كتاب عربي 21

بين ناجي العلي والقضية.. "دفن أمانة"

طارق أوشن
1300x600
1300x600
رئيس التحرير: مين هذا؟

ناجي العلي: ولد.

رئيس التحرير: أنا عارف أنه ولد.

ناجي العلي: حنظلة..

رئيس التحرير: وليش داير ظهره للناس؟

ناجي العلي: من يوم ما خرج من فلسطين وهو عم يطلع عليها. علشان الناس دايرة ظهرها لفلسطين صار بيتهيأ لك إنه داير ظهره للناس.

رئيس التحرير: فكرة عظيمة بس لازم نشرحها للقارئ..

هكذا ولد حنظلة ليمثل الضمير الحي للقضية، وولدت معه شخصيات الرخويات دليلا على العجز والمهانة والاستكانة، التي تطورت مع الزمن لتصير عمالة وخيانة.

ناجي العلي: حنظلة حارس على فلسطين.. ما بيخاف وما بيجامل.

سعاد: وما بيكبر؟

ناجي العلي: خرج من فلسطين وعمره عشر سنين بس بيرجع يرجع يكبر. برات فلسطين العمر مش محسوب.

سعاد: والرخويات ايلي واخدين شكل رجال؟

ناجي العلي: هدول رمز لقيادات عربية وفلسطينية.

والمشهدين من فيلم (ناجي العلي - إنتاج 1992) لمخرجه عاطف الطيب.

في لندن كان لكاتم الصوت، الذي كثيرا ما استلهمه ناجي العلي في رسوماته رديفا للغدر والخيانة، الكلمة الفصل في مسيرة فنان آمن بالحرية والاستقلالية نهجا، واستطاع بريشة وقلم أن يؤثر في وجدان شعب وتاريخ قضية في مواجهة حملات التضييق والمصادرة والمنع.

في مثل هذه الأيام من السنة القادمة ستمر ثلاثون سنة على حادث الاغتيال، لكن حنظلة لا يزال حتى اليوم يتنقل بين صفحات الجرائد العربية وغيرها، مذكرا بالتغريبة الفلسطينية من أيام النكبة إلى صراع "الأشقاء" بدعم "الأشقاء" على كعكة "سلطة" وهمية أريد لها أن تنهي تاريخا من النضال المشرف في الداخل وفي مخيمات الشتات. قتل ناجي العلي، وتوزعت التهمة بين الموساد وبعض من "الرخويات"، ودفن الرجل "دفن أمانة" بعد أن اجتمعت قيادات فلسطين والكيان الصهيوني على منع دفنه بقريته الأصلية وبمخيم عين الحلوة الذي آواه صغيرا، ولم يحتمل "صانعو" القرار الفلسطيني أن يأوي جثمانه أو التمثال المجسد له، حيث لم يمر على وضعه بمدخل المخيم غير أيام حتى فجره "مجهولون".

في بريطانيا دفن ناجي العلي "دفن أمانة"، وفي ما تبقى من فلسطين يسابق المتاجرون بالقضية الزمن، وفق ترتيبات مع الكيان المحتل وتوصيات دول الطوق والجوار؛ لدفن القضية نهائيا، والاكتفاء بما جادت به اتفاقيات أوسلو من أمتار مربعة مقسمة بين حروف الأبجدية ألفا وباء وجيما.

فبعد سنوات من "دفن الأمانة" بمختلف العواصم العربية، يبدو أن الاتجاه الإقليمي والدولي سائر في طريق "إقبار" القضية الفلسطينية على يد "أبنائها"، بعد أن صارت مدن وعواصم بلدان المنطقة مجرد مقابر جماعية لأبنائها الذين ارتكبوا خطيئة إعلان العصيان واتخاذ "الثورة" سبيلا لتحقيق الحرية والكرامة كما بدأها الثوار الفلسطينيون منذ عقود.

دول المنطقة وعواصمها، التي يتهمها محمود عباس بالتدخل في الشأن الداخلي لسلطته، لم تعد تملك القرار لاستضافة "دفن الأمانة" على أراضيها، ولم تعد لجيوشها عقيدة الدفاع عن المقدسات وتحرير فلسطين كما كانت تتغنى الأبواق الدعائية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. الجيوش العربية مشغولة بتأديب "أهاليها" في كل بقعة من بقاع الجغرافيا المسماة "وطنا عربيا".

السكير: معاك ولعة؟

ناجي العلي: انت ليش برات الملجأ؟

السكير: و ايش معنى انت؟ قل لي: هي الجيوش العربية مش حتيجي؟

ناجي العلي: الجيوش العربية مش فاضية.

السكير: ليه؟ بيحاربوا في حتة ثانية؟

ناجي العلي: اه.

السكير: معاك ولعة؟

كان هذا مشهدا من فيلم (ناجي العلي) إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وما ووجه به من مقاومة ظن خلالها بعض "الحالمين" أن الجيوش العربية ستنتفض لنصرة بلد شقيق ومقاومة باسلة كما كانت تتغنى به الأناشيد الثورية والأغاني الحماسية.

اجتاحت قوات الجيش الإسرائيلي المدن والمخيمات، وخرج أهاليها رافعين الراية البيضاء، مكدسين في أماكن تجميع. وفي أحدها يتواصل الحوار..

السكير: تفتكر أن الوقت فات..

ناجي العلي: على ايش؟

السكير: على أنهم يتنيلوا على عينهم وييجوا بقا.

ناجي العلي: بطل تحلم وتعال نقعد.

لكن السكير (الذي جسده محمود الجندي) ظل مؤمنا بأن العرب سينجدونه ويفكون أسره فانتفض في وجه جنود الغزو..

السكير: حتيجي الجيوش العربية.. حتيجي وحتمسحكم مسح يا أولاد الكلب..

وكان الرد رصاصات أردته "شهيدا" على مرأى ومسمع من العالمين عربا كانوا أو عجم.
لم يكن الأمل في نجدة العرب لإخوانهم الفلسطينيين وهما اقتضته لحظة "سكر"، بل كان أملا معقودا لدى أولى طلائع اللاجئين من مسقط رأس ناجي العلي قبل أن تتوارثه الأجيال اللاجئة من بلد إلى بلد ومن مخيم إلى مخيم.

أبو ناجي: وكالة الغوث ما أرسلت بطاطين حتى هلا. شو معناها هاي؟

شيخ: خلاص ما في حرب.

أبو ناجي: كل هاي الجيوش ما قدرت على شوية صهاينة.

شيخ: يا عمي والإنجليز وعصبة الأمم.

أبو ناجي: لازم ندخل جوه ونحارب بايدينا.

شيخ: ما راح نقدر عليهم.

أبو ناجي: بس أكيد الجيوش العربية راح ترجع وتحارب. هو معقول تخلينا هيك بين السما والأرض؟

التاريخ يؤكد أن الجيوش المأمول تدخلها تركت اللاجئين مفترشين الأرض وملتحفين السماء. وبعد عقود من التيه في أرض الله الواسعة عاد بعض من أبناء وأحفاد اللاجئين الأوائل إلى الداخل الفلسطيني لا ليحابوا بأيديهم كما كان يأمل أبو ناجي بل لتأسيس "سلطة" وهمية بوزارات وإدارات وشرطة ومقرات أمنية ومراكز اعتقال. كل ذلك بتنسيق أمني وترتيبات مع عدو صارت مؤسسات السلطة حارسا أمينا ل"حدوده". صنعوا كيانا إداريا برئيس وحكومتين ومجلس تشريعي أعضاؤه إما مسجونون أو ممنوعون من التنقل الحر، واعتمدوا في التعيينات على الانتماء والولاء الفصائلي الذي يسمو عن الولاء للوطن. هكذا صفيت الرموز وسيطرت "الرخويات" من المتهافتين على المناصب والمتنطعين ومدعي المعرفة والثقافة و.. النضال.

لأجل ذلك، انتقلت فوهة البندقية من التصويب في اتجاه إسرائيل ومصالحها إلى التنكيل بالغريم الفصائلي، وصار الفلسطينيون يسقطون على أيدي رفاق الأمس ويسجنون. وأصبح الصوت المعارض لتوجهات الحاكمين على الأرض نشازا غير مرغوب فيه، والحجة: المرحلة الدقيقة التي تمر منها القضية.
ناجي العلي..

ناجي العلي: كنا بنقول إيه؟

المسؤول الفلسطيني: احنا لسه مقلناش حاجة.

ناجي العلي: كلي آذان..

المسؤول الفلسطيني: انت عارف طبعا قديش أنا بحبك وباحترمك وباعتز فيك كإنسان وكفنان، لكن خليني أقول لك بصراحة الأيام الأخيرة انت زودت العيار حبتين خصوصا وأن القضية بتمر بمرحلة دقيقة يا أخي.

ناجي العلي: أي قضية؟

المسؤول الفلسطيني: ناجي، أنا بتكلم جد.

ناجي العلي: أنا كمان أتكلم جد. أي قضية تقصد؟

المسؤول الفلسطيني: احنا ما عندنا غير قضية واحدة. قضية وطننا يا أخي.

ناجي العلي: و هلأ وصلت على ايديكم لغاية وين.. يا عم أنا راجل غلبان كل ايلي بأملكه ورقة بيضاء وريشة.. سيبوني أرسم. ما بدكم أرسم؟

المسؤول الفلسطيني: بالعكس. بدنا ياك ترسم وتكتب كمان إذا حبيت لكن.. لازم تعرف يا ناجي أننا عم نشتغل بظروف صعبة بتفرض علينا مسؤوليات كبيرة وخطط استراتيجية يمكن مش واضحة إلك بالشكل الكافي.

ناجي العلي:  وإيه ايلي مطلوب مني؟

المسؤول الفلسطيني: شيء بسيط في اعتقادي أنه قومي وضروري بالمرحلة هاي.. قليل من الانضباط يا أخي. أعداءنا بيستغلوا رسوماتك. احنا عارفين أنك فنان والفنان من غير حرية ولا شيء. إنما للحرية حدود.

ناجي العلي: شو قصدك بالحدود؟

المسؤول الفلسطيني: نقدك للأوضاع الداخلية يا أخي. خلافاتنا ومشاكلنا لازم تضل جوات البيت.

ناجي العلي: أي بيت؟ هاي العبارة ايلي اخترعتوها حتى تمرروا كل ايلي بدكم تمرروه من غير ما حدا يناقش أو يعترض. خليني أقول لك حاجة يا صاحبي.. ها البيت لو ما دخلو الشمس والنور ح تعشش فيه العناكب والخفافيش ويتحول لمقبرة انتم حراسها. الحرية حلوة.. والله والله ما ترجع فلسطين من غير حرية.. 

كان هذا كلام ناجي العلي المدفون "دفن أمانة" هناك بعيدا عن فلسطين، التي "صارت بعيدة واحنا ايلي بعدناها" كما جاء على لسان المقاتل سليم في مشهد آخر من مشاهد (ناجي العلي) - الفيلم.
يا ليت قومي يسمعون ويعقلون.
التعليقات (0)