مقالات مختارة

نحو عالَمٍ متعدِّد الأقطاب.. انتقالٌ أم تغييرٌ للنظام العالمي؟

ناصر حمدادوش
1300x600
1300x600

تشتهر أمريكا بأنَّ لها ذاكرةً تاريخيةً قصيرة، إذ أنَّ العقل الأمريكي -بروحه الاستعلائية- يرى بأنَّ قيم الليبرالية والديمقراطية الأمريكية قد وضعت حدًّا لتطوُّر الأفكار الأيديولوجية، وهو ما بشَّر به “فوكوياما” سنة 1992م في كتابه “نهاية التاريخ” كصورةٍ نهائيةٍ للنموذج الغربي الذي انتهى إليه تطوُّر الفكر البشري.


وقليلاً ما تسترجع النُّخبة الأميركية التاريخ كمسوِّغٍ أخلاقيٍّ لاستغلاله في سياساتها الخارجية، مثلما تستحضره مع مظلومية اليهود في “الهولوكوست” لتبرير اشتقاق الحقِّ القانوني والسِّياسي من الحقِّ الدِّيني عبر سردية التاريخ المزعوم في قيام الدولة اليهودية في فلسطين.


لا تتذكر النُّخبة الأميركية التاريخ -ولو كان حديثًا- لجذور الصِّراع، والتي أدَّت بروسيا لمخالفة قواعد القانون الدولي بانتهاك سيادة دولةٍ مستقلة وإعلان الحرب على أوكرانيا، فعند تفكيك مكوِّنات هذا الصِّدام الدولي فيها من منظورٍ تاريخي مُستعينين بنظريات سلوك الدول الكبرى نجدها تعود إلى قمة حلف الناتو التي انعقدت في “بوخارست” في أبريل 2008م التي أكَّدت على أنَّ أوكرانيا وجورجيا ستصبحان جزءًا من الناتو، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدًا وجوديًّا لها، وهو ما لا تسمح به مهما كانت كُلفة ذلك.


وفي نوفمبر2021م وقَّعت أوكرانيا “ميثاق الشراكة الإستراتيجية” مع أمريكا للتسريع المتهوِّر لذلك، متجاهلين مقاربة “توازن القوى” التي تقوم على القبول بوضعٍ محايدٍ لكلٍّ من جورجيا وأوكرانيا بصورةٍ خاصة، وهو ما يفجِّر الذاكرة بعدم تجاهل التاريخ، وأنَّ البُعد الخفي لهذه الحرب أكبر من المعلن عنه، إذ هو مرتبطٌ أساسًا بالصِّراع الأمريكي الرُّوسي على أوكرانيا الحديقة الخلفية لروسيا.


إنَّ التسلسل الزمني لانفصال أوكرانيا عن روسيا عام 1991م رسم صورةً دراماتيكية مأساوية لما سُمِّي بالطلاق الحضاري، وهو ما جعل الرئيس “بوتين” يكرِّس نفسه منذ سنة 1999م لقضية عودة التاريخ واستدعاء أشواق الإمبراطورية الروسية القيصرية وإعادة أمجادها الضَّائعة، وهو الذي لا يتردَّد دائما في وصف تفكُّك الاتحاد السوفيتي بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وهي الأبعاد القومية التي كان يؤجِّجها طوال مساره الاستخباراتي والسياسي، ما دفعه للمغامرة بهذا الصِّدام الدولي العنيف مهما كانت كُلفته القانونية والسياسية والأخلاقية والمادية والاقتصادية والبشرية.


ذلك أنَّ السِّياق الأوسع لهذه الحرب يدلِّل بشكلٍ واضحٍ بأنَّ أحادية القطب الأمريكي يمثِّل تحدِّيًا غير عادلٍ فُرض على روسيا بعد نهاية الحرب الباردة، كما أنَّ توسُّع حِلف الناتو شرق أوروبا، والتهام المزيد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقًا يفجِّر تهديدًا وجوديًّا لروسيا.


إنَّ جرأة الرُّوس على المواجهة الانفرادية للغرب بكلِّ مكوناته وأدواته وتحالفاته يثبت مكانة روسيا الصَّاعدة كقوةٍ عالمية ونظيرٍ استراتيجيٍّ لأمريكا، بعد أن تحرَّكت قرون الاستشعار بأنَّ الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان ابتداءً من 31 أوت 2021م قد أثبت زعزعة صورتها ومكانتها في العالم، وأنَّ ذلك الخروج الدراماتيكي سيُسَجَّل في التاريخ كرمزٍ لبداية النهاية للأمركة، وأنَّ ما بعد أمريكا لن يكون خيالاً علميًّا، بل سيلوِّن بالأحمر قطعةً أثريةً من الزَّمن الضَّائع لها.


هذه الحرب الرُّوسية تتجاوز مصير أوكرانيا، بل تمتدُّ إلى مستقبل أوروبا وأمريكا، إذ هي خطوةٌ جريئةٌ تستهدف الزَّعامة الأمريكية للعالم، وستكون البداية في حصر مسألة الأمن القومي داخل الجغرافيا الأوروبية، والدِّفاع عن ذلك لن يكون خارج الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، مع خنق الطموحات الغربية خارج حدودهما، إذ أنَّ أهداف الغرب أصبحت متضاربةً بشكلٍ صدامي مع روسيا والصِّين.


إنّ التحدِّي الرُّوسي للغرب -وبلغة القوَّة الخشنة- يدخل ضمن منظور استراتيجي عالمي شامل، يتمثّل في إعادة إنتاج نظام دولي جديد، يوازن بين القوة الروسية والصعود الصِّيني والتعثُّر الأمريكي والعجز الأوروبي، والجغرافيا السياسية المتحرِّكة في أوكرانيا وأوروبا ما هي إلاَّ مقدّماتٌ لمخاضٍ عسيرٍ لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد.


هناك مآلاتٌ لهذا الصِّدام الدولي قد تختلف حتى عن أحلام القوى المتصادمة نفسها، ومن هذه المآلات:


أولاً/ تغيُّر الخارطة العسكرية العالمية:


صحيحٌ أنَّ الآلة العسكرية لوحدها لا تكفي لإحداث تغييراتٍ جذريةٍ في هيكل النظام العالمي، إلا أنَّ الحرب الروسية على أوكرانيا -وبهذه القسوة والقوَّة- أبانت على خارطةٍ عسكرية جديدة:


1- هيبة القوة العسكرية الرُّوسية، والتي جعلت أمريكا وحلف الناتو يتجنَّب المواجهة المباشرة مع روسيا، سواءٌ في التدخُّل العسكري الروسي في جورجيا سنة 2008م، أو في ضمِّ جزيرة القرْم الأوكرانية سنة 2014م، أو في هذا الغزو الشامل لها، واكتفت بالعقوبات الاقتصادية وخوض الحرب بالوكالة كملامح لعودة الحرب الباردة.


2- عودة ألمانيا العسكرية كمطلبٍ أوروبيٍّ وبصورةٍ غير متوقَّعةٍ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، وتحوُّلها من محاولات استرضاء روسيا إلى الانخراط في معاقبتها والتأهُّب لها عسكريًّا، وهو ما يمثل انقلابًا تاريخيًّا في السياسة الألمانية، إذ ضخَّت لأوّل مرَّة 100 مليار يورو في ميزانية الدفاع كردّة فعلٍ على هذه الحرب، وهو نموذجٌ واضحٌ لإعادة تشكيل العقيدة العسكرية والأمنية الأوروبية، إذ لم تعُد أمريكا قادرةً على ضمان الأمن الأوروبي.


3- هناك صعودٌ صينيٌّ سريعٌ نحو القمَّة العالمية، وبالرَّغم من قوَّته التيكنولوجية والعسكرية، وبالرَّغم من الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع روسيا، والتجمع الأمني الموازي للناتو الذي يجمعهما وهو “منظمة شنغهاي للتعاون” والإعلان المشترك عن القمَّة بينهما يوم 5 فبراير 2022م وحديثهما فيها عن “حقبةٍ جديدة” للنظام العالمي، إلاَّ أنَّ الصِّين معنيّة بالانتقال لا بالتغيير الجذري للنظام العالمي عبر القوة الناعمة بالنموذج الجاذب لا بالمواجهة العسكرية، وهو ما تُرجِم في موقف الحياد من هذا الصِّدام الدولي في أوكرانيا.


ثانيًّا/ تغيُّر الجغرافيا السِّياسية وهيكل النظام الدولي:


رغم قسوة الحرب الاقتصادية الكاسحة والمتمثلة في العقوبات الغربية غير المسبوقة ضدَّ روسيا، ورغم الاستعداد الرُّوسي لها والرَّد عليها، وما يملكه من الرَّدع النووي، والمفاجآت العسكرية للأسلحة التي يستخدمها لأوَّل مرَّة، ودهاليز الحروب الإلكترونية السِّيبرانية، والإدمان الأوروبي على إمدادات الطاقة من روسيا، والمتنفس الدولي لها عبر علاقات روسيا الإستراتيجية مع الصِّين وتركيا وإيران وكوريا الشمالية وبعض الدول العربية والإفريقية الطاقوية، والاحتماء بالمؤسَّسة الموازية للناتو، وهي “منظمة شنغهاي للتعاون” التجمع الأمني الذي يضمُّ الصين وروسيا ومعظم دول آسيا الوسطى وباكستان والهند وغيرها..


وبالرَّغم من بقايا الهيمنة الأمريكية على الأرض الصَّلبة التي توفِّرها المؤسَّسات الغربية القائمة، والتي ظهرت قيمتها المؤسَّسية في لحظات احتدام هذا الصِّراع، مثل الناتو والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونظام سويفت ومنظمة التجارة العالمية ومحكمة العدل الدولية، وأدوات التعبئة الغربية لعزل روسيا عن العالم عبر المؤسَّسات غير السياسية الأخرى، فإنَّ الارتباط واردٌ بين هذا التصعيد الرُّوسي وبين السَّعي إلى تغيير هيكل النظام العالمي، إذ يوحي السُّلوك الرُّوسي الهجومي وردُّ الفعل الغربي الدفاعي بإعادة تشكيل مواقع القوى الدولية الكبرى فيه، وأنه قد حان وقت الانتقال إلى نظامٍ تعدُّدي أو إلى عالَمٍ مُتعدِّد الأقطاب.


سيكون للمسار الذي اتخذته هذه الحرب، والتوترات المصاحبة لها بسبب تداخل المصالح والحسابات والتحالفات الإستراتيجية بين القوى الفاعلة فيها، وإعادة صياغة الملامح الاقتصادية والسياسية والعسكرية انعكاساتٌ حتمية على النظام العالمي برمته، كما أنَّ تعقيدات هذا الصراع وأبعاده المتعدِّدة جعلته يأخذ بُعدً دوليًّا أقوى وأكثر تأثيرًا في مستقبل النظام العالمي.


إنَّ إصرار روسيا على خوض هذه الحرب الشرسة ضدَّ الغرب بكلِّ هذه العدوانية، هو للتأكيد على مكانتها كقوةٍ عالمية، وهو ما تنبَّأ به مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق “بريجينسكي” بأنَّ روسيا بدون أوكرانيا لن تصبح قطبًا سياديًّا لعالَمٍ متعدِّد الأقطاب، وهو الخيار الذي حدَّدته روسيا كمسارٍ ثابتٍ لذلك، وهو الخيار الذي تستميت أمريكا ضدَّه حتى لا تسمح بمراجعة النظام العالمي وإنتاجِ تاريخٍ مُرٍّ في ذلك.

 

(الشروق الجزائرية)

0
التعليقات (0)