قضايا وآراء

نزع الملكية الخاصة.. التاريخ العربي القديم والحديث

حسين عبد العزيز
أقرت نصوص الشريعة الإسلامية الملكية الفردية وأكدتها على أن تكون منسجمة مع مصلحة الجماعة، لكن التاريخ الإسلامي المتأخر حاد عن هذا المبدأ..
أقرت نصوص الشريعة الإسلامية الملكية الفردية وأكدتها على أن تكون منسجمة مع مصلحة الجماعة، لكن التاريخ الإسلامي المتأخر حاد عن هذا المبدأ..
في أثناء زيارته إلى فلسطين، كتب الرحالة الأندلسي ابن جبير في كتابه "رحلة إلى الشرق" في القرن الثاني عشر؛ "إن المسلمين يفضلون العيش تحت سلطة الكافرين؛ لأن هؤلاء يتصرفون بإنصاف".

وفي القرن نفسه، كتب ابن رشد؛ "إن الناس في كثير من الممالك الإسلامية صنفان: صنف يعرف بالعامة وآخر يعرف بالسادة، وفي هذه الحال يسلب سادتُهم عامتهم، ويُمعن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا إلى التسلط، كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه".

بعد أكثر من قرنين، كتب ابن خلدون "ثم إن كل طبقة من طباق (طبقات) أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق، وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفا في من تحت يده على قدر ما يستفيد منه.

والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش؛ ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه: فإن كان متسعا كان الكسب الناشئ عنه كذلك، وإن كان ضيقا قليلا فمثله.

والجاه بهذا المعنى يسري في جسم المجتمع من أعلى إلى أسفل، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل وعلى مستوى الطبقات كذلك".

وقد شخّص ابن خلدون أسباب هذا الوضع، بقوله؛ إن "التنكيد بالملكية الخاصة، يقتل في الناس الإرادة على الكسب الإضافي، وذلك بدفعهم إلى الفزع مـن أن تلاقي جهودهم السلب مصيرا".

كتب ابن خلدون هذه العبارات بسبب استيائه من الأذى الذي تعرضت له الملكية الخاصة، فهو يعتبر أن هذه الملكية تشكل حافزا فرديا للنشاط الاقتصادي وللمجتمع المدني، وأن نزع الملكية أشبه بعملية انتحار ذاتي وجماعي، وشكل من أشكال تخريب وخراب اقتصادي.

من وجهة نظر عالم السوسيولوجيا الإيطالي لوتشانو بليكاني، لم يكن سلوك الأسياد المسيحيين محكوما بقانون أخلاقي متفوق على المسلمين، وكل ما في الأمر أنهم حكموا بإنصاف؛ لأن أوروبا خلال مرحلة الإقطاع، أصبحت بسبب الصراعات الداخلية العنيفة مجتمعا موزعا للحقوق.

ويتابع بليكاني؛ إن هذا هو السبب الذي سمح لأوروبا الغربية بخلق النمو الاقتصادي ومأسسته وبنشوء مجتمع مدني برجوازي، في حين عجزت الحضارات الشرقية الكبرى عن السير في ركاب النمو.

على مدار التاريخ، كانت الملكية الخاصة حجر الزاوية في الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وكلما كانت الملكية الخاصة مستقرة وغير مهددة، كان المجتمع أكثر استقرارا، في حين يعد غياب مفهوم الملكية الخاصة سببا للتوترات الاجتماعية والاضطرابات السياسية.

وقد كشف فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السابع عشر، أن ارتباط الملكية بظهور الدولة كمنظومة سياسية، يعد فكرة محورية.

إن المفهوم المزدوج لسمو القانون وسمو الجماعة في القرون الوسطى، كان يحد بشكل طبيعي تماما من السلطة الملكية، وقد توق هذا التحديد بشكل خاص، بالفكرة التقليدية الآتية من ميثاق أو عقد موجود بين الملك والجماعة، ومعبر ضمنيا عن سمو الجماعة.

ومع تطور النظام الإقطاعي الذي يسيطر عليه الطابع التعاقدي للالتزامات بين السيد الإقطاعي والمزارع التابع له، ازدادت أهمية هذا القسم؛ فعند كل درجة من درجات التسلسل الإقطاعي، كان القسم بالطاعة يؤدى مقابل إعطاء ضمانة، والوفاء بالوعد حسب ما بين جان جاك شوفالييه.

أشار جون لوك إلى أن السبب في تكوين الأفراد للمجتمع، هو رغبتهم في الحفاظ على الملكية، وهذه نقطة محورية في فلسفته، إذ يعتبر أن حق الملكية هو الحق المؤسس للحقوق الأخرى كافة، هو حق طبيعي لا يمكن انتزاعه من الفرد.

الملكية البشرية من أي نوع، بما فيها ملكية الأشياء التي لا يمكن المساس بها على الإطلاق، تعتبر مجرد ملكية مجازية وغير حقيقية في نهاية الأمر، وهي، في أفضل الأحوال، مشتقة من الملكية الأصلية ذات السيادة.
انطلاقا من هذا الأساس الفلسفي، قدم آدم سميث أفكاره الرئيسية حول النظام الرأسمالي، واعتبر أن ملكية الإنسان لناتج عمله تمثل أصل كل الحقوق الأخرى.

أقرت نصوص الشريعة الإسلامية الملكية الفردية، وأكدتها، على أن تكون منسجمة مع مصلحة الجماعة، لكن التاريخ الإسلامي المتأخر حاد عن هذا المبدأ، وهو ما بينه كل من ابن رشد وابن خلدون.

وباسم هذه المصلحة الجماعية، كتب وائل حلاق في كتابه "الدولة المستحيلة" أن "الملكية البشرية من أي نوع، بما فيها ملكية الأشياء التي لا يمكن المساس بها على الإطلاق، تعتبر مجرد ملكية مجازية وغير حقيقية في نهاية الأمر، وهي، في أفضل الأحوال، مشتقة من الملكية الأصلية ذات السيادة".

وبحسب حلاق، يفسر هذا، تشريع الإسلام الاهتمام بالفقراء على أنه حق لهم في أموال الأغنياء، حيث إن ثروة هؤلاء هي ملك لله.

غير أن هذه الصيغة الإنسانية أخذت منحى آخر، قائم على سلب الملكية الفردية لأسباب عديدة، منها أن عقل الغنيمة ظل سمة أساسية في العقل السياسي ـ الاقتصادي العربي منذ الفتوحات الأولى، في وقت لم ينشأ مجتمع مدني برجوازي قوي، أو طبقة أرستقراطية قوية قادرة على الوقوف في وجه السلطان ووزرائه، كما كان الأمر في أوروبا، حيث شكلت الطبقة الفيودالية في العصور ذاك التوازن والجدار المنيع الذي منع سلطة الملوك من أن تتحول إلى ملكية مطلقة.

يشكل النموذج السوري مع سلطة البعث مثالا حيّا لظاهرة انتهاك الملكية الفردية، وعلى الرغم من أن انتهاك الملكية الفردية / الخاصة سمة واضحة خلال الحروب، إلا أن بشاعتها وقسوتها كانت أكثر وضوحا في سوريا.

وقد تنبهت ليلى فيغنال في دراسة لها حملت عنوان "الأماكن التي تعرّض أهلها لنزع الملكية خلال الحرب في سوريا"، وترجمها مركز حرمون، أن ضخامة ظاهرة نزع الملكية في سوريا لم تكن نتيجة حتمية للحرب والدمار، إنما كانت نتيجة لعمليات متعددة الأوجه، سببها الاختلاف في استراتيجيات الجهات الفاعلة في زمن الحرب.

اعتمد النظام السوري منذ البدء استراتيجية تدمير الممتلكات الخاصة للمعارضة، لما تعنيه من قتل للكينونة الاجتماعية والاقتصادية للإنسان، ودفعه إلى حافة العدم، عندما يتم تدمير ممتلكاته الخاصة.

كان الهدف الأساسي هو دفع الناس المعارِضة إلى الخروج من البلاد، وعدم التفكير في العودة إليها، ولم يكن عبثا ما قاله بشار الأسد: "فقدنا أفضل شبابنا، لكننا في المقابل اكتسبنا مجتمعا أكثر صحة وتجانسا".

*كاتب وإعلامي سوري
التعليقات (0)