحويل لبنان إلى ساحة من ساحات الصراع الإقليمي والدولي.

تحكم الحسابات الطائفية قرارات القوى اللبنانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى هذه الأركان استندت مكونات السلطة كي تستقطب الناس، وتواجه خصومها، وتستدعي القوى الإقليمية لدعمها، وتبني إمبراطوريات مالية وسياسية يصعب اختراقها. وبموجب هذه المعادلة، تقاسمت القوى السياسية وظائف الدولة وخيراتها، وتراجعت الدولة لصالح الطوائف والأحزاب، كما تراجعت المواطنية لصالح الزبائنية التي حرمت المواطن من حقوقه ما لم يمر عبر هذه القوى حصراً وزعمائها بشكل أدق، وأخيراً أصبح هناك فائض قوة لدى أحد المكونات يسعى إلى ترجمة سياسية.

2 ـ بنية اقتصادية هشة:

إن الأزمة الاقتصادية اللبنانية هي أزمة مركّبة من عدة عوامل:

أ‌ ـ ضعف في البنية الاقتصادية واعتماد على اقتصاد ريعي غير إنتاجي، بسبب السياسات النقدية التي أعطت مجالاً للخدمات وجذب الاستثمارات الخارجية على حساب الاقتصاد المنتج، وهي قطاعات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوضعين السياسي والأمني وتقلباتهما. ولقد اعتمدت البنوك سياسة جذب العاملين في الخارج ليدّخروا أموالهم لديها، لكن سرعان ما نفدت أموال المودعين بسبب إدمان الحكومة على الاقتراض لسداد فواتير الإنفاق غير المحسوب من قبل السياسيين.

ب‌ ـ سوء إدارة وفساد منظّمين ومتراكمين، فهناك تقارير تشير إلى نهب حوالي 52 مليار دولار من خزينة الدولة لا يُعرف كيف صُرفت ولا أين تبدّدت. في المقابل، لم تحصل أي إصلاحات بنيوية في الإدارة والمرافق العامة بسبب المحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية.

 

تعاني الساحة السنية من فقدان الظهير العربي نتيجة التحول في السياسة السعودية ومن غياب المرجعية الجامعة، مما أدى إلى تراجع الحضور السني عموماً، مما يشكل حالة فراغ تغري الجهات الأخرى للاستثمار فيها، مما يجعلها عرضة للتوترات، وأن تتحول لصناديق بريد.

 



ت ـ انتقال الصراع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى الأرض اللبنانية، وبالتحديد على الجبهة المصرفية، ما ترتّب عليه حظر قدوم الدولار إلى لبنان بحكم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على النظام السوري وعلى حزب الله، واتهام بعض المصارف اللبنانية بخرق تلك العقوبات.

ث ـ وقف دول الخليج الدعم المالي والاستثمارات في لبنان مع تنامي نفوذ إيران في البلاد.

ج ـ التهريب، وخصوصاً الدولار والمواد الغذائية المدعومة إلى الخارج، إضافة إلى جشع التجّار.

ح ـ جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، الرئة الاقتصادية الأساسية.

ولقد تراكم الدين تدريجياً، وبالتالي خدمة الدين المترتبة عليه جرّاء الفوائد المرتفعة، تزامناً مع انتفاخ فاتورة الإنفاق الحكومي. وهكذا، ازداد العجز في ميزان المدفوعات على مرّ سنوات من النمو المتباطئ، وقطاع مصرفي متضخّم يمنح فوائد خيالية على الودائع، وتجاوز الدين العام أكثر من 170% من الناتج الإجمالي المحلي. ومع تراجع احتياطات المصرف المركزي، بدأت ملامح الانهيار المتسارع مع أزمة سيولة حادة وشحّ في الدولار، وفرضت المصارف قيوداً على سحب الدولار وتحويل الأموال، وإعلان العجز عن سداد الديون، وخسرت العملة اللبنانية نحو 90% من قيمتها، ووصل ثلاثة أرباع اللبنانيين إلى حالة الفقر، وبرزت ظاهرة الهجرة للعقول وأصحاب الخبرات مما سيؤخر لبنان لسنوات. كما أن حجم الإرباكات الاجتماعية الناتجة عن الأزمة قد يُنتج انفلاتاً أمنياً نتيجة شدة الحاجة، وستشكّل أرضاً خصبة للاختراقات، كما قد تزيد من تحركات الناس ضد السلطة.

3 ـ واقع سياسي مربك:

يعاني لبنان من إشكالية بنيوية أساسية على مستوى تكوين الدولة، ومركز اتخاذ القرار واحترام الدستور، كما يعاني في هذه المرحلة من وجود طبقة سياسية تريد إعادة إنتاج نفسها في السلطة ودفع اللبنانيين للقبول بأي حلّ وبرفع الدعم وإجراءات اقتصادية صعبة كان يمكن القيام بها بشكل متدرج ومدروس قبل وقوع الأزمة، ومن انعكاسات معركة رئاسة الجمهورية القادمة وسعي جبران باسيل لحسمها لصالحه بشتى الوسائل ومنها محاولات الانقلاب على اتفاق الطائف والسعي للعودة إلى الرئيس صاحب الصلاحيات الواسعة بالممارسة وإلا فالتسويق للفدرالية. ويأتي كل ذلك في إطار محاولة الأطراف المختلفة الاستفادة من فترة المراوحة قبل وصول التسوية الخارجية المنتظرة لتكريس مكتسبات أو لتثبيت أو تعديل موازين القوى.

أ‌ ـ التفكك السياسي:

تعاني جميع الأحزاب المشاركة في السلطة بدرجات متفاوتة من تراجع الثقة الشعبية فيها، ومن تفكك التحالفات والحذر المتبادل بين مكوناتها. كما تعاني من غياب وضوح الرؤية بالمآلات، واهتزاز القناعة بالنظام السياسي وتزايد الدعوات لتعديله، وتتجهّز أغلبها للسيناريو الأمني الأسوأ مع عدم الرغبة بالوصول للحرب الأهلية. ما يزال سلوك هذه الأحزاب قائماً على مقاومة التغيير، والسعي لإعادة إنتاج المنظومة بعد أن اهتزت بفعل حراك 17/10/2019، واستمرار تأمين المصالح الذاتية مع شدّ العصب الطائفي والتهويل.

ب‌ ـ تراجع الدور السني مقابل صعود الأدوار الأخرى:

تعاني الساحة السنية من فقدان الظهير العربي نتيجة التحول في السياسة السعودية ومن غياب المرجعية الجامعة، مما أدى إلى تراجع الحضور السني عموماً، مما يشكل حالة فراغ تغري الجهات الأخرى للاستثمار فيها، مما يجعلها عرضة للتوترات، وأن تتحول لصناديق بريد.

بالمقابل هناك ترتيبات بينية في إطار المكوّن الشيعي تنظّم أيّ خلاف داخله، واستثمار لدور السلاح والصراع مع الكيان الإسرائيلي، وغطاء خارجي متمثّل بتصاعد الدور الإيراني في المنطقة.

كما يلاحظ على مستوى المكوّن المسيحي ملامح تشكيل حضور مسيحي مستقل عن حزب الله، من خلال دور متقدم للبطريرك الماروني في ذلك؛ والذي قام بطرح مذكرة الحياد التي ترتكز على: عدم دخول لبنان في أحلاف، وامتناع أي دولة إقليمية أو دولية عن التدخل في شؤونه، وتعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرية الشعوب ولا سيّما العربية منها، ومنها الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني، وتعزيز الدولة اللبنانية لتكون قوية عسكرياً بجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الداخلية، ومعالجة الملفات الحدودية مع الكيان الصهيوني وسورية.

ت ـ الحراك الشعبي:

لقد كان من المتوقع أن تؤدّي السياسات الاقتصادية والفساد إلى انفجار الغضب الشعبي المتراكم منذ سنوات. وهذا ما حصل في 17/10/2019 بعد قرار زيادة الضريبة على مستخدمي تطبيق "واتسآب WhatsApp" الذي يمنح خاصية الاتصال المجاني، لتأمين واردات إضافية للخزينة المفلسة.

استمر هذا الحراك الشعبي ضدّ السلطة لأشهر عدة، وشكّل صرخة مدوّية لوضع حدّ لحالة الفساد المستشرية ولنظام المحاصصة الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، خارج الأطر الطائفية والسياسية والمناطقية. ثم توقف الحراك بعد تفشي جائحة كورونا Covid-19، ليتجدّد، ولو بحجم أقل، بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في 4/8/2020، لكنه فشل في تغيير المسار الانحداري في البلاد.

ولقد تراجع الحراك بشكل حاد نتيجة الأزمة المعيشية، وجائحة كورونا، وضبابية المشهد، والاختراقات التي حصلت في جسمها والتوظيف السياسي في بعضها. هذا التراجع أدى إلى فشلٍ مرحليٍ مع بقاء نواة النظام، أو ما يسمّى المنظومة العميقة، التي أعلن المحتجون أنهم سيسقطونها بهدف إنشاء سلطة جديدة على أنقاضها بعد إجراء انتخابات مبكرة من قبل حكومة انتقالية محايدة.

وهناك عدة أسباب رئيسية أفشلت هذا الحراك أبرزها: عدم تمكّنها من إنتاج قيادات تقود الناس، ونجاح الأحزاب في اختراق صفوف المنتفضين، وتشتّت الرؤى والأهداف وأجندات المجموعات التي لم تتمكن من التوحد أو توحيد رؤاها، وتأثير التدخلات الإقليمية والدولية تحريضاً في مسارات الحراك الشعبي.

ث ـ انفجار المرفأ والمبادرة الفرنسية:

في 4/8/2020، وقع انفجار مرفأ بيروت الذي عُدَّ واحداً من أعنف وأكبر الانفجارات في العالم. وقد توجه على إثره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron إلى بيروت، وخاطب الناس بعاطفة غير مسبوقة، وطالب السلطات السياسية بأجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة لدولة القانون والشفافية والحرية والديموقراطية والإصلاحات الضرورية.

عاد ماكرون إلى بيروت في الأول من أيلول/ سبتمبر ليلتقي بالقوى السياسية الأبرز والأكثر تأثيراً حيث أطلق مبادرته، ودعا إلى تشكيل حكومة من اختصاصيين عمرها ستة أشهر، تطبق بنوداً إصلاحية، وتنظم انتخابات نيابية بعد إصلاح القانون الانتخابي.

 

على الرغم من تبدّل أولويات الإدارة الأمريكية باتجاه الصراع مع الصين، إلا أن الدور الأمريكي في المنطقة يبقى أساسياً في ظلّ مسار صفقة القرن والتطبيع، وفي ظلّ استمرار استنزاف ثروات المنطقة.

 



في 8/9/2020، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على كل من علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، كما تم تفعيل ملف ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة لتُنسف المبادرة الفرنسية. يُضاف إلى ذلك تصلّب "الثنائي الشيعي" في رفض المداورة ورفض السماح لأيٍ كان بتسمية أي وزير شيعي إلا الثنائي نفسه، كما عجزت القوى السياسية عن تشكيل حكومة تواكب المرحلة وتُفرمل السقوط الحر الذي تعيشه البلاد، ما أدى إلى أن تصبح الإصلاحات مستبعدة جداً قبل الانتخابات النيابية وقبل نهاية عهد رئيس الجمهورية ميشال عون.

لقد أُفرغت المبادرة الفرنسية من شكلها ومضمونها، ولم يحقّق الرئيس الفرنسي قصة نجاح عالمية كما تمنّى، ولم يدفع بطوق نجاة لتفادي غرق لبنان في العتمة والظلمة والظلام والانهيار.

4. تدخلات خارجية على وقع التقلبات:

إن العلاقة بين التناقضات الداخلية والمصالح السياسية في الإقليم ليست خفية على أحد، فكثيراً ما تستند التدخلات الخارجية على قوى داخلية، وكثيراً ما تستعين القوى الداخلية في مناكفاتها بالقوى الخارجية. ولقد أدى دخول حزب الله في صراعات المنطقة إلى تعقيد المشهد.

أ‌ ـ الدور الأمريكي: على الرغم من تبدّل أولويات الإدارة الأمريكية باتجاه الصراع مع الصين، إلا أن الدور الأمريكي في المنطقة يبقى أساسياً في ظلّ مسار صفقة القرن والتطبيع، وفي ظلّ استمرار استنزاف ثروات المنطقة. والإدارة الأمريكية مستمرة في لبنان بممارسة الضغوط المالية لتقليص أجنحة إيران ـ ومن بينها حزب الله ـ بعد مرحلة من إتاحة الفرصة لها للتمدد لإيجاد بيئة تساعد أمريكا على استنزاف وابتزاز أنظمة المنطقة (مرحلة غزو العراق سنة 2003، مرحلة الاتفاق النووي سنة 2015)، وذلك في إطار ترتيب أوضاع المنطقة من وجهة نظره ولإضعاف قدرة الطرف الإيراني على استخدام لبنان كورقة تفاوض في المفاوضات الدولية – الإقليمية، وللسعي في إدخال لبنان في مسار التسوية مع العدو الصهيوني (ترسيم الحدود البحرية…)، وللاستفادة من الغاز والنفط في مياهه.

ولقد مارست الإدارة الأمريكية وتمارس ضغوطاً عالية على لبنان من خلال حصار اقتصادي متصاعد منذ أكثر من خمس سنوات، كما تمارس أيضاً من خلال الحصار الاقتصادي عملية دفع الناس إلى الاختناق والغضب ورفع منسوب التوتر الداخلي في وجه حزب الله، الذي يسهّل هذه المهمة بأدائه المستفز، وإيجاد ضغط شعبي في مواجهة الهيمنة المتزايدة للنفوذ الإيراني وتحميله نتائج الوضع الاقتصادي والاجتماعي والعزلة السياسية.

ب‌ ـ الدور الإيراني: يعدّ لبنان من أهم مناطق النفوذ الإيراني خارج إيران، وهو يعدّ منطلق إدارة مناطق النفوذ والتأثير في كل المنطقة العربية. وقد شكل الأداء المقاوم للعدو الصهيوني لفترة من الزمن رافعة استثنائية للمشروع الإيراني في المنطقة عموماً وفي لبنان على وجه الخصوص، إلا أن الانخراط في مسارات النزاعات ذات الطابع الطائفي في سورية واليمن والعراق وسواها من المناطق استنزف الرصيد الكبير الذي تم بناؤه على مدى سنوات طوال ووضع إيران ومن خلالها حزب الله في خانة المواجهة مع عموم الساحة السنية في المنطقة، بالإضافة إلى أن استخدام السلاح داخل الساحة اللبنانية لتقوية النفوذ أدى إلى جعله عنواناً للانقسام بعد أن كان محل إجماعٍ وطني.

 

دور دول الثورة المضادة في تسويق مسار التطبيع تحت شعار مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، واستهداف أي حالة شعبية إصلاحية، ومحاولة إرباك حزب الله أو على الأقل استنزافه هو والقوى السنية الإسلامية في صراع بينهما لا أفق له.

 



تمتلك إيران الكثير من أدوات القوة والنفوذ في لبنان انطلاقاً مما سبق ذكره، وهي ستركّز على تأمين صمود منظومة نفوذها للفترة التي تعتبرها ذروة الضغط الأمريكي للوصول للتسوية التي لا بدّ منها، حتى ولو أدى ذلك إلى إيقاع لبنان بأكمله تحت وطأة "المدحلة" الأمريكية، وستعمل خلال الفترة المذكورة بالإضافة إلى محاولة امتلاك أوراق تفاوض إضافية وغالباً على حساب جهات أخرى قد تكون الساحة السنية من بينها.

ت ـ الدور الروسي الذي لا يمتلك في لبنان أوراقاً ذاتية للنفوذ، ويعتمد، في إطار الصراع على الغاز والنفط، على حاجة الأطراف المتصارعة إلى قوة مُرجِّحة، مع وجود محطات استعانة به من قبل بعض الأطراف (التقدمي الاشتراكي – التيار الوطني الحر – سليمان فرنجية) ومبادرة عودة السوريين التي تعطّلت.

ث ـ الدور الأوروبي، لا سيّما الفرنسي، لا يمكن فصله بالكامل عن المسار الأمريكي، مع وجود بعض الخصوصيات لدى بعض دوله، خصوصاً فرنسا، إلا أنهم لا يمتلكون أدوات تأثير مستقلة ووازنة، لذلك تبقى اهتماماتهم محصورة في بعض المبادرات التي تُبقي حضورهم الديبلوماسي الذي يتطلع إلى تأمين بعض المصالح الاقتصادية، وهم يستندون في الغالب على مقولة حماية الأقلية المسيحية.

ج ـ دور الكيان الصهيوني غير منفصل عن المسار الأمريكي، وهو يسعى لتأمين أطماعه بالنفط والمياه اللبنانية، وإيجاد حلّ لقدرة حزب الله الصاروخية، وترقّب حالة الإرباك السياسي، والاستفادة من حالة الفوضى في لبنان لمزيد من الإشغال الداخلي لحزب الله.

ح ـ دور دول الثورة المضادة في تسويق مسار التطبيع تحت شعار مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، واستهداف أي حالة شعبية إصلاحية، ومحاولة إرباك حزب الله أو على الأقل استنزافه هو والقوى السنية الإسلامية في صراع بينهما لا أفق له.

خ ـ الدور التركي ما يزال محصوراً برصد الخارطة اللبنانية وتطورات الأمور فيها، ومساعدات اجتماعية محدودة لا سيّما للبنانيين التركمان، وعدم التدخّل في تفاصيل الشأن اللبناني مراعاة لتوازنات مصالحها مع الدول المؤثرة في لبنان.

5 ـ أهم مساحات التوتر الحالية وانعكاساتها:

أ ـ الانتخابات النيابية، حيث تسعى الإدارة الأمريكية إلى الخروج من الانتخابات النيابية بأغلبية تتواءم مع طروحاتها لجهة ترسيم الحدود البحرية ومسار التسوية والتطبيع في المنطقة، بينما يسعى حزب الله للحفاظ على الأغلبية التي يتمتع بها حالياً والتي تتيح له هامش مناورة سياسية وتسهّل عليه تمرير توجهاته وتوجهات المحور الذي ينتمي إليه، كما تسعى الأحزاب السياسية إلى تثبيت حضورها وتعزيزه في ظل طروحات التغيير الشعبي التي تُطلق منذ حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

ب ـ التوترات الأمنية المتنقلة جغرافياً والمتنوعة حجماً والتي تتعدد أهدافها لتشمل زيادة الاحتقان المحلي في وجه الحزب نتيجة أدائه المتراكم من جهة، والضخ الإعلامي الموجّه من جهة أخرى، وصناعة أزمات تتيح تحقيق مكتسبات على غرار اتفاق الدوحة بعد أحداث 7/5/2008، وإيجاد إرباكات تصرف النظر عن حالة الاحتقان في وجه الحزب؛ وآخر نموذج على ذلك أحداث الطيونة التي شهدت مواجهة قضائية وسياسية، وأُرسل من خلالها مجموعة من الرسائل للمراهنين على الأغلبية النيابية القادمة، واستعراض قوة في مرحلة المراوحة في مفاوضات الملف النووي، وشد العصب من القوى المختلفة.

ت ـ صراع الهيمنة على مؤسسات الدولة وتهميش دورها وعلى رأسها الجيش والقضاء.

أهم انعكاسات هذه التوترات تصاعد حالة الاستعصاء السياسي ـ الاقتصادي، وتزايد مؤشرات انهيار الدولة من أزمة محروقات وكهرباء وطبابة ومواصلات وخبز وإدارات وغير ذلك، وتطور دينامية الفوضى في الشارع واستثمار الأجندات السياسية والأمنية في ذلك، وتزايد التأزّم الداخلي نتيجة تدويل الأزمة اللبنانية.


التعليقات (0)