كتب

العروي.. من التاريخانية إلى اكتشاف الواقع المجتمعي الإسلامي

المفكر المغربي عبد الله العروي يقدم رؤيته للإصلاح الديني
المفكر المغربي عبد الله العروي يقدم رؤيته للإصلاح الديني

الكتاب: السنة و الإصلاح
الكاتب: عبد الله العروي 
الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2008


في تحليله للنزعة التاريخانية يقول المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه عن "الأيديولوجيا العربية المعاصرة": إن المعتقد الديني يرتبط كليا بكلمات ـ القرآن و الحديث ورواية التاريخ... ويضيف: لقد كان الإسلام دائما إسلاما مجدداً.. الإسلام الحنبلي يركز على شخص النبي ـ ومن هنا منشأ الأهمية التي يوليها ابن حنبل لأقوال النبي و أعماله، وشخص النبي يجسد في آن واحد الرسالة الإلهية، ويجسد مثالاً إنسانياً، بضمن العلاقات بين الإنسان والله. وهكذا، فالحنبلية هي رؤية للعالم وإشكالية ولغة لا تعدو للماضي ولا للمستقبل، إذ إن الإسلام، كمعتقد، لا يرسم استمرارية تاريخية واحدة فقط.

التاريخانية التي شكلت المكون الفلسفي الأساسي في فكر عبد الله العروي منذ عقود ثلاثة مضت، وأصبحت جزءا من الثقافة العربية المعاصرة، التي استوعبتها، بعد أن أدت دورها في تحليل الواقع العربي وفق رؤية منهجية مختلفة عن ماهو سائد،تنطحت بأطروحاتها الفكرية لمعالجة قضايا أقلقت الوعي العربي المعاصر: الاستشراق، الاستعمار، التأخر التاريخي، الثورة في العالم الثالث، الأيديولوجيا العربية، الخصوصية الثقافية في العالم العربي.

لقد اجتهد العروي معرفيا وفكريا، ساعده في ذلك انفتاحه الكبير على الفكر الفلسفي العالمي، وعلى المناهج الفكرية السائدة في العالم الغربي طيلة عقدي الخمسينات والستينيات من القرن الماضي، وقدم أطروحات في علم التاريخ، أطروحات تنظيرية تسد حاجات داخلية في العالم العربي، شكلت خطابا فكريا بنيويا متماسكا في الفكر العربي المتفلسف.

التاريخانية أثارت الكثير من الجدل، من القبول والرفض، في العالم العربي، وفي ذينك دليل على حيويتها، ولا سيما حين تنطلق من لحظة في زمان ومكان محدد لتعانق العالمي. ولعلها بالغت هنا في استدعاء الآخر، أو الليبرالي الأوروبي، ولا سيما الماركسي حيث بلغت حتى الإفراط، بحيث كانت تُغفل الحدود، والخصوصي، والممكن قبوله في الفكر العربي العريق في الحضارة، وفي الفعل الفلسفي على حد قول الدكتور علي زبعور في معرض تقده للتاريخانية.

في كتابه: "الإصلاح والسنة" الصادر عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء، يعترف  المفكر المغربي الكبير لسائلته الأمريكية محدودية المنهجية التاريخانية، أو الفلسفة النقدية في التاريخ، التي أثارت الكثير من الرفض والحوار، بسبب كلام العروي نفسه في مقدمته: "كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل (ومن دون) أن يعيش مرحلة ليبرالية"، وهو ما يعكس لنا الانبهار الكبير من جانب العروي بالمركزية الثقافية الأوروبية ـ وبالعقلانية النرجسية الغربية والاستعلائية واللاتاريخية.

فيقول العروي: "لا أرى نفسي فيلسوفا ـ من يستطيع أن يقول إنه فيلسوف؟ ـ ولا أرى نفسي متكلما ولا حتى مؤرخا همّه الوحيد استحضار الواقعة كما وقعت في زمن معين ومكان محدد. لم أرفع أبدا راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ، بل رفعت راية التاريخانية في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية لكثرة ما فندت وسفهت. لماذا؟ فعلت ذلك بدافع الواقعية والقناعة. وأعني بالقناعة الكفاف. ولم أتوصل إلى موقفي دفعة واحدة، بل مررت بمراحل عدة. كنت أميل إلى التجريد فلم أنفلت منه إلا بمعانقة التاريخ، عندما قررت ، في لحظة ماء، الاندماج الكلي في المجموعة البشرية التي انتمي إليها و أن أربط نهائيا مآلي بمآلها. الخروج من الدائرة الخاصة، التعالي، عن أنانية الشباب، يعني اكتشاف الواقع المجتمعي الذي لا يدرك حقاإلا في منظور التاريخ. مرّ علي وقت طويل قبل أن أفهم أن مايحرك المجتمع ليس الحق بقدر ماهو المنفعة"(ص6).

ويضيف العروي قائلا: "هذا بالنسبة للمجتمع. وماعداه؟ خارج حيز المجتمع كل شيء جائز،الأناحرّ كطليق.لا أحد مجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه" (ص7).

إنه اعتراف بأنَّ التاريخانية العربية التي يعتبر العروي أبرز منظريها، عليها إذا أرادت أن تخاطب الفكر العربي، وأن تنطق باسمه أو تحمل فعله الفلسفي، أن ترتبط بالمجتمع العربي الذي يحتل فيه الإسلام العربي مكانًا مركزيًا في سيرورته التاريخية، منذ الفتوحات الإسلامية وما رافقها من عملية تعريب للأقطار الجديدة التي دخلت الإسلام. فالعامل الديني المعبر عنه في الإسلام كان الأساس في تكون المجال العربي و انصهاره. فالإسلام العربي، ولا سيما السني منه، ظل يحتل مركز الثقل في العالمين العربي والإسلامي، بوصفه المجال المقدس الأساسي للمسلمين جميعا،نظرا لالتزام كل مسلم  برموزه الرئيسة في تعبده: كالصلاة، والصوم، والحج ، والكعبة، وقبر الرسول، والقبلة الخ.

فكان رفع شعار التاريخانية موجها نحو المستقبل لا صوب الماضي، ولذلك كان عليها أن تتسم بالعقلانية والواقعية والفعالية بالاستناد إلى العلم والشرائع القانونية والسياسية الحديثة. سيظل العروي في كتابه السنة والإصلاح متشبثا بالتاريخانية بعناد وبدون رغبة في "التوبة" عنها، لكن بمضمون جديد جعله ينتقل من تاريخانية يسارية ذات نَفَس ماركسي إلى تاريخانية يحوم عليها طيف المحافظة.
 
كانت تاريخانية العروي الأولى تعاني من مفارقة ذاتية مفادها أنه في الوقت الذي كان يربطها بالتاريخ والزمن، لا يتردد في الدعوة إلى القطع مع التراث، الذي هو ليس شيئا آخر سوى ترجمان التاريخ والزمن. أما في كتابه هذا، فلأنه وضع مشروعه في أفق الزمن الطويل، فسنجده يحفر تحت التاريخانية الأولى، للعثور على تاريخانية ثانية. إذن بعد التاريخانية الواقعية ذات المدى الزمني القصير، نراه يبشر بتاريخانية أسطورية تنهض بخاصة على أساس راموز إبراهيم وولده إسماعيل جد العرب، على حدّ قول مثقف مغربي الأستاذ الجامعي محمد المصباحي.

نفهم من هذا أن العروي لا يقوم في كتابه هذا بتحسين أو تعديل التاريخانية الأولى استجابة لمستجدات التاريخ الحديث، بل يذهب أبعد من ذلك ليقدم لنا بديلا لها هو أشبه ما يكون "بما بعد تاريخانية" (بوستتاريخانية) أو "تاريخانية بديلة" (ألتيرتاريخانية)، قائمة على زمن وتاريخ رمزي حكائي بدل التاريخ الفعلي، والزمن المعاش. فعندما كان يتكلم مثلا عن النبي إبراهيم، لم يكن يهمه إبراهيم التاريخي، وإنما إبراهيم "الراموز"، الذي يفسر رفض العرب اعتناق اليهودية والمسيحية، أملا منهم في مجيء نبي يؤكد "الوعد الإبراهيمي" بتأسيس دولة تملأ الدنيا والزمن شرقا وغربا.

كتاب العروي هو عبارة عن سجال في قالب تراسل بواسطة شبكة الأنترنت مع سيدة أمريكية مطلقة من رجل شرقي، من دون أن يذكر اسمها، وإنما يعرفها بأنها متخصصة في البيولوجيا البحرية، ولها ولد يقارب التاسعة، ووالدتها سيدة أجنبية. ويقدم لنا العروي إشارة عن اللقاء الأول حين يقول: "تقولين إنك استمعت إلي مرة وأنا أحاضر في إحدى مؤسسات الشاطئ الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية. تذكرت اسمي وبحثت عنه في الشبكة العنكبوتية، فعثرت على عنواني وقررت مراسلتي" (من بداية الفصل الأول المعنون السائلة: السيدة الأمريكية والمسؤول: الدكتور عبد الله العروي). 

يقدم الكتاب إذن من خلال أسلوب التراسل، على شكل جواب على تساؤلات هذه السيدة الأمريكية، وهي تساؤلات تتناول صورة الإسلام. وكيف يقدم نفسه، وكيف ينظر إلى الأديان الأخرى، لاسيما وأن السيدة مسلمة، بحكم الانتماء، وتعيش في محيط تتعدد فيه الأديان. 

لم يحدثنا العروي عن مآل الحوار بينه وبين هذه السيدة لأننا لا نسمع لها صوتا في الكتاب، ولا يكاد المؤلف يذكرها أو يشير إليها إلا في المقدمة التأطيرية وعدا ذلك في ثلاث، أو أربع مناسبات على وجه الدقة، وهي في كل الحالات المعدودة امرأة صامتة متلقية سلبية "جاهلة" أو "جاهلية"، لما يقوله العروي، وحين تقوى عليها المسائل والمشكلات المعرفية، التي شغلت كل تاريخ الفكر العربي الإسلامي، يدعوها العروي إلى قراءة القرآن والتدبر فيه، فهو وحده الحافل بالإجابات عن كل الأسئلة المضمرة أوالمستعصية.
 
يكتب العروي: "نصحتك، مراسلتي الكريمة، بأن تهتمي بقراءة كتابنا العزيز. لكنني لن أنتظر أن أعرف وقعه في نفسك لأطلعك على وقعه في نفسي أنا، مع الذكر أن كل "اعتراف" أو "عقيدة"، تتكلم عن الآخرين أكثر مما تتكلم عن القائل نفسه ، بل تختزل الزمن وترد على الأجداد".(ص11 من الفصل الأول).

في المقدمة أيضا، يحدث العروي سائلته عن حقيقة وهم الحوارات، التي تجري تحت يافطة حوار الحضارات ويرى أنها مجرد دعاوى لا أساس لها من الصحة، من خلال واقعة حقيقية جرت معه، عندما اقترح أحد أصدقاء المفكر اسمه على مؤسسة أمريكية مهمتها ترسيخ السلم بين الشعوب وتشجيع تفاهم الثقافات، وتملك في جبال الألب الإيطالية قصرا فسيحا تستضيف فيه على مدى السنة وبالتناوب باحثين من مختلف الجنسيات والتخصصات، موفرة كل ما يحتاجون إليه خلال فترة البحث، ومتيحة لهم جميع الوسائل، مؤمنة لهم كل أسباب الراحة.

 

إن النصح بقراءة القرآن، حتى وإن كان الأمر بلغات أخرى غير اللسان العربي المبين، هو طريق في نظر العروي إلى الطمأنينة، وإلى اكتشاف العالم الروحاني والفيض الرباني.

 



وكانت فكرة العروي أن يذهب إلى هناك، وأن ينفرد خلال ستة أشهر، وهي المدة، التي تمنحها المؤسسة الأمريكية للباحثين، مرفوقا بكتاب واحد هو القرآن الكريم، مستغنيا عن كل الوسائط من شراح ومفسرين ومؤولين، وذلك كما يقول العروي: "حتى أعرف بالضبط ماذا يبعث ذلك الكتاب في نفسي أنا، في وضعيتي الحالية، في سني الحالية، بثقافتي والتجربة، التي مررت بها".

ورفضت المؤسسة الأمريكية، اقتراح العروي، لأن الأمر كان يتعلق بكتاب له حساسية خاصة عند الغرب، وهذا الكتاب هو القرآن الكريم، وهو الأمر، الذي يبين انغلاق الفكر الغربي وفساد أطروحاته المتعلقة بكل أشكال الحوارات، التي يدعو إليها. 

وفي سياق حديثه إلى "سيدته الكريمة" كما يصفها العروي، يحثها على القيام بالتجربة، التي منع هو من القيام بها، لا لسبب، ولكن لأنها العربية الأصل، التي حافظت على جذور والدها رغم من أن والدتها أجنبية، وورثت هذه الجذور لابنها.

إن النصح بقراءة القرآن، حتى وإن كان الأمر بلغات أخرى غير اللسان العربي المبين، هو طريق في نظر العروي إلى الطمأنينة، وإلى اكتشاف العالم الروحاني والفيض الرباني. 

ولا مرأة عالمة مثل"سيدته الكريمة" التي تقضي أكثر من نصف السنة على ظهر سفينة مختبر تجري فحوصا وتجارب دقيقة في عمق المحيط الهادي، ستكون قراءة القرآن ذات معنى خاص بالنسبة لمن يجد نفسه على طوف ماء في حيرة من الأمر، مهددا دوما بأسئلة الوجود الكبرى. 

بعد هذا التقديم، الذي يضع الإطار العام للكتاب، يدخل العروي مباشرة في مناقشة القضايا الخلافية، متناسيا "سيدته"، تلك القضايا، التي شكلت محاور الفكر العربي الإسلامي وفلسفته منذ بداية الرسالة المحمدية وإلى الآن. وهي مسائل حديثة قديمة، مطروحة في كل زمان ومكان، ليكون الإطار الجامع للكتاب هو عنوان الغلاف "السنة والإصلاح" إذ يبدو الكتاب جملة وتفصيلا خارج المشروع الفكري للعروي، حسب ما جاء في مقال تأملات العروي في القضايا الأساسية للفكر العربي الإسلامي المنشور في جريدة المغربية بتاريخ 21/7/2008.

وللحديث بقية.


التعليقات (2)
علي الطنطاوي
الأربعاء، 27-07-2022 09:29 ص
عودوا إلى آداب الإسلام ففي الإسلام الخير و العدل و الحق و النصر و المجد .
مسلم عربي
الثلاثاء، 26-07-2022 11:33 ص
مقال ذو قيمة... سلبية للأسف.. الدعوة للتفلسف و إلصاق إسم اليهودي الألماني الملحد 'ك.ماركس' بالإسلام و الترويج للتصوف بطريقة مبطنة.. و قراءة القرءان بغير اللغة العربية..... إلخ.. كل هذا مرفوض و غير شرعي.. ، و لا ينقص مجتمعاتنا المسلمة خاصة طرق و تفلسفات جديدة لا تصل بسالكيها إلا إلى الجحيم...