قضايا وآراء

الإنسان في القرآن (22): الإنسانُ القادرُ أم الإنسانُ العاجز!

أحمد أبو رتيمة
 قصارى إبداعِ الإنسان هو اكتشاف السننِ التي أودعَها الله في الوجودِ وتسخير هذه السننِ لنفعِه.. (الأناضول)
قصارى إبداعِ الإنسان هو اكتشاف السننِ التي أودعَها الله في الوجودِ وتسخير هذه السننِ لنفعِه.. (الأناضول)
انفجرت غواصةُ تايتان على عُمقِ أربعةِ آلافِ مترٍ في المحيطِ الأطلنطيِّ بسببِ قوَّة ضغطِ الماءِ بينما كانت تقلُّ خمسةً من الأثرياءِ المغامرين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى حطام سفينة تايتانك التي غرقت بدورِها في أول رحلةِ إبحارٍ لها عام 1912 .

أثارت هذه الحادثة مقارناتٍ بين كفاءة المخترعِ الإنسانيِّ وبين خلقِ الله في أعماقِ البحارِ إذ تعيش كائناتٌ بحريَّةٌ في أعماقٍ سحيقةٍ من البحارِ وتملك من القدرة والكفاءة ما يؤهلها لمواجهة ظروف قاسية للغاية، حيث يصل الضغط الجوي للمئات من بارات الضغط، ونسب الأوكسجين قليلة، إلى جانب قلة الطعام وانعدام ضوء الشمس والبرد القارس"، فمثلاً هناك خمسة أنواعٍ من القروش تستطيع أن تصل إلى عمق 11 ألف مترٍ.

ومن على منبرِ الجمُعةِ سعى الخطيبُ جاهداً لإثباتِ عجزِ الإنسانِ وهو يفسِّرُ آية القرآن: " ِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ..

فقالَ إذا كانت الأرصادُ الجويَّة تتنبأ بسقوط الأمطارِ في الأيام القادمةِ فإنَّها لا تستطيع التنبؤَ بدقَّةٍ في أيِّ موضعٍ ستسقط هذه الأمطار، وإذا كانت أجهزة الكشف الطبيَّة تخبر عن جنس الجنين إن كان ذكراً أم أنثى فإنَّها لا تستطيعُ التنبُّؤَ بأقدارِه ومصيرِه.

مثلُ هذه المقارناتِ تبخِّسُ الإنجازاتِ التي حقَّقها الإنسانُ، وهي تتجاهل الإنجازاتِ العظيمةَ فإذا كانت هذه الغواصة قد غرقت بسبب سوءِ تقدير قوة احتمالها لضغطِ الماءِ فإنَّ آلاف الغواصاتِ من قبلها غاصت في أعماق البحارِ ثم رجعَت بسلامٍ!

 والسؤالُ الذي تثيرُه مثلُ هذه المقارنات: هل الطريقُ إلى إثباتِ عظمةِ الخالقِ سبحانَه وقدرته تقتضي تبهيتَ قدراتِ الإنسانِ وإبداعِه؟ إنَّ هذا الإنسان قد طارَ في السماءِ وغاص في البحارِ وحطَّم حدود الجغرافيا وذلَّل قوى الطبيعةِ لسلطانِه وعرفَ من أدواتِ التمكينِ والإعمارِ في الأرض ما يقرِّبنا من فهمِ لماذا سجدت الملائكةُ له!

هل الطريقُ إلى إثباتِ عظمةِ الخالقِ سبحانَه وقدرته تقتضي تبهيتَ قدراتِ الإنسانِ وإبداعِه؟ إنَّ هذا الإنسان قد طارَ في السماءِ وغاص في البحارِ وحطَّم حدود الجغرافيا وذلَّل قوى الطبيعةِ لسلطانِه وعرفَ من أدواتِ التمكينِ والإعمارِ في الأرض ما يقرِّبنا من فهمِ لماذا سجدت الملائكةُ له!
والعجيبُ أنَّ تفسير الدين بأنَّه يعتمد على إثباتِ ضعفِ الإنسانِ وعجزِه هو موقفٌ يشتركُ فيه المكذِّبون وفريقٌ من المتديِّنين، فأمَّا المتديِّنون فيظنُّ فريقٌ منهم أنَّ إثباتَ عجزَ الإنسانِ يثبت حاجتَه إلى الدينِ والعبوديَّة لله تعالى، وأمَّا المكذبون فيقولون إن الدين يريد الإنسان عاجزاً ضعيفاً لذلك يلزم أن نتحرَّر من أغلالِه ونفلت من أحكامِه حتى ننطلقَ إلى القوَّةِ والإبداع!

لكنَّ الحقيقةَ البسيطةَ أنَّ الإنسانَ بكلِّ ما يتجلى فيه من إبداعٍ وقدراتٍ هو من خلقِ اللهِ البديعِ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) (الصَّافَّات).

فالإنسانُ ليس مقابلاً للهِ حتى تعقد المقارنة بين قدرتِه وقدرةِ الله، بل هو داخل حدودِ قدرةِ اللهِ وعلمِه: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ .. (255) البقرة.. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) النَّحل.. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) (العلق).

إنَّ قصارى إبداعِ الإنسانِ هو اكتشاف السننِ التي أودعَها الله في الوجودِ وتسخير هذه السننِ لنفعِه، لكنَّ الإنسانَ لا يخترع قوانين جديدةً في الطبيعةِ فهو مقهورٌ لقوانينِها المحكمةِ التي لا تتبدَّلُ، أمَّا سلطةُ الإنسانِ فهي تنبع من العلمِ بهذه القوانين والعمل داخل حدودِ شروطِها، فالغوّاصة مثلاً حتى تنجح فلا بُدَّ من العلمِ بقوانين ضغط الماءِ وقدرةِ المواد على الاحتمالِ وعوامل التآكلِ والتعريةِ، والطائرة التي اخترعها الإنسان يجب أن تراعي قانون الجاذبيَّةِ وضغط الهواءِ، والأبراج التي يشيِّدها الإنسان يجب أن تراعي قوانين تماسك مواد البناءِ ومقاومتها، وهكذا فإنَّ أيَّ اختراعٍ إنسانيٍّ هو كشفٌ لجانبٍ من قوانين الطبيعةِ وآليَّات عملها فإذا عرف الإنسان كيف يعمل القانون عرف كيف ينتفع منه وكيف يحذر من عاقبةِ الخروجِ عنه!

في الرؤية القرآنيَّةِ فإنَّ الله تعالى يزكِّي الإنسانّ القادرَ وليس الإنسانَ العاجزَ، لأنَّ الإنسان القادر هو مجلى إبداعِ الله وظهورِ سرِّه، فالإنسان القادر قد قرَّب إلينا فهمَ أسماء الله تعالى وصفاتِه مثل الخالقِ والقادرِ والمحيط  والسميعِ والبصيرِ، فقد صار الإنسان بالعلمِ قادراً وسميعاً وبصيراً، بما يناسب حدودَ بشريَّتِه، أمَّا الإنسان العاجز فهو معطَّل القدراتِ والإمكاناتِ لا يقدرُ على شيءٍ وهذا من معاني الكفر بنعمةِ الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) (البقرة).

إنَّ العقلَ والقدرة على الإبداع المكنونة في الإنسان هي نعمة الله التي وهبها هذا الإنسان، وإنَّ مقتضى شكر هذه النعمة إظهارُها، فمن عطَّل عقله وقدراتِه المخبوءة فقد بدَّل نعمةَ الله من بعدِ ما جاءته.

إنَّ قصارى إبداعِ الإنسانِ هو اكتشاف السننِ التي أودعَها الله في الوجودِ وتسخير هذه السننِ لنفعِه، لكنَّ الإنسانَ لا يخترع قوانين جديدةً في الطبيعةِ فهو مقهورٌ لقوانينِها المحكمةِ التي لا تتبدَّلُ، أمَّا سلطةُ الإنسانِ فهي تنبع من العلمِ بهذه القوانين والعمل داخل حدودِ شروطِها
الله تعالى القويَّ المستغني القهارَ لا يخافُ من قدرةِ الإنسانِ وإبداعه حتى يقيِّد قدراتِه، بل إنَّ الله تعالى يمنح هذا الإنسان أدواتِ القوة ويستخلفه في الأرض ويبلوه بهذه القوَّة هل سيستعملها لإصلاح الأرض أم إفسادها:

يستعمل القرآنُ تعبير "سخَّر لكم" فالكونُ بكلِّ مكوِّناته مسخَّرٌ للإنسانِ، والإنسانُ مدعوٌّ لاكتشاف قوانينه حتى يذلِّل هذا الكونَ لنفعِه:

وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) إبراهيم

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .. (20) لقمان

ومشهد الاستخلاف الأول بالغُ الدلالةِ في إعطاء الإنسان أدوات القوةِ والتمكينِ في الأرض:هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) البقرة

يسبق قصة استخلاف آدم قول القرآن "خلق لكم ما في الأرض جميعاً" فالأرض مهيَّئةٌ لاستقبالٍ سيِّدها، ومع أنَّ هذا الكائن المستخلف يفسد في الأرض ويسفك الدماءَ بحكمِ حريَّةِ الاختيار الممنوحةِ له، إلَّا أنّ علمَ الله تعالى فيه أنَّه يحمل السرَّ الذي سيجلِّي نفخةَ روح الله تعالى فيه:فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) الحِجر

هذه النفخة من روح الله المودعة في فطرة الإنسان تفتح أمام هذا الكائن إمكانات لا متناهية للترقي، وللقدرة الكامنة على الإبداع والخلق وإعمار الكون، وتحرك فيه كوامن القوة والحياة.

بهذه النفخة من روح الله كان هذا الكائن قلقاً بينما غيره من الكائنات في سكون وتصالح مع طبيعتها، إن هذا الكائن ليس مستقرَّاً لأنه يعيش على الأرض بينما تختلج نفسه رغبات سماوية، إن الطاقة الروحية الكامنة بين جنباته تكاد أن تنفلق، يدفعها القلق للكدح من أجل العروج إلى السماء، لذلك كان أعظم الظلم هو ظلم الإنسان لنفسه ، أن يدفن روح الله في داخله وأن يخلد إلى الأرض فيغفل عن رسالتِه الكونيَّةِ وهي أنَّه مهيَّأٌ لإعمار الأرض والعروج إلى السماء .

كان المشهدُ الأولُ في محاجَّة الملائكةِ على استحقاق الإنسان الاستخلاف في الأرض هو إظهار قابليَّته للعلمِ وفكِّ ألغازِ الحياة، وهي الميزة التي لم يعطها الله الملائكة الذين قالوا " لا علم لنا إلا ما علَّمتنا" :

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) البقرة

كلُّ ما بلغه الإنسان وسيبلغه من درجاتٍ في العلمِ وتسخيرِ الطبيعةِ هو ثمرةُ "وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها" فالأسماء هي مفاتيح اكتشاف الحقائق المكنونة في الخلقِ والتعمق في أسرارِها وتسخيرها.

حين يضع الإنسان اسماً لمخلوقٍ ما وليكن "شجرة" فهذا مدخلٌ إلى تصنيفِ كلِّ أشجارِ العالَم وتمييزها عن غيرها من المخلوقات بمعرفة الخصائص المميِّزةِ لها، والعلمُ في جوهرِه ليس أكثرَ من التصنيفِ والتمييزِ وفهم الخواص والقوانين التي يتفرَّد بها كلُّ اسم عن غيرِه من الأسماء.

لكنَّ القرآنَ الذي يبيِّن تكريمَ الإنسانِ وتسخير المخلوقاتِ له فإنَّه يؤكِّد أيضاً الضعف الوجوديَّ لهذا الإنسان واحتياجه الدائم إلى الله:وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) (النِّساء).. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) (الأنعام).. يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) (الحج).

يعالجُ القرآنُ الطبيعةَ المركَّبةَ للإنسانِ من جوانبِها المتعدِّدةِ، فالإنسانُ الذي ذلَّل المخلوقاتِ لسلطانِه هو أيضاً الإنسانُ الذي يقتله فيروسٌ لا يُرى بالعينِ المجرَّدة وهو الإنسان الذي يموتُ بخطأٍ بسيطٍ لا يلقي له بالاً، وهو الإنسان الذي يغزوه الوهن والضعف فلا يعلم من بعدِ علمٍ شيئاً، وهو الإنسانُ الذي تقهره الأقدار فلا يملك لنفسِه ضراً ولا نفعاً ولا تحويلاً.

لذلك فإنَّ تذكير الإنسان بضعفِه وعجزه وافتقارِه الدائمِ إلى اللهِ واهبِ القوَّةِ والرحمةِ، الذي يقدّر الأقدار وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه، هو مقتضى العقلِ وحصانةٌ للإنسانِ من الوهمِ والغرورِ، فإيمان الإنسانِ بقدراتِه لا يعني أن يلقي نفسَه من علوٍّ شاهقٍ دون احتياطات السلامةِ ويقول إنني واثقٌ من نفسي! إنَّ من يفعل ذلك لا ريبَ أنَّه أحمقُ، فالإيمان بقدراتِ الإنسانِ يعني أن يفهم قوانين الطبيعة القاهرةِ وأن يتعاملَ معها وفق شروطِها.

لذلك يحذِّر القرآنُ الإنسانَ من الأمنِ المتوهمِ الذي ينسيه حدودَ قوَّتِه البشريَّة: "أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ" (17) (المُلك).

مثل هذه الآيات تذكِّر الإنسان باحتمالات الأخطارِ الكامنة في الطبيعة من حولِه، وهي احتمالاتٌ واقعيَّةٌ يعرفها المؤمن والكافرُ مثل حدوثِ زلزالٍ يخسف الأرضَ أو العواصف والأعاصير، وأهميَّة هذا التذكيرِ أنَّه يوقظ الحذرَ الإيجابيَّ في نفسِ الإنسان ويحصِّنه من الغفلةِ والوهم الذي ينسيه الحقائق الموضوعيَّة: " وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " .

في مواجهة الأخطار الحقيقيَّةِ التي تحيط بالإنسانِ من كلِّ جانبٍ فإنَّ مقتضى العقلِ أن يتوجَّه الإنسان إلى الله ويسأله الرحمة والإعانة، لذلك فإنَّ معنى ضعف الإنسان وافتقاره إلى الله ليس نقيض إطلاق قدرات الإنسان، إنَّما هو نقيضُ الغرور الفارغ.

إنَّ تذكير الإنسان بضعفِه وعجزه وافتقارِه الدائمِ إلى اللهِ واهبِ القوَّةِ والرحمةِ، الذي يقدّر الأقدار وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه، هو مقتضى العقلِ وحصانةٌ للإنسانِ من الوهمِ والغرورِ
الوهم الفارغ بامتلاكِ القوَّةِ والقدرةِ لا يبنيه الإنسان على أساس الحقائقِ إنما يبنيه اتباعاً للهوى والظنِّ، لذلك تقول آياتُ سورة العلق:كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)

لم تقل "أن استغنى" لأنَّ الإنسان في حقيقةِ حالِه مفتقرٌ دائماً إلى مصدرٍ أعلى للقوَّةِ والرحمةِ حتى يبقى على قيد الحياةِ وحتى يتجنَّب احتمالاتٍ لا نهائيَّةً من الأخطار في كلِّ لحظةٍ، لكنَّ كلمة "رآه" تعني أنَّه شعورٌ ذاتيٌّ يتوهم الإنسان به أنَّه في حالة استغناء فيطلق العنان لنفسه لتفجر وتطغى وتتجاوز تواضعها البشريَّ: "يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ"، "أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ "

هذا الوهم الفارغ الذي ينسي الإنسانَ حدود قدراته الموضوعيَّة هو مرض قومِ عادٍ:فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً .. (15) (فصِّلت)

ولا يزال هذا المرض يصيب الإنسانَ في كلِّ زمانٍ، فقد علَّق الرئيس الأمريكيُّ في يوليو 2022 على الصور التي بثَّها مرقاب جيمس ويب لأولِ مرَّةٍ من أعماق الفضاء السحيق قائلاً:  "لا شيء يضاهي قدراتنا"، ثمَّ أعاد التأكيد بزهوٍّ: "لا شيء أكبر من قدراتنا"!

إنَّ قدراتِ مرقاب جيمس ويب آيةٌ على قدراتِ الإنسانِ وإبداعه، لكنَّ كلمة "لا شيء أكبر من قدراتنا" تؤشِّرُ على سيطرة الغرورِ وهي ليست مبنيَّةٍ على العقلِ ، إذ إنَّ الواقع الموضوعيَّ يقول إنَّ الإنسان محاطٌ بالأخطارِ من كلِّ صوبٍ وإنَّ الوجودَ الإنسانيَّ ذاتهٌ هشٌّ وقد يكون مهدداً بالانقراضِ في أيِّ لحظةٍ، فلا ضمانةَ لأن يضرب كويكبٌ كوكب الأرض فيفني الحضارة الإنسانيَّةَ أو أن تقود التغيرات المناخية إلى غرقِ الأرض أو يبعث فيروس فيهلك الملايين!

يريد القرآن الإنسان القويَّ ذا الأيدي والأبصار الذي ينطلق في الأرضِ إبداعاً وإعماراً وإصلاحاً، لكن ألا ينسى حدودَه وأن يعلم أنَّه مهما أوتي من العلم فلن يستغني عن الله وسيظل في حالة افتقارٍ دائمٍ إلى الله يسأله القوَّة والمدد. 
التعليقات (2)
أبو فهمي
الخميس، 03-08-2023 06:36 ص
خلق الله جل جلاله الانسان لأسباب لا يعرفها غيره مع باقي المخلوقات من """"" النواة """"" الى الديناصورات وكل خلق من هذه المخلوقات له مسيرة حياة تختلف اختلافا كليا عن البقية فجمعيها لها """"" عقل """"" تفكر به لتسير بحياتها ولها مزايا تختلف بها عن غيرها ومن هذه المخلوقات "" الانسان "" فقد ميزه رب العالمين بعقل وتفكير """"" منفتح """"" من بين جميع المخلوقات وعلمه """" ما لا يعلم """" كباقي المخلوقات أيضا اضافة الى """"" المنطق """"" الذي يميز به بين الخير والشر. أما بالنسبة للغواصة فهي ليست المرة الأولى التي """ تغوص بها الى هذه المسافة وتمت تجربتها حتما وخاصة أن """""" مالكها """""" من ركابها فالمفروض أن السلامة فيها تكون مضاعفة ولكن """""" انفجرت """""" لسبب ما يقولون أنه الضغط وأعتقد أنها """" كذبة فاشلة """" فالذين فيها ليسوا أشخاص عاديين وقد يكون سبب """" التفجير """" واحد منهم !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! كما تم """" تفجير التايتانيك الأصلية """""" التي غاصوا """" للفرجة عليها """" وهي آخر الأخبار عن سبب غرقها حيث كانت تحمل """""""" عشرات """""""" من كبار الرأسماليين العالمينن في حينه اجتمعوا في السفينة """"""" فحق عليها الغرق """""". الحمد لله أن لا طرف لنا فيها والا لكانوا ادعوا أن القاعدة أو النصرة أو داعش أو الاسلاموفوبيا هي التي """""" فجرتها """""" فنفدنا بريشنا!.
حسام أهل
الأربعاء، 02-08-2023 08:03 م
"إنَّ قصارى إبداعِ الإنسانِ هو اكتشاف السننِ التي أودعَها الله في الوجودِ وتسخير هذه السننِ لنفعِه، لكنَّ الإنسانَ لا يخترع قوانين جديدةً في الطبيعةِ فهو مقهورٌ لقوانينِها المحكمةِ التي لا تتبدَّلُ، أمَّا سلطةُ الإنسانِ فهي تنبع من العلمِ بهذه القوانين والعمل داخل حدودِ شروطِها"