مقالات مختارة

عسكرة الاقتصاد العربي

فايز الفايز
1300x600
1300x600
لم يعد غريبا ولا عجيبا -ولا حتى مرفوضا- ما يجري من صفقات سلاح تقتل ولا تنتج رغيف خبز في بلاد العرب، تماما كما يفعل عدد من كبار أثرياء العرب، من تبذير مخيف للأموال مقابل متع حياتية آنية أو مصروفات عائلية، حتى باتت صورة العربي في العالم تتأطر بذلك الأعرابي الساذج الذي لا يعرف كيف يتأنق بينما يطوق معصمه بساعة يد يبلغ سعرها ملايين الدولارات وهو لا يقدّر ثمن الوقت، أو يقود سيارة مطلية بالذهب، وهو لا يعرف آداب السواقة، فيما الإنفاق العسكري فاق كل تصور وقبول، وبلا طائل.

لم يعد يذكر التاريخ أسماء عربية غيرت وجه العالم، ورفعت الأمة الإسلامية فوق الأمم، قوة عسكرية ومعنوية، وواقعا علميا وثقافيا ووحدويا، فالمسلمون الذين أدخلوا الحمّامّات إلى أوروبا والهندسة والعمّارة وآداب السياسة، لم نعد نسمع عن شخصية فيها تولت مهمة بناء صروح علمية أو تأسيس مدينة طبية متكاملة للبسطاء أو مدن جامعية لتدريس وتدريب الشباب، كل ما هنالك أسماء تتصدر قائمة أغنياء العالمين الأجنبي والعربي بروح التنافس لكنز الثروات، ثم يموتون عنها.

فن الكراهية لم يكن يوما ما من إرث المسلمين، بل تمت صناعته على أيدي الأنذال من عملاء بلاد الأعداء في صدر الإسلام، وكلما قامت خلافة راشدة وألغت كل تلك الفوارق والحساسيات والكراهية، خرجت فئة لتغرس بذور الفرقة بين العرب والمسلمين، حتى قبيل انهيار الخلافة العثمانية إثر مؤامرات الدول الاستعمارية الكبرى آنذاك، فكانت حروب الدروز والمسيحيين المارونيين في جبل لبنان منتصف القرن التاسع عشر، وكان مسلمو الشام ودمشق خصوصا هم الموئل للمسيحيين وحماة للعائلات، وحاجزا بين المتقاتلين، ثم في أقل من قرن على ذلك بدأت الحضارة العربية بالتقهقر، وتلاحق كل قوم بما وجدوا من أرض ليحكموها ويعيشوا بها.

عندما نستعرض واقع الحال في البلاد العربية التي أهلكتها الحروب ودمرتها الصراعات، وأفقرتها الديون، وبات العديد منها مرهونا بالكامل سياسيا واقتصاديا لصناديق الإقراض الدولية التي تتخذ أسماء برّاقة، نجد أن مستقبل الشعوب العربية يبدو كارثيا، ليس داخل كل بلد، بل وعلى الدول المحيطة، فرغم كل ما جرى على الدول التي بات الجميع يعرف مصيبتها، سيكون الخطر الكبير أكبر مما نتخيل في ظل ولادة جيل سيعرف كم كان العرب يكذبون على بعضهم، ويتآمرون ويتحاسدون، ويتركون الشعوب تقتل على أيدي سفلة فجرة، وثرواتهم تنهب، ثم لم ينجدهم أحد، وهم مشتتون ومهجّرون داخل بلادهم وخارجها.

هل يعقل في غضون أربع سنوات أو أقل تخرج علينا مؤسسة الأمم المتحدة البائسة لتنادي لنجدة مليوني مواطن ليبي يعانون أشد ظروف الفقر والمرض، في بلد لا تزال مليارات القذافي وعائلته وعصابة الحكم فيه مرصودة في بنوك حول العالم، وهل يعقل أن يصرف على الأسلحة والذخائر مليارات الدولارات لدعم الفرقاء السياسيين وتشكيل جيوش متعددة وميليشيات، بعدما اتفق الجميع على دولة ليبية موحدة وانتخبوا مجلس حكم انتقالي بطريقة ديمقراطية، نتج عنه استتباب مؤقت للأمن والسلام، فأين ليبيا المال والرجال، لقد باتت مهددة بالضياع كالعراق تماما، تماما كما هدد سيف القذافي الذي قد يعود ليحكم ليبيا من جديد، بعدما رأينا كل هذه الدماء والخسائر.

لا يمكن إحصاء خسائر العرب المالية والاقتصادية خلال نصف قرن على الأقل، فرغم النفط المتدفق والثروات المعدنية والميزانيات الضخمة التي رصدتها الدول في ظل عصر النهوض المالي، لم يستطع أو لم يرد العرب أن يصنعوا وحدة اقتصادية متكاملة على الأقل لحماية ثرواتهم، فبددت جميع الدول ترليونات الدولارات على أسلحة لم نرها إلا في السنوات الأخيرة، بداية ومنتصف التسعينيات في عراق صدام حسين، وبعد ثورات الربيع العربي، وكل سلاحنا قتلنا به بعضنا، فيما عائلات مصانع الأسلحة تروج لنا بضائعهم الشريرة، وهذا بات يهدد الوضع المالي لأغنى دول العرب للأسف.

لا يمكن للبلاد العربية أن تبقى مكتوفة الأيدي وتكتفي بالمراقبة من بعيد، متوجسة مما سيأتي به القدر، فما يحدث اليوم وما تكشفت عنه نوايا الدول العظمى كروسيا والولايات المتحدة وأوروبا، من تغليب لمصالحها على استتباب الأمن والاستقرار في الشرق العربي، وإعادة هيكلة التحالفات مع إيران ودفع تركيا للتطبيع مع روسيا وإسرائيل، يجب أن يكون صفعة قوية ليستيقظ جراءها المسؤولون العرب، لوقف كل الخلافات الإقليمية، والالتفات للداخل وضبط إنفاق المجتمع، وإيقاف هذا الهدر الكارثي لخدمة الميزان العسكري القاتل وعسكرة الاقتصاد، فالعرب بحاجة إلى ثورة جديدة على ثرواتهم، لتوجيهها نحو خدمة المصالح المدنية الحضارية والإنسانية، وحماية مستقبلهم لا بالتبذير والكراهية والحروب، بل بالعلم والتنمية البشرية والاقتصادية لا التنمية العسكرية، فالعالم أدار ظهره لنا، فإلى متى نبقى نلهث وراءه دون أي تعاطف معنا.

الشرق القطرية
0
التعليقات (0)

خبر عاجل