مدونات

حبل الكذب

محمد الحاج علي- طبيب سوري كاتب
محمد الحاج علي- طبيب سوري كاتب

تزخر الثقافة العربية بالكثير من الأمثال التي تشكل قيمة مضافة وإغناءً للتراث الشعبي، من خلال محتواها الثري بالحكم والأمثال ذات الجمل القصيرة التي تختزل بمفرداتها قصصاً ذات دلالات ومعانٍ بالغة التأثير وتحمل في كنفها الكثير من العبرة. تمتاز هذه الأمثال بولوجها إلى شتى مناحي الحياة وتغلغلها في التفاصيل الجزئية لمعاملات إنساننا العربي اليومية، من دون أن تستثني أي فئة من فئات المجتمع، فاستخدامها يشمل الصغير والكبير، الفقير والغني، الجاهل والمتعلم، المحكوم والحاكم.

أحد تلك الأمثال ذائعة الصيت ذلك المثل القائل إن حبل الكذب قصير، ولطالما رددته ألسنة العامة دون معرفة القصة التي جاء المثل تعبيراً موجزاً مختصراً عنها.

يحكى في غابر الزمان أن تاجراً ثرياً من مدينة بغداد كان لديه عدد من العمال يعملون في تجارته ويسعون على أرزاقه، وقد قام التاجر في أحد الأيام بتفقد أمواله فاكتشف أن أحد أكياس نقوده مفقود ولم يعثر عليه، وبعد طويل تفكير شك التاجر أن الكيس مسروق وأن من قام به هو أحد عماله العشرة الذين يحفظون أمواله ويودعونها في مأمنها.

استدعى التاجر عماله جميعاً وأخبرهم بسرقة كيس النقود، ثم ما لبث أن وزع على كلٍ منهم حبلاً مماثلاً في الطول لبقية الحبال الأخرى، خاتماً لقاءه مع عماله بالقول إنه سيتفقد الحبال جميعاً في صباح اليوم التالي، وأن السارق سيزداد طول حبله بمقدار سنتيمترات عشرة وسيكشف أمام الجميع.

بعد أن ذهب العامل السارق إلى بيته قام بقص أحد طرفي الحبل بمقدار عشرة سنتيمترات وأوى إلى فراشه مطمئناً إلى نجاته في لقاء اليوم التالي. في الصباح استدعى التاجر عماله ووجد ضالته في الحبل القصير الذي كشف له الشخص السارق، ومن هنا جاءت مقولة حبل الكذب قصير.

لا يقتصر وصف الحبل المصنوع من الكذب على قصره فحسب، بل هو أبعد من ذلك بكثير. إنه حبل يلتف على عنق صاحبه ويقوده إلى الفجور في القول والفعل فاتحاً ومشرعاً باباً من أبواب النار. وهكذا البشر، لو تأملنا علاقاتهم التي تنتهي إلى مرحلة الفُجر في الخصومة، فلا بد أن نبحث عن حبل الكذب الذي قاد صاحبه إلى ذلك الفجور وأفضى إلى ما أفضى إليه، بعد أن عالج الكذب بالكذب وتحراه في قوله حتى كان وصفه كذابا (أي بليغ الكذب وكثيره).

وكثيرة هي القصص التي تروى في فضائل الصدق وثماره، فهو أنجى وأسلم، وأزكى وأطهر، وأقوى وأمضى، ولم يكن يوماً إلا حلية الأبرار وشيمة الأحرار. لكن تبقى قصة الحديث بين هرقل ملِك الروم وأبي سفيان صخر بن حرب، زعيم قريش، من أجمل القصص التي تروى عن صدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين. فيها كان صدقُ محمد الحاضر الأقوى في مجلس هرقل الذي جاءه زعيم قريش شاكياً، وفيها كان صدقُ أبي سفيان في وصف عدوه فجاءه كريم القول من سيد الورى يوم فتحت مكة أبوابها "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

 

* طبيب وباحث أكاديمي سوري- كارديف

التعليقات (1)
Zakria ali
الجمعة، 10-06-2022 06:37 م
تسلم ايدك دكتور حاج علي كلمات تستحق الاحترام