قضايا وآراء

هل يكون .. " خريف الغضب " في تونس ..!؟

سمير ديلو
1300x600
1300x600
بينما يتقدّم قيس سعيّد في تنفيذ حلمه بالبناء القاعدي والانفراد بالسّلطة لا يلوي على شيء ولا يعبأ بأحد، يتصاعد الغضب الشّعبيّ ويتحوّل تدريجيّا من التذمّر اليوميّ من غلاء المعيشة والتهاب الأسعار وفقدان الموادّ الغذائيّة الأوّليّة إلى مظاهرات ليليّة واشتباكات مع أعوان الأمن تنتشر كبقعة الزّيت انطلاقا من الأحياء الشّعبيّة الواقعة شمال شرقي العاصمة: " دوّار هيشر" و "التّضامن" و"الانطلاقة"، وهي الأكثر اكتظاظا والأشدّ حساسيّة.

وأصبح واضحا لدى الكثير من المحلّلين و المتابعين أنّ الوضع الدّستوري الغريب الذي أنشأه دستور قيس سعيّد ألقى بظلاله الخانقة على الوضع العام بالبلاد: حكومة بلا صلاحيّات ولا هامش للاجتهاد والقرار، ورئيس دولة يجمع كلّ السّلطات وينفرد بجميع الصّلاحيّات ولكنّه لا يتحمّل أيّ مسؤوليّة ويكرّر الشّكوى "المتلفزة" من غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة تماما كأيّ مواطن عاديّ من أفراد شعبه الذي لا يزال ينتظر وفاء الرّئيس بوعوده المتكرّرة بإعادة "الأموال الطّائلة" التي نهبها من سبقوه وهرّبوها خارج البلاد.

جمهوريّة الرّئيس وجمهوريّة مواطنيه:

ما فتئ سعيّد يبشّر بجمهوريّة جديدة تعوّض دولة الاستقلال الموسومة بالاستبداد ومنظومة الثّورة التي كرّست في نظره "الالتفاف على الثّورة "، و تقوم على أنقاض جمهوريّة الدّيمقراطيّة التّمثيليّة التّقليديّة ولا يكون فيها للأحزاب إلاّ دور شكليّ يسبق اندثارها المحتوم، واللاّفت في تصوّر سعيّد لهذه الجمهوريّة أنّها تقوم على تناقضات غير قابلة للحلّ فالشّعار الرّئيسيّ المعتمد من الرّئيس وتنسيقيّاته ومفسّريه هو: "الشّعب يريد"، ولكنّ الشّعب مغيّب تماما عن كلّ آليّات القرار والخيارات الهامّة ولا يقول كلمته إلاّ عند انتخاب رئيس الدّولة مرّة كلّ خمس سنوات، وطيلة السّنوات التي تفصل الاستحقاقين  الانتخابيّين ينفرد الرّئيس بإدارة البلاد بلا حسيب ولا رقيب، وينحصر دور المجلسين التّمثيليّين في مناقشة القضايا المحلّية والجهويّة، أمّا الحكومة فيعيّنها الرّئيس لتنفّذ برنامجا يرسمه بنفسه وينحصر دورها في المسائل الإداريّة التّقنيّة ولا دخل لها في الشّأن السّياسيّ.

وجمهوريّة سعيّد لا تحتاج أصلا للمؤسّسات التّمثيليّة الوسيطة، فالعلاقة مباشرة بين الشّعب "الذي يريد" و الرّئيس الوطنيّ الصّادق الذي يعلم جيّدا ما يُريد شعبه دون حاجة لوُسطاء.. وهي جمهوريّة لا ينفكّ رئيسها يؤكّد رفضه القاطع للتدخّل الخارجي في الشّأن الوطني ويعتبر السّيادة خطّا أحمر، ولكنّه لا يستنكف عن مناشدة المانحين إنجاد اقتصاده المتهالك وماليّته العموميّة المنكوبة.

ما ينذر بالخطر الجسيم أنّ تجربة العام المنصرم من الحكم المطلق للسّيّد سعيّد بيّنت للجميع، بما في ذلك بعض أقرب مناصريه، أنّه ليس فقط عديم الخبرة والدّراية بالقضايا الاقتصاديّة بل هو لا يعبأ بها أصلا.. و يختصر أسباب الأزمة الاقتصاديّة في تآمر المناوئين الذين يريدون إفشال مشروعه الإصلاحي وفي جشع المحتكرين والمضاربين الذين ينكّلون بالشّعب.

أمّا جمهوريّة مواطني سعيّد فهي بلدٌ خُمس أهله يعانون الأمّيّة ويعيشون مع الباقي على إيقاع تضخّم تجاوز الـ 8 بالمائة (لأوّل مرّة منذ 36 سنة)، وعلى وقع الزّيادات المتواترة في أسعار الموادّ الاستهلاكيّة الأساسيّة التي يختفي بعضها (كالسّكّر والقهوة) من الأسواق دوريّا لعدم القدرة على خلاص المزوّدين الذين لم يعودوا يقبلون الخلاص المؤجّل نتيجة تدحرج التّرقيم السّيادي لتونس لدى مؤسّسات التّرقيم التي استهزأ بها الرّئيس سعيّد في خطاب شهير.

هي بلد يفرّ منه مواطنوه بالآلاف شهريّا (حوالي 20 ألفا منذ بداية السّنة) مستقلّين قوارب الموت جريا وراء حلم الحياة الكريمة بعيدا عن بلاد أصبحوا فيها غرباء وتعاملهم سلطاتها كملفّات أمنيّة.

وفي الأثناء تطفو على السّطح صراعات أجنحة السّلطة وتنافس الوزراء المقرّبين من الرّئيس، وتمرّد النّقابات الأمنيّة -غير المسبوق- على سلطة وزير الدّاخليّة المنشغل بتوظيف الأجهزة الأمنيّة لمحاصرة خصوم الرّئيس وتلفيق القضايا لهم.

رئيس حالم وحكومة عاجزة و معارضة منقسمة:

منذ أشهر قال الرّئيس إنّه يحسّ بأنّه يعيش في كوكب آخر، ويبدو أنّ ما وصف به نفسه هو أصدق ما قيل فيه، فهو مشغول بغير ما يشغل بقيّة مواطنيه، فبينما تتدهور الأوضاع الماليّة بنسق متسارع، ويتصاعد الحنق الشّعبيّ، يبدو مهووسا بنظريّة المؤامرة لا يرى في غيرها تفسيرا لاستمرار تدهور الأوضاع الاقتصاديّة، ويعود آخر ما اتّخذه من "قرارات" إلى 30 آذار/ مارس 2022، حين أصدر  مراسيم ثلاثة تتعلّق بـ"الصّلح الجزائي" و"الشّركات الأهليّة"، و"مكافحة الاحتكار"، ولاقت حملة كبيرة من السّخرية و التّندّر ممّا جعلها تبقى حبرا على ورق.

 أمّا الحكومة فالواضح أنّ ظلّ الرّئيس المخيّم عليها واعتماد الولاء بدل الكفاءة في اختيار أعضائها قد جعلا منها مجرّد مجلس لموظّفين سامين بلا رؤية و لا برنامج ولا قدرة على تحسين معيشة المواطنين في أيّ من مجالات الحياة، فوزيرة العدل مشغولة بإدارة حرب الرّئيس ضدّ القضاة و تلفيق القضايا لمعارضيه بالتّعاون مع زميلها وزير الدّاخليّة المشغول بدوره بمواجهة الحراك الاجتماعي المتزايد وتعاظم معدّلات الجريمة بالإضافة لمعركته مع النّقابات الأمنيّة، أمّا الوزارات "الاجتماعيّة" فلا هي أرضت المواطنين ولا نجحت في تفادي غضب النّقابات ممّا يوحي بخريف إضرابات ملتهب.

 كلّ هذا وسط أخبار متواترة عن قرب إصدار قرار قضائيّ بإلغاء المؤتمر الاستثنائيّ للمنظّمة النّقابيّة القويّة "الاتّحاد العام التّونسي للشّغل"، بما يترتّب عنه إزاحة القيادة الحاليّة وتعويضها بقيادة أكثر "تفهّما" تجاه سلطة سعيّد، وهو خيار إن مضت فيه سلطة سعيّد فعواقبه ستكون حتما وخيمة.

أمّا المعارضة فهي بالأحرى معارضات، ويبدو أن أقصى ما تقدر عليه هو اتّحاد الموقف مادام اتّحاد الموقع شديد الصّعوبة.

فبعض مكوّنات خماسي الأحزاب الدّيمقراطيّة (حزب العمّال، والتّيّار الدّيمقراطيّ، والتّكتّل، والجمهوري، والقطب) ترفع فيتو صارما على أيّ تحالف يشمل حركة النّهضة الطّرف الأقوى في "جبهة الخلاص الوطني"، وهي أبرز مكوّنات المعارضة لقيس سعيّد، أمّا "الحزب الدّستوري الحرّ"، فهو الأكثر راديكاليّة ولا يضاهي غضبه على قيس سعيّد، الذي غيّر قواعد اللعبة في الظّرف الذي كانت استطلاعات الرّأي ترشّح الدستوريّ الحرّ للفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة، إلاّ نقمته على كلّ منظومة الثّورة التي أنهت حكم النّظام القديم الذي ينتمي إليه وخاصّة الإسلاميّين بكلّ تلويناتهم وكلّ من "يجرؤ" على التّحالف معهم.

لا شيء في الوضع التّونسيّ يخضع للمنطق العاديّ للتّحليل السّياسيّ فأبرز خصوم سعيّد هو سعيّد نفسه، ورغم أنّ أخطاءه لا تدخل تحت حصر، فالسّؤال الأهمّ ليس بالضّرورة مدى قدرة معارضته على استثمارها، بل مدى القدرة على تفادي السّيناريو الأسوأ وهو انفلات الأمور بشكل فجائيّ يتحوّل فيه تذمّر المواطنين وشكواهم من شظف العيش إلى انتفاضة هادرة، وأن لا يقتصر الانهيار على اقتصاد البلاد فحسب، بل يطال أهمّ مؤسّساتها نتيجة انعدام الكفاءة و غياب المسؤوليّة لدى حكّام تونس الجدد.

2
التعليقات (2)
محمود عمر
الأحد، 11-09-2022 06:26 م
مقال أكثر من رائع
علي العرضاوي
السبت، 10-09-2022 11:21 ص
الامر قد يوؤل الى حرب اهلية مثلما حدث في الجزائر تسعينات القرن الماضي والسبب هو نفسه الاقصاء وليبيا وهو نفس السبب