مقالات مختارة

الغنوشي وفلسطين.. ما فوق الحب والالتزام

أحمد عبد النبي
حمل الغنوشي همّ فلسطين منذ شبابه
حمل الغنوشي همّ فلسطين منذ شبابه
أن تقول إن الغنوشي يحب فلسطين، فأنت تخبر عن شيء يعيش في وجدان المسلمين جميعا وليس العرب فقط.. بله التونسيين.. أن تقول إن الغنوشي دافع عن فلسطين، واعتبرها قضيته وقضية حركته المركزية، ودعا إلى أن تكون هي القضية المركزية للأمة، فأنت تتحدث عن مسألة يشاركه فيها العشرات بل المئات من المفكرين والسياسيين الإسلاميين وغيرهم، وربما كان بعضهم خارج دائرة أمتنا الإسلامية من المناضلين من أجل الحرية مشرقا ومغربا.

لكنك لا تستطيع أن تقول إنه مجرد فرد في جم غفير، ممن تجاوزت علاقتهم بفلسطين مجرد حبها بل عشقها والالتزام بالدفاع عنها والانتصار لها. إنه مفكر وزعيم من زعماء التيار الإسلامي، سطع نجمه منذ ثمانينات القرن الماضي ولا زال مشعا في سماء عالمنا العربي الإسلامي بل في العالم، تربطه بفلسطين علاقة متميزة وبارزة أعطاها من عقله الناهض وروحه المتوثبة وعزمه الشديد وقوله السديد ما تستحقه كقضية الأمة المركزية.

حمل الغنوشي كسائر التونسيين همّ فلسطين منذ شبابه. فعلاقة المغاربة بفلسطين علاقة متجذرة في قدمها، يشهد عليها باب المغاربة في الحرم القدسي، ويشهد عليها ربع جيش صلاح الدين الذين شاركوه فتحها ثانية، ويشهد عليها دور الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي ترأس المؤتمر الإسلامي الأول في فلسطين في فترة تغريبه عن بلده تونس، وتشهد عليها هبّة التونسيين للدفاع عنها سنة 48 حيث انطلقوا فرادى وجماعات للمشاركة في الجهاد دفاعا عنها، كما تشهد عليها مشاركات التونسيين في الحركات الثورية الفلسطينية وآخرهم الشهيد صانع الطائرة المسيرة في كتائب القسام محمد الزواري.

فقلوب التونسيين معلقة بالقدس وفلسطين منذ اندلعت ثورات أبنائها بعد الانتداب البريطاني. وقد ساهم المشائخ الزيتونيون في الكتابة عنها والتعريف بقضيتها وتحريك الجماهير للانتصار لها ودعمها. ولك أن تراجع الصحافة التونسية منذ الثلاثينات ومواكبة كتابها وخاصة الزيتونيين لثوراتها كالشيخ المختار بن محمود والفاضل بن عاشور ومحمد الصالح النيفر والشيخ عبد القادر سلامة الذي قاد حملة جمع التبرعات للمجاهدين. ويذكر المرحوم محمد مزالي رئيس الحكومة التونسية المشهور بفخر واعتزاز، أن تونس كانت الدولة الأولى التي أمدت منظمة التحرير بشحنة سلاح أواخر الستينات لما كان وزيرا للدفاع وذلك بشهادة الفلسطينيين أنفسهم.

يذكر الشيخ راشد للدلالة على تمكن القضية الفلسطينية من مهج ووعي التونسيين، أن "التونسيين يختلفون في كل شيء ولا يُجمعون إلا على حب فلسطين والانتصار لها".

لذلك ليس غريبا أن كانت هبة الجماهير التونسية انتصارا لغزة، تكاد تخرج من كل مدينة وقرية، من شمال تونس إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. كما أن التونسيين من أنشط الشعوب العربية دفاعا عن فلسطين في السوشال ميديا.

فلسطين.. نداء الأعماق

المتتبع لسيرة الغنوشي، والعارف بتركيبه النفسي، لا يخالطه شك أن قضية فلسطين هي التي حملته على الاغتراب شابا، برغم أنه قد أنهى تعليمه الزيتوني الذي خول له الانخراط مبكرا في الوظيفة.

ترك التعليم وسافر لمصر ثم إلى سوريا، وانخرط في التيار القومي الناصري وكانت قضية فلسطين همّه.. وكانت فلسطين القضية التي يتنازعها "شركاء متشاكسون".. كل يدعي الوصل بها.. وكل يدعي أنه الأقدر على حلها.. وتلك مفارقة.. فعوض أن يتوحدوا حولها.. تنازعوا عليها وكأنها غنيمة.. مع أنها سليبة.. فزادوا عنها بُعدا وعليها عنتا.

لكن حسه المرهف ووعيه الثاقب، جعله يغادر التيار القومي قبل سنة من هزيمة 1967. وكأنما أدرك أن هذا التيار الذي غدا ساحة للديكتاتورية وللمذاهب الوافدة المنبتة عن ضمير الأمة وفطرتها ومقوماتها التكوينية، لا يمكن أن تجد القضية الفلسطينية انتصارها على يديها. هكذا إذا.. ترك التيار القومي بفسيفسائه، ويمم وجهه شطر التيار الإسلامي، الذي برغم أنه محاصر بين السجون والمنافي، إلا أنه وجد فيه الأقرب إلى روحه وعقله، كما وجد في تاريخه صفحات مشرقة في الدفاع عن فلسطين والجهاد لتحريرها، منذ ثورة القسام إلى حرب 48 إلى تأسيس منظمة فتح التي كان بعض الإخوان من مؤسسيها الرئيسيين.

لم تكد عشرية السبعينات تنقضي، وهي العشرية التي تركز فيها جهد الغنوشي على تأسيس حركته الإسلامية التونسية، وفي لحظة مفصلية من تطورها من حركة دعوية إلى حركة سياسية، دشن الغنوشي مرحلة جديدة تحتل فلسطين فيها قلب الرحى.

فلسطين آية من الكتاب

في صيف سنة 79 وهو الصيف الذي شهد المؤتمر الأول (السري) للجماعة الإسلامية في تونس (حركة الاتجاه الإسلامي ثم النهضة فيما بعد)، انطلق الغنوشي يؤسس مقولاته أو بالمصطلحات الجديدة "جمله السياسية" حول فلسطين.

والغنوشي واع بأن العمل الصحيح يبدأ من التأسيس الفكري الصحيح. وأن كل مرحلة تحتاج لغتها الجديدة وجملها السياسية المتميزة وقاعدتها الفكرية المتماسكة.. تحتاج وعيا جديدا ومتجددا.

ومن هنا كان مقاله المؤسس حول القضية الفلسطينية في مجلة المجتمع التونسية صيف 79، التي لم يصدر منها إلا أقل من 10 أعداد، حيث صادرتها السلطات التونسية ومنعت صدورها نهائيا.

كتب الغنوشي عن فلسطين التي "تكسرت على صخرتها كل مشاريع التغريب والتخاذل والاستسلام" وليختم المقال بالمقولة الشهيرة: "فلسطين آية من الكتاب.. من حفظها فقد حفظ الكتاب، ومن ضيعها فليس له حظ من الكتاب". تلك المقولة التي انتشرت في الآفاق ولا زالت كأنها كتبت اليوم. لقد أعطت المقولة للقضية بعدها الحضاري، ومن ثم حلها الذي لا يمكن أن يكون إلا في ذلك الإطار. وكان أول من استفزت تلك المقولة أبناء التيار الإسلامي، حيث رفعت أمامهم الإشارة الحمراء.. ليس لدعوتكم من حظ إن هي غفلت عن فلسطين.

لا يجادل أحد في أهمية القضية الفلسطينية لدى الإسلاميين، ولكن الحديث عن مركزيتها في مشروع الإحياء الإسلامي يعود الفضل فيه إلى قلة من المفكرين والقادة الإسلاميين على رأسهم الغنوشي.

حين كانت الحركة الإسلامية منشغلة بالدعوة والتربية باعتبارها المدخل الضروري لما سواها، وكان ذلك حتى في فلسطين نفسها، لفت الغنوشي الانتباه إلى أن الدعوة والتربية التي لا تجعل من القضية الفلسطينية قضيتها المركزية ستكون دعوة وتربية خارج زمانها وبعيدة عن هموم أمتها الحقيقية.

فلسطين.. والخلل المنهجي

في صيف 80 اندلع صخب عارم في العالم العربي بسبب قرار الصهاينة جعل القدس عاصمة إسرائيل. كان الغنوشي في زيارة إلى ولاية (محافظة) قبلي بالجنوب التونسي لحضور زفاف أحد قيادات الحركة في المنطقة، وفي المحاضرة التي ألقاها بالمناسبة بأحد مساجد المدينة، سئل عن موقفه من قرار جعل القدس عاصمة إسرائيل. فأجاب الغنوشي إجابة مثلت لي يومها فتحا منهجيا، لدرجة أنني نسيت كل ما في المحاضرة ولم يبق عالقا بذهني للآن إلا جوابه عن ذلك السؤال. قال الغنوشي: إن العقل المسلم مصاب بخلل منهجي يجعله غير قادر على ترتيب الأولويات وفهم الأصول من الفروع، فلسطين كلها محتلة ونحن نقيم الدنيا ولا نقعدها على جعل القدس عاصمة إسرائيل!

القضية الفلسطينية.. على مفترق طريقين

في سجن برج الرومي (منتصف 81 – منتصف 84)، تفرغ الغنوشي للتأسيس الفكري لحركته، ودون أن يغفل عن متابعة مجريات الأحداث والتوجيه السياسي، حيث لعبت نصوصه التي يتم تسريبها خارج السجن، دورا كبيرا في تأثيث الخطاب السياسي للحركة في القضايا السياسية والاجتماعية وتوعية القواعد والأنصار.

نالت القضية الفلسطينية اهتمامه، وكتب خلال تلك الفترة كتابين مهمين. الكتاب الأول هو "القضية الفلسطينية على مفترق طريقين- دروس من الثورة الفلسطينية". وقد تضمن الكتاب عرضا مركزا حول تاريخ القضية الفلسطينية منذ الانتداب البريطاني، ودور منظمة التحرير في تنمية الشعور الوطني الفلسطيني، والعرب وفلسطين والعمل العربي المشترك بالتركيز على مؤتمر فاس مقدمات ونتائج، والأمريكان والقضية الفلسطينية، ومصير القضية الفلسطينية وأخيرا دروس من الثورة الفلسطينية.

وأول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الكتاب برغم اختلاف الزمن إلا أن خلاصاته تجعله وكأنه كتب الآن.. نعم الآن.. الجديد فقط هو ما كتب عنه في كتابه الثاني ودعا إليه.. الجديد هو المقاومة الإسلامية التي اعتبر أن عودتها لأخذ زمام المبادرة واجب الوقت.

يقول في فصل مصير القضية الفلسطينية: "ما أنا على يقين منه، هو أن المنظمة إذا لم تقدم بشجاعة على تقييم مسارها والتخلي عن استراتيجية التعايش مع الأنظمة، فإن الثورة الفلسطينية لن تفشل وتنتهي، وإنما المنظمة هي التي ستتمزق من داخلها لتحل محلها منظمة أو منظمات أخرى تصحح المسار وتأخذ بالثأر وتمسح العار".

ويقول: "إن الفلسطينيين جزء من أمة، وإن الأرض التي يناضلون من أجلها تقع في سويداء قلب كل فرد منها هي أمة تكاد تكون متناهية في عمقها وأبعادها، على نحو أن هزيمة أو أكثر لا تذهب بها. بل إن الهزائم التي حاقت بها عبر مئات السنين لم تؤثر في حيوتها ولم تفت من وجودها، بل تحملتها واستخلصت منها دواءها وخططها المستقبلية، فتحاملت على نفسها ونهضت فقلبت كل حسابات خصومها، وسوت كل الأوضاع التي قلبوها، وانتقمت وطهرت أرضها من الغزاة. فكان للهزائم مفعول الصعق الكهربائي يوقظها، يعيد الوعي إليها. وأنه سيكون كما يقول الأخ أحمد بن بلا (هناك دائما مسلم ينهض لسحق الخونة)".

ويقول في خاتمة الكتاب: "إن فلسطين محور الصراع الدولي والحضاري، فينبغي أن تكون قضيتنا المركزية وخطنا الأول في مواجهة الإمبريالية وعملائها، وتكتيل كل القوى الثورية، والبوتقة التي تحترق فيها بقايا ومخلفات انحطاطنا وعجزنا وكسلنا وتثاؤبنا الحضاري وخمولنا الحركي، ويعاد فيها سبك مجاهدينا ورص صفوفنا للانطلاق في البناء الحضاري الإسلامي الجديد".

بداية الطريق..

كتب الغنوشي كتابه الأول على وقع حصار بيروت. أما كتابه الثاني فقد كتبه بعد حرب المخيمات التي سقطت فيها كل أقنعة الأنظمة العربية والتنظيمات الفلسطينية التي ارتبطت بها. ولم تجد حركة فتح إلا الحركة الإسلامية في طرابلس لتحميها وتدافع عنها. وقد وجد الغنوشي في ما حدث إرهاصات ما يدعو إليه.. واعتبره بداية الطريق. الطريق الصحيح للقضية الفلسطينية، بعد أن ضلت طريقها، وأوقعتها تحديات الوجود تحت ضغط حسابات الأنظمة، التي اخترقتها من أجل تفتيتها والتلاعب بها، ووضعها في قطار الاستسلام الذي دخلته في ما بعد، وانتهت بزعيمها شهيدا في صحوة عقل وروح، بينما يستمر خلفه في موقف مخز فاضح رغم أن تباشير النصر قد لاحت.

كان الكتاب كله تأكيد على أنه ليس للقضية الفلسطينية من أمل إلا بالتحامها بالإسلام وبقواه الحركية، وأن على الحركة الإسلامية أن تخرج من سباتها وأن تتقدم بجرأة وثبات لتحمل مسؤوليتها.

وكانت خاتمة الكتاب: فليحمل القضية أصحابها..

وصلت الرسالة..

قال لي أحد القيادات الإسلامية الفلسطينية سنة 88 إبان الانتفاضة: "لقد كان للاتجاه الإسلامي في تونس فضل كبير علينا، حيث إننا استفدنا كثيرا من كتابات الشيخ راشد، سواء منها التي تتعلق بالقضية الفلسطينية أو بغيرها، بل وأقول إن مواجهتكم لبورقيبة ووسائل النضال التي اعتمدتموها في الشارع كانت ملهمة لنا في انتفاضة الحجارة، حيث اعتمدنا بعض أساليبكم وكانت ابتكاراتكم حافزا لنا للابتكار، كما أعطتنا درسا مهما أنه يمكن لنا حتى عند عدم القدرة على حمل السلاح أن نقاوم مقاومة فعالة.

في مؤتمر رابطة الشباب العربي المسلم في أمريكا شتاء 88، كان هناك علمان استقطبا الأنظار هما الشيخ راشد الغنوشي والشيخ عبد الله عزام. وبقدر ما كان الشهيد عبد الله عزام يشد القلوب بسمته وهيئته ولباسه الأفغاني وخطابه المفعم بالتحريض على الجهاد، بقدر ما كان الشيخ راشد لا يقل عنه شدا للأنظار والالتفاف بخطابه الذي يستفز مسلمات العقل الإسلامي وخاصة العقل الحركي المستسلم لوثوقية تقليدية في الفكر والعامل. وبقدر ما كان الاختلاف بين الشخصيتين بيّنا، بقدر ما كان الالتقاء بينهما على فلسطين لا يقبل الجدل. كانا يسيران في طريقين مختلفين ولكن لهدف واحد.. أن يأخذ القضية أصحابها.. لم يتحمل أعداء الأمة وجود عبد الله عزام حيا، وهو الذي قاد الجهاد الأفغاني من موقع متقدم، وقد بلغتهم استعداداته للتوجه لفلسطين فاغتالوه جسدا واستمرت روحه تحرض على الجهاد.. وبقي الغنوشي واقفا على ثغرته بتحرير العقل الإسلامي من مكبلاته. فقد كان قريبا في هجرته المفروضة من الفلسطينيين بكل أطيافهم وحركاتهم، ولعب دورا كبيرا في إعادة تشكيل الوعي المقاوم، بقدرته الكبيرة على الاستماع والحوار والكتابة والتوجيه. وأنتج نصوصا جذرت ما كان أسسه من مقولات وواكبت تحولات العالم وتحولات الساحة الفلسطينية وكان لسان دفاع لا يفتر وقلم نصح وتوجيه يبني ويثمر.

وعندما استلمت حركته الحكم أو شاركت فيه، وآخرها في موقع رئاسة البرلمان التونسي كانت قضيته المركزية حاضرة.. ناصرت غزة في كل معاركها مع المحتل، وزار وزير الخارجية في حكومة الترويكا الدكتور رفيق عبد السلام غزة مرفقا بوفد من المنظمات التونسية، وارتفع صوت الدفاع عن غزة وفلسطين في كل مؤسسة ومنبر دولي.

واليوم وهو في سجن الانقلاب، يرسل برسائل الدعم والمساندة للمقاومة التي أذهلت العالم، بإنجاز ما لم ينجزه العرب جميعا طيلة عمر الصراع الذي تجاوز القرن، ويحيي صمود أهل غزة وصبرهم ومصابرتهم.. ويدعو كل حرة وحر الى الوقوف نصرة لغزة وفلسطين.. وكله استبشار بل وثوق بوعد الله بنصر عباده.. "وكان حقا علينا نصر المؤمنين".

(لمقال منشور على صفحة الكاتب على فيسبوك)
التعليقات (1)