قضايا وآراء

انتهى الوهم وجاء زمن "الميلاد الجديد"

هشام الحمامي
عملية طوفان الأقصى
عملية طوفان الأقصى
عاشت المنطقة العربية طوال السنوات السبعين الماضية "حقبة أليمة"؛ لا يدري أحد ماذا سيكتب المؤرخون أصحاب القراءة الموضوعية والكتابة العلمية عنها، بعد مرور سبعين سنة أخرى من زمن جديد يولد الآن.

فمن المستحيل أن يتعرض مؤرخ أو مفكر لحقبة هذا الزمن الجديد إلا من بوابة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، والتي ستكون مركز الدائرة العربية الواضح للعيان في القرن الحادي والعشرين، كما سبق وكانت 5 حزيران/ يونيو 1967 م، طوال هذه الحقبة الأليمة، خطا فاصلا بين ما قبلها وما بعدها، في كتابات مؤرخين ومفكرين سياسيين كانوا هم أصلا ركنا ركينا في صنعها، وتهيئة كل أسباب حدوثها على المستويات كلها..  وهم وهي من جعل المنطقة العربية وشعوبها تعيش في "ذعر ساحق" من دولة بلا حدود وبلا تاريخ، تدعى "إسرائيل"، وأيضا من راعيها الرسمي في التاريخ الحديث (أمريكا).

* * *
من المستحيل أن يتعرض مؤرخ أو مفكر لحقبة هذا الزمن الجديد إلا من بوابة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، والتي ستكون مركز الدائرة العربية الواضح للعيان في القرن الحادي والعشرين، كما سبق وكانت 5 حزيران/ يونيو 1967 م، طوال هذه الحقبة الأليمة، خطا فاصلا بين ما قبلها وما بعدها، في كتابات مؤرخين ومفكرين سياسيين كانوا هم أصلا ركنا ركينا في صنعها، وتهيئة كل أسباب حدوثها على المستويات كلها

سبعون سنة من "الحرث" المقصود في الماء، حتى يبدو لمن يرى أن هناك شيء يجرى، وأن تلك "الضوضاء الصاخبة" إنما تخفي وراءها مخاضا عظيما، لميلاد سيغير وجه الحياة في المنطقة العربية بأكملها!

وكان كلما تململ أحد أو تشكى أحد، انهالت عليه ألوان التنكيل الرسمي ذائعة الصيت، ناهيك عن الألسنة الحداد من المنتفخين المنتفعين المنتعشين بأطايب الحياة المملوكية، بأنك "تشوشر" وتبلبل على خطط وخطى "النضال" الذي يسير في طريق الهدف العظيم، الذي سيبدأ بتحرير فلسطين، وينتهي بتحرير كل العالم من أغلال الاستعمار وأعوان الاستعمار.. هكذا قالوا وهكذا سمعنا، وما أكثر ما طافت بالرؤوس وقتها أوهام، وما أكثر ما انطفأت هنالك أحلام.

* * *

هذه الضوضاء الصاخبة، منحت الطبول الجوفاء "شرعية" طويلة مكنت الاستعمار وأعوان الاستعمار من أن يفعلوا بنا وفينا كل ما يحلوا لهم، فقط تم تكتيفنا بأيدينا، حتى يتسع الخرق والفتق فينا، بما لا يمكن بعده أي رتق أو تصليح.

وسيعصف اليأس بشاعر الحب والحنين الراحل نزار قباني (ت: 1998م) وسيقول قصيدته الشهيرة "متى يعلنون وفاة العرب":
لم يتكشف النظام العربي الرسمي فقط في حقيقة الأمر، بل وتكشفت أشياء كثيرة، أشد قيدا وإغلالا من ذلك النظام الرسمي الذي كان قد تكشفت قصته مبكرا، لكن المغالطة فن عتيق كما يقولون.. والمغالطة عادة تكون ممن يعرف الخطأ ويدركه، ويرى في استمراره مصلحة كبيرة له

أنا منذ خمسين عاما،
أراقب حال العرب،
وهم يرعدون، ولا يمطرون،
وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون،
وهم يعلكون جلود البلاغة علكا
ولا يهضمون..

* * *

نعم، وهذا ما جرى وكان.. لكن جاء الطوفان، وجاء معه "الميلاد الجديد" الذي كشف لنا كيف كانوا يرعدون ويعلكون، في "تعرية" أشد من عري الملك الذي رآه الطفل فصرخ قائلا: "إني أرى الملك عاريا"، رغم أن كل مستشاريه كانوا يمدحون ملابسه غير الموجودة أصلا! كما حكى لنا الكاتب الدانماركي كريستيان أندرسون (ت: 1875م) في حكاياته الجميلة.

لم يتكشف النظام العربي الرسمي فقط في حقيقة الأمر، بل وتكشفت أشياء كثيرة، أشد قيدا وإغلالا من ذلك النظام الرسمي الذي كان قد تكشفت قصته مبكرا، لكن المغالطة فن عتيق كما يقولون.. والمغالطة عادة تكون ممن يعرف الخطأ ويدركه، ويرى في استمراره مصلحة كبيرة له.

* * *

يقولون إن من طلب شيئا، وسعى له حق السعي، أدركه وحصل عليه.. وإن لم يحصل عليه، أوشك أن يكون قريبا منه..

وهذا ما حدث في "الطوفان"، وكلنا رأينا وسمعنا من الشواهد والأدلة على ذلك، ما يكفي لتعليم نصف سكان الأرض وإيقاظ النصف الآخر.. وهذا هو "بيت القصيد" في هذا المشهد الذي رأيناه ونراه.

لقد عانق العالم بعينه كل ما لم يكن ممكنا أبدا أن يراه.. ولقد تعلم الناس في الأرض فعلا، واستيقظ الناس في الأرض فعلا.. من جنوب أفريقيا إلى لاهاي إلى أمريكا اللاتينية، لكن الأهم أولئك "المستعبدون" في أوروبا وأمريكا، لقد أفاقوا!

عانق العالم بعينه كل ما لم يكن ممكنا أبدا أن يراه.. ولقد تعلم الناس في الأرض فعلا، واستيقظ الناس في الأرض فعلا.. من جنوب أفريقيا إلى لاهاي إلى أمريكا اللاتينية، لكن الأهم أولئك "المستعبدون" في أوروبا وأمريكا، لقد أفاقوا
وها هي الدنيا كلها تتحدث عن الضابط الأمريكي الذي حرق نفسه في 25 شباط/ فبراير، أمام سفارة إسرائيل في واشنطن، وهذا مقدمة فقط مما سيأتي بالأشد والأوجع.

* * *

لكن هل سيغيب العالم العربي والإسلامي عن هذا التعلم وتلك اليقظة؟ هذا ما يمكننا أن نتطلع إليه بقوة من معنى "الطوفان"، وما ذكره لنا الأستاذ الكبير فهمي هويدي حين قال إن ما حدث يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر "سعى بشري وتوفيق إلهي".. وهو الذي كان في حقيقة الأمر ينظر إلى ذلك اليوم نظرة فاحص كبير حكيم، عاش حياة عريضة كثيفة، مليئة بالخبرة والوعي والنظر الثاقب البصير، فاختصر العبارة وأوجز الإشارة وقال المعنى كله.

* * *

رأينا "السعي البشرى" في أقصى مدى يمكن أن يكون، ورأيناه كيف كان طوفانا، كسح ومسح كل "الأوهام" من الجيش المقهور (إسرائيل)، إلى الراعي المذعور (أمريكا).. ورأينا "التوفيق الإلهي" في كل لحظة وساعة ويوم.. وكأنه كانوا وينتظرونه وينتظرهم.. وعلى موعد كانوا له وكان لهم.. ورأينا صبرا وعزما واحتمالا من أهلنا في غزة بما لا يوصف ولا يُنسى، صبرا تطاول إلى ما فوق قوى البشر، وقدرة البشر، ووعي البشر.

وصدق من قال: لا شيء يربط بين الناس كما تربط بينهم ذكرى آلام عاشوها معا، واجتازوها معا، وعاشوا بعدها معا، ليوفوا أجورهم، إن شاء الله العلي الأعلى، بغير حساب، صدقا وعدلا.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)