قضايا وآراء

في ذكرى هجمات 11 سبتمبر

محمد مالكي
1300x600
1300x600
لم تكن الذكرى الخامسة عشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 لهذا العام مختلفةً عن سابقاتها، من حيث استحضار الخسائر الجسيمة التي مُنيت بها الولايات المتحدة الأمريكية، والإرادة والعزيمة لمقاومة "الإرهاب الدولي" كيفما كان وأينما كان. بيد أن ذكرى هذه السنة (2016) اكتست طابعاً مميزاً لاقترانها بسياق السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، وتفاقم عمليات الإرهاب والعنف في أكثر من منطقة في العالم.

تكاثرت، كما هو معروف، رواياتُ تفسيرِ أسباب الهجمات ومسارها، وهوية منفذيها، والأبعاد والمقاصد منها، كما تمّ حصر الكُلفة البشرية والمادية الناجمة عنها. فالأحداث التي خلفت 3000 قتيل، و6000 مصاب، و75000 يعانون من أمراض ناتجة عن استنشاق دخان الحرائق والأبخرة السامة، استهدفت بشكل رئيسي رموز القوة الأمريكية وأعمدتها الاقتصادية والمالية والتجارية، كما سعت إلى كسر شوكة أمريكا وجرح كبريائها، وزرع روح الرعب والخوف في النسيج العام لمجتمعها. لكن فتحت الهجمات، بالمقابل، طريقاً جديداً لم تتوقف مسافاته بعد، إنه طريق إعلان الحرب على "الإرهاب الدولي"، بدايةً  من "أفغانستان"، ومروراً بالعراق وسوريا وليبيا، ولا يظهر على وجه اليقين متى ستكون النهايةُ، وأين ستحط رحالها؟

كشفت أدبيات كثيرة، بأقلام أمريكية وأجنبية، كيف بدأ إعداد المجتمع الأمريكي لتقبُّل مشروع ما سمي "المحافظون الجدد"، وإستراتيجيتهم في إدارة العالم، لاسيما مع نهاية حكم "كلينتون" (1993 ـ 2001)، وعودة الحزب الجمهوري على عهد "جورج بوش الابن" (2001 ـ 2009). والحقيقة أن تصورات نوعية تراكمت مع العُشرية الأخيرة من القرن العشرين، صبّت في مجملها في اتجاه تضخيم "الذات الأمريكية"، والدفاع عن أن على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية كُبرى لإدارة العالم والإشراف على صناعة سياساته، وقد لعب صقور تيار "المحافظون الجدد"، أدواراً مركزية في التعبئة النفسية والذهنية للمجتمع الأمريكي للانخراط الطوعي والإيجابي في التوجهات الجيواستراتيجية الجديدة. لذلك، يبدو من السليم والصائب منهجيا عدم فصل وقوع الهجمات عن هذا السياق وأبعاده.

ففي الواقع ثمة سلسلة من الوقائع والتطورات يتوجب الاستعانة بها لفهم مصادر وقوع هجمات 11 سبتمبر وآفاقها. فمن جهة وقع في نهاية الثمانينيات اختلال على صعيد التوازن الدولي، نتيجة تفكك المنظومة الاشتراكية (الاتحاد السوفييتي سابقا)، وانهيار "جدار برلين"، بكل ما كان يحمل من رمزيات إيديولوجية وسياسية. ومن جهة أخرى، تواترت موجة من "التبشير" بأن العالم أصبح أحاديَ القطبية، وأن كافة دوله ومجتمعاته ستنصهر في المنظومة الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شاعت هذه التصورات خلال الولاية الأخيرة من حكم الرئيس "بيل كلينتون"، ووجدت فرصةً للتطبيق عند عودة الحزب الجمهوري بقيادة "جورج بوش الابن"، مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.  

لابد من التأكيد بأن هجمات 11 سبتمبر كانت  إرهابيةً، باعتراف زعيم القاعدة "أسامة بن لادن" نفسه، وأنها كانت ضد منطق العقل والمنطق، وأنها وفّرت المبررات المطلوبة لتغوّل الولايات المتحدة، وشحذ التأييد حول إستراتيجيتها الجديدة. ومن المؤكد أن المحافظين الجدد وجدوا فيها الفرصة السانحة لتطبيق آرائهم وأفكارهم وفلسفتهم دون هوادة ولا تردد. لكن من الأكيد أن التصورات الجديدة التي اعتمدت أحداث 11 سبتمبر  أساساً لإطلاق إرادتها، أخطأت التقدير في موضوع محاربة الإرهاب، والسعي إلى القضاء عليه في أصوله وجذوره، وقد أكدت الوقائع على الأرض أن الواقع عنيد، ومعقد، وليس نسخة مطابقة لما وقع تصوّره نظرياً وسياسياً.

لنبدأ بحالة "أفغانستان" وإسقاط حكم "طالبان"، ونتساءل كم كانت الكلفة البشرية والمادية، وهل قضِيَ على الإرهاب، بحسبه تدميرا للحياة بغير حق؟ لا شك في أن الإجابة سلبية، أي أن الكلفة باهظة جدا، وأن الإرهاب ظل مستمراً وحياً يُرزق.. ففي أجواء استحضار الذكرى الخامسة عشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر طلع "أمين الظواهري" بتصريح مفاده أن "أمريكا مازالت مهددة في أمنها في كل وقت، ويمكن أن تُضرب أراضيها من الداخل أو الخارج". أما إذا انتقلنا إلى حالة العراق، فالوقائع أكثر تعبيراً ودلالة عن استعصاء القضاء على الإرهاب، والظفر بقيادة العالم من قبل أمريكا. 

صحيح أن أمريكا أبادت العراق دولة ومجتمعا، وبثت روح الطائفية والمذهبية والفتن الداخلية، غير أنها فشلت، بالمقابل، في إعادة بناء العراق الجديد الديمقراطي الذي بشّرت به إدارة "بريمر" عند سقوط بغداد في ربيع 2003. فالعراق اليوم، باعتراف أبنائه الأشد معارضة لنظام البعث، فَقد هويتَه، وروحَ مواطنة مكونات مجتمعه، ولا يعرف على وجه اليقين متى ستتوقف مأساته. ثم إن الإرهاب ظل مستمراً، بل ظهر إرهاب جديد أكثر قسوة من سابقه، اكتسح أجزاء كبيرة من التراب العراقي، وامتد إلى سوريا، إنه إرهاب "تنظيم داعش"، الذي يروم تأسيس دولة الخلافة في مشرق الوطن العربي ومغربه. ومن المفارقة أن تظهر الولايات المتحدة الأمريكية، قائدة التحالف الدولي ضد الإرهاب، حائرة إن لم نقل عاجزة أمام هذا التنظيم وتصاعد عملياته الإرهابية. والأمر نفسه يجري منذ سنوات في سوريا، التي هجرها ثلث سكانها، وقُتل الآلاف من أبنائها، وتحولت مدُنها وحواضرها إلى ما يشبه الخراب.

 ربما يكون درسُ الدروس المستخلصة من استحضار ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر أن المقاربة المعتمدة لفهم مصادر الإرهاب والقضاء عليها غير سليمة، وأن الحاجة ماسة إلى معالجة جديدة أكثر فعالية ونجاعة وتوازنا. كما أن التبشير بقيادة العالم من قبل دولة واحدة، مهما كانت قوتها وإمكانياتها، لم يعد مقبولاً ولا قابلا للتحقق.. فالواقع الدولي متعدد ومركب بطبيعته، وصناعة سياساته تحتاج إلى مسؤولية جماعية، وأدوار متكاملة.. إنه الأفق الممكن لتجنب مأساة الحادي عشر من سبتمبر 2001.
التعليقات (0)