كتاب عربي 21

بل عشرية الحريات الناصعة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
لم تكن عشرية سوداء بل كانت عشرية الحريات الناصعة، والتي لن يمكن الارتداد عنها إلى مربع المظالم. لذلك نكتب لنصحح التوصيف ونلزم ناكري معروف الثورة حدودهم، ونحمي الحريات بما نملك من جهد.

وصف العشرية السوداء وصف أطلقه اليسار النقابي ورددته القيادات النقابية وجوقتها الإعلامية على السنوات العشر الأولى للثورة. وهذه الجوقة ناكرة المعروف وضعت التوصيف في سياق التبرير للانقلاب، وهو نفس سياق الترذيل الذي بنى عليه الانقلاب مشروعه؛ منكرا بذلك كل مكسب سياسي واجتماعي جلبته الثورة. لذلك نكتب ملتزمين بالدفاع عن مكاسب كثيرة لا ينكرها إلا جاحد مغرض لا يملك أية كفاءة ذهنية وعاطفية ليقدر الحريات حق قدرها، ومن هؤلاء كثير كلما حدثته عن الحرية رد بوقاحة بأن الشعب لا يأكل الحرية.

سردية الحرية ضد سردية الانقلاب

هذه زاوية نظرنا ولدينا عليها حجج. عاشت تونس عشر سنوات من الحرية المطلقة، تكلم فيها الجميع دون خوف أو وجل، وطرحت فيها كل قضايا الفكر والثقافة، وأنشئت الإذاعات الخاصة والتلفزيونات، وأطلق سراح الإنترنت بعد رقابة مطلقة مارسها نظام ابن علي القمعي. في مناخ الحريات المطلق تحركت النقابات وطالبت وأضربت واستحوذت على مكاسب كثيرة تجاوزت في أحيان كثيرة القوانين السارية، مثل حق التوريث المهني لأبناء النقابيين.
وصف العشرية السوداء وصف أطلقه اليسار النقابي ورددته القيادات النقابية وجوقتها الإعلامية على السنوات العشر الأولى للثورة. وهذه الجوقة ناكرة المعروف وضعت التوصيف في سياق التبرير للانقلاب، وهو نفس سياق الترذيل الذي بنى عليه الانقلاب مشروعه

ترشح الناس على قواعد تساوي الحقوق للبرلمان، ونظمت انتخابات متعددة للمجلس النيابي وللبلديات، واستقل القضاء بمؤسساته دون تدخل من الدولة. وانتشرت الجمعيات تشتغل على هواها، وفي غالب الأوقات دون رقيب من الدولة، حتى أن بعضها ولغ في المال الفاسد مستفيدا من مناخ الحريات.

هذا المناخ جرّأ الناس على السلطة، فانقطعت سبل الردة إلى القمع باسم عدم المساس بالشخصيات الرسمية أو احترام هيبة الدولة. وكان الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي أحد حماة الحرية، رغم أنه كان أحد أهداف الألسن المنفلتة والتي تجاوزت حدود الأدب واللياقة، لكن من منطق حماية الحريات تحمّل الرئيس كل تلك الوقاحة فلم يجرؤ من بعده على التراجع؛ حتى وصلنا مرحلة الانقلاب وألقى أعداء الحرية توصيف العشرية السوداء في الساحة، وهم الذين كانوا أول المستفيدين من الحرية.

لم يكن تكريس الحرية بعد عقود من القمع سهلا وقد دُفع الثمن، ولذلك يظهر توصيف عشرية الحريات بالسوادء عملا انقلابيا ينسف المكتسبات ويصب في خانة التبرير للانقلاب؛ الذي بنى سرديته على أن الشعب لا يأكل الحرية على مائدة العشاء. لقد كشف الانقلاب غرائزيته، ولذلك تنادى إلى إسناده كل غريزي يفكر ببطنه. الغرائزيون ضد الحرية هذا طبعهم، وتحت ظلال الحرية ننسف بهدوء سردية الانقلاب وأنصاره من اليسار الستاليني المتحالف جهرة مع الفاشية وريثة النظام القمعي.

الانقلاب الغريزي يلتهم الحريات

اليسار الغريزي الذي استعمل النقابة وحرف مبادئ الثورة إلى مطلبية غريزية ركّعت الحكومات؛ التقى مع الانقلاب المرعوب من الحرية فاتفقا على توصيف زمن الحريات بالعشرية السوداء، ولذلك فإن التوصيف يمهد بوقاحة لتقليص مربع الحرية وقضم أطرافها بالتدريج، في أفق استعادة حكم مطلق على شعب تحرر ويقاوم. هذا اللقاء الواقعي والموضوعي هو من طبيعة اليسار التونسي والتيار القومي (أكبر نصير ومبرر للانقلابات عبر تاريخه)، وهو من طبيعة كل انقلابي، وكلاهما لا يمكنه أن يعيش في مناخ حريات.
اليسار الغريزي الذي استعمل النقابة وحرف مبادئ الثورة إلى مطلبية غريزية ركّعت الحكومات؛ التقى مع الانقلاب المرعوب من الحرية فاتفقا على توصيف زمن الحريات بالعشرية السوداء، ولذلك فإن التوصيف يمهد بوقاحة لتقليص مربع الحرية وقضم أطرافها بالتدريج

في مناخ الحريات وقع فرز عظيم، فتميز الإسلاميون (المتهمون دوما بمعاداة الحرية)، لقد حموا الحريات وتحملوا كلفة عالية في ذلك. كاتب الورقة عاش سنوات الثمانين في الجامعة، حينها فرض الإسلاميون مناخا من الحريات في الجامعة، وفرضوا التعدد النقابي وحموا الطلبة من المنظمة الفاشية المملوكة حصريا لليسار. وفي الشارع رفعوا شعار "نطلب الحرية في البلاد كما نطالب بها في الجامعة"، وحوربوا من أجل ذلك وحرموا حرياتهم، فيما اليسار المعادي للحرية يرقد في حضن ابن علي عدو الحريات.

في عشرية الثورة ومن خلال موقعهم في السلطة، ظل الإسلاميون أوفياء لشعارهم، فتحملوا كلفة تحرير الألسن والأقلام التي عبثت بكرامتهم فلم يرتدوا. وفي ظل الانقلاب (الآن وهنا) يتحرك الشارع تحت حماية الإسلاميين بعد، فيما عاد اليسار الفاشي إلى حضن الانقلاب وسمى عشرية الحريات بالعشرية السوداء. إنها العشرية التي سمحت لعدوهم الاسلامي بالبقاء على قيد الحياة والمشاركة في السلطة. هل الحرية مكسب قليل؟

لا يبخس هذا المكسب إلا كل فاشي عاجز عن التواصل مع الناس وتقديم نفسه لهم كحزب أو قوة سياسية تملك بدائل وخيارات تحت سقف الحرية. ينكشف اليسار كما ينكشف الانقلاب، وهما واحد بمسميين كعدو صريح للحرية، ونفهم سر التوصيف الذي وضع في سياق إنكار المكتسبات. إن الحرية السياسية التي كرستها الثورة هي التي سمحت لمثل قيس سعيد بالحديث والمشاركة حتى الوصول إلى قصر الرئاسة، وهو أعرف الناس الآن بأن مناخات الحرية تقلص سلطته وتوقف الانقلاب عند حده، كما تلزم أنصاره حدودهم فلا يعتدون وإن رغبوا.

إن الشارع المقاوم في مواقع كثيرة، منها القضاء، يقول: الحريات خط أحمر. ولذلك نرى التوصيف الغريزي يسقط لتكرس الحرية مكسبا لا يُؤكل على مائدة العشاء، لكنه يسمح للناس أن يقولوا بصوت جهير لمن يحرمهم عشاءهم: قف الحريات خط أحمر.
غربال الثورة لا يزال يشتغل فيسقط منه أعداء الحرية رغم الانقلاب وآثاره الظاهرة. لذلك فإن العشرية السوداء كانت سوداء فقط على الخائفين من الحرية، أما الصابرون على الثورة فيتقدمون نحو المزيد من الحرية

إن الفرز جميل

نِعم الفرز الجاري الآن وهنا، فغربال الثورة لا يزال يشتغل فيسقط منه أعداء الحرية رغم الانقلاب وآثاره الظاهرة. لذلك فإن العشرية السوداء كانت سوداء فقط على الخائفين من الحرية، أما الصابرون على الثورة فيتقدمون نحو المزيد من الحرية. مكابدة طويلة وثقيلة على الأنفس وزادها الانقلاب عناء، لكن أليس من المفيد أن ينكشف الأعداء في خضم معركة الحرية؟ نعم أعداء الحرية ينكشفون في الطريق، فلا يمكن السير معهم إلى آخر الطريق.

لقد سقطت الصورة المزيفة للنقابة في هذه العشرية، ويجري الآن تنفيذ الحكم في الجحود النقابي ونحن نشاهد العار يجلل النقابيين، فالانقلاب يطردهم من حماه والشارع الحر يسخر من اضطراب مواقفهم، وهامش الوقت المتبقي لهم قليل. أما عشاق الحرية فماضون إليها حتى اكتمال هلالها بدرا. لقد كانت عشرية للحريات الناصعة وعليها يبني التاريخ القادم.
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 28-12-2021 07:23 م
*** إن قمنا بتغيير بعض أسماء الشخصيات التونسية القليلة الواردة في المقالة، فستنطبق معانيها بحذافيرها (أي بأسرها وبجوانبها ونواحيها المختلفة، وبرمّتِها)، فكل كلمة وعبارة جاءت بالمقالة تصف ذات الأوضاع المتشابهة بل المتماثلة في ما يزيد عن عشر بلاد عربية، ولذلك فقد سماها المتابعون المدققون بثورات الربيع العربي، ولم تسمى منفردة بالثورة التونسية أو الثورة المصرية أو الثورة السورية ... إلى آخره، ومن محاسن تلك الثورات كشفها عن حقيقة شخصيات ومواقف كانت غامضة على غالبيتنا، فلم يتوقع أحد أن يكون الملاذ الآمن للعلماني بن علي وزوجته في أرض الحرمين وبحماية شركائه آل سعود رعاة السلفية الوهابية المتشددة في الظاهر المعلن، كما لم يتوقع أحد أن يغدق آل سعود وآل زايد المليارات من أجل دعم انقلاب الجنرال السيسي على الرئيس الوطني المصري المنتخب ديمقراطياُ، وعندما سمعنا عبارات الإشادة الكاذبة المخادعة من أوباما بثورات الربيع العربي، ظننا أن الغرب قد فاء ورجع عن غيه، وأضحى صادقاُ في دعمه للحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي، ولكنهم لم يتأخروا لحظة واحدة في التخطيط الخفي لدعم الانقلابات المضادة، لينصبوا عملائهم على عروش وكراسي الحكم، من أمثال قيس سعيد والسيسي وبشار من المسوخ المحركة كخيال المآتة بحبال لا يخفى على فطن الأيادي التي تحركها، والحكومات الفاشية المستبدة الفاسدة الفاشلة العميلة للمحور الصليبي الصهيوني الجديد التي تحكم غالبية بلداننا العربية، ستسقط مع بعضها البعض، فهم كالخشب المسندة، وكرامة وتقدم الشعوب العربية الأصيلة لن يكون إلا بالتخلص منها ومن داعميها ومؤيديها، وهو ليس بالأمر البعيد، (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ? بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ? تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ? ذَ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)، والله أعلم بعباده.